2011/12/26

مصطفى عبدالله وأيام فى تونس مع ثوار سيدى بوزيد


إطلالة على الساحة
أيام فى تونس مع ثوار سيدى بوزيد
مصطفى عبد الله

بعد سبع ساعات، ما بين تحليق فوق السحاب، وطى للطريق على سطح الأرض، وصلت قبيل منتصف ليلة 16 ديسمبر الحالى إلى هذه البقعة التى شهدت إضرام محمد بوعزيزى النار فى جسده أمام مقر ولاية سيدى بوزيد فى تونس كى يستحيل إلى نور من بين رماد يضيئ ظلمة غشيت عالمنا العربى إيذاناً ببزوغ فجر جديد.
جئت إلى هذه الأرض لكى أنضم إلى أسرة بوعزيزى وأشد على يد شقيقتيه: الكبرى "سامية"، والصغرى "بسمة"، وهما تشهدان إزاحة الستار عن صورته الضخمة التى ترتفع فى ميدان الشهيد، والنصب التذكارى الذى يخلد لحظة انتحاره وتتناثر فيه أجزاء عربة الخضروات التى كانت تجلب لهم قوت يومهم.
لم أتردد لحظة فى تلبية دعوة عبدالوهاب جلالى، باسم لجنة الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة 17 ديسمبر 2010 بسيدى بوزيد، أنا وصديقى الشاعر الفذ جمال بخيت، ونيفين شلبى، مخرجة فيلم "أنا والأجندة" بجزئيه عن ثورتى مصر وتونس.
 وقد أتاحت لى هذه الزيارة التاريخية فرصة لقاء الرئيس التونسى الجديد منصف المرزوقى الذى طالبه شعب سيدى بوزيد بإصدار قرار بجعل يوم 17 ديسمبر هو تاريخ الثورة وليس 14 يناير يوم هروب "بن على" من البلاد، كما أتاحت لجمال بخيت أن يلقى قصائده المحرضة على الثورة فى جمهور ضخم احتشد فى قلب الليل  فى  مسرح من مسارح الهواء الطلق.
وكان الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة، قد استقبلنى، قبيل مغادرة القاهرة بساعات، وكلفنى بأن أمثله فى الندوة الدولية المصاحبة لهذه الذكرى الأولى لثورة الكرامة فى تونس، التى انتهت بإطلاق "جائزة سيدى بوزيد العالمية" التى فوجئنا بتتوجهها، فى أولى دوراتها إلى ثلاثتنا: بخيت، ونيفين، وصاحب هذه الإطلالة، فى إشارة تقدير لثورة 25 يناير فى مصر.
وكان الدكتور الأمين بوعزيزى، منسق هذه الندوة العلمية، قد استهلها بقوله: "فى  القرن الماضى كانوا يدعون أن التغيير إنما يأتى من المراكز الكبرى، وهناك طبقات مرشحة للتغيير، كما أن هناك هوامش أو مناطق تم تهميشها فى صنع التاريخ. لذلك عندما حدثت ثورتنا يوم 17 ديسمبر 2010 كان فعلاً ما بعد حداثى على اعتبار أن الفاعلين فيه لم يكونوا نشطاء السياسة، كما أن مسرح الأحداث لم يكن المركز، بل أحد الأطراف المهمشة، لذا أخذنا العهد على أنفسنا أن نحفظ هذا اليوم فى الذاكرة، فاستدعينا خيرة الباحثين من الجامعات الأوروبية والتونسية والعربية فى اختصاصات عدة: علم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، كى يقولوا رأيهم فى كيفية حماية هذا المنجز، على اعتبار أن العلم هو الذى يمتلك المسئولية الأخلاقية لحماية الثورات بعيداً عن القصف الإعلامى الذى استهدفنا على مدار أكثر من عشرة أشهر.
وقد فكرنا فى أن يكون عنوان ندوتنا "ثورة 17 ديسمبر.. تأسيس للحق فى: السلطة، والثورة، والديموقراطية".
وأكد بوعزيزى أنه بعد 56 سنة من الإقصاء والتهميش لمنطقة مثل سيدى بوزيد، آن لها أن تمارس حقها فى معركة تحرير البلاد والعباد، وأشار إلى أن قول البعض إن هذه المنطقة التى نعيش عليها عصية على الديمقراطية مرفوض من هؤلاء الذين عودونا على أن الثورات تبدأ بالبيان الأول الذى هو انقلاب عسكرى، ولكن جاء يوم 17 ديسمبر ليكون إيذاناً بثورة أخرى كان البيان الأول فيها جسد يحترق، فقد جسَّد "محمد بوعزيزى" البيان رقم "واحد" فى ثورة هذا القرن.
وأضاف الدكتور الأمين بوعزيزى قائلاً: "وقد حرصنا، ونحن نعد هذه الندوة الدولية، أن نستدعى خيرة الباحثين من أرجاء العالم ممن كتبوا عن الثورات العربية، وواكبوها وأطّروا ونظّروا لها بحق، وابتعدنا تماماً عن سدنة الاستبداد الذين قالوا إن ثورات بلاد العرب اليوم سلال فارغة، وذلك بهدف التشكيك فى جدوى ما تشهده بلادنا".
وقد اختار فريد العليبى، الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، لبحثه عنوان "إشكاليات على هامش الإنتفاضة التونسية"، وفيه أوضح أن سيدى بوزيد لا تثور فقط وإنما تفكر أيضاً".
وذكر أن كل حركة ثورية ينبغى أن تكون لها نظريتها الثورية، واستحضر مقولة "ديدرو" فى الثورة الفرنسية، أو صرخته التى قال فيها: "ينبغى جعل الفلسفة شعبية"، وكذا استعاد مقولة "لينين" التى مفادها أنه لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. وأضاف: "نحن فى تونس قمنا بإنتفاضة لا تزال متواصلة فى أشكال مختلفة، وقد حان الوقت لكى نتأمل ما قمنا به"، وتساءل: "هل نجحت الثورة التونسية فى تحقيق الشعار الاستراتيجى الذى رفعته "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ أم أن هذه الإنتفاضة هى الآن فى مأزق بعد أن نال منها أعداؤها؟، وقد لاحظت أن الرجعية هى التى نجحت اليوم فى خنق هذه الانتفاضة!".
وتوقف المفكر جيلبير أشقر، الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، أمام دلالة إضرام "محمد بوعزيزى" النار فى جسده، وتأمل رد الفعل الجماهيرى نتيجة ذلك، وحلل مغزى الشعارين: "التشغيل استحقاق.. يا عصابة السّراق"، "شغل.. حرية.. كرامة وطنية"، مؤكداً أن مشكلة البطالة هى المسبب الأول لإطلاق شرارة الثورة التونسية، فالبطالة هى فى الحقيقة مشكلة المشكلات فى عموم المنطقة العربية التى تحتل الأرقام القياسية عالمياً فيما يتعلق بأزمة البطالة، ولا سيما بطالة المتعلمين وخريجى الجامعات.
وبدوره قام عبدالحميد العبيدى، الأستاذ التونسى المتخصص فى علم الاجتماع،  الباحث فى قضايا البيئة والاقتصاد بجامعة نانت بفرنسا، بطرح سؤال: "ما هى القوى التى شاركت فى ثورة تونس في 17 ديسمبر الماضى؟، ومن الذى حرّك؟، ومن الذى ثار؟، ومن الذى وصل إلى السلطة؟، ثم من تدخل؟، ومن ساعد؟، ومن سهّل أن يتغير النظام من أجل صعود تيارات سياسية ربما لم تشارك أصلاً فى الثورة التونسية؟".
وفى ورقته المعنونة ب "هل يكمل الأحفاد ما بدأه الأجداد؟ محاولة في التأصيل التاريخي لثورة الكرامة يقول حسين الحامدي:
1- أثبتت الثورة التونسية أن مطلب الحرية والكرامة مطلب إنساني لا يرتبط بشعوب دون غيرها ولا يرتبط بمجالات دون أخرى، يكفي فقط أن تنضج الظروف المناسبة لبروز هذا المطلب.
إن ما جرى بين 17 ديسمبر 2010 و14 يناير 2011 ومازالت فصوله لم تكتمل بعد يتنزّل في سياق حركة تاريخية جعلت من هذه البلاد ومناطقها الداخلية على وجه التحديد – أرخبيل الفقر والتهميش الممتد من الشمال الغربي إلى أقاصي الجنوب-  طرفا رئيسيًا في الدفاع عن مطلب الحرية والتضحية في سبيله. ويكفي أن نستذكر في هذا المقام انتفاضات البوادي في الايالة التونسية وأعظمها على الإطلاق انتفاضة 1864 والمقاومة المسلحة للاستعمار الفرنسي في الشمال الغربي وفي وسط البلاد وجنوبها منذ بواكير الاحتلال ، ثم بين 1952 و1954 حتى نفهم أن ثورة الحرية والكرامة هي في جوهرها سليلة ووريثة نفس ثوري متمرد على القهر وعلى الظلم على مر التاريخ...تلعب فيه تونس العميقة دورا رياديا ما نزّلها منزلة " الضمير الحي" لهذه البلاد، ضمير استعصى عبر التاريخ على كل تدجين...حتى أنه صار من المسلم به أن قدر تونس العميقة أن تنزف الدم على مر العصور والأزمنة في سبيل الحرية والكرامة...
2- إن هذه المقاربة لتاريخ تونس توجب – إلى جانب عوامل أخرى- الربط بين انتفاضة القبائل في ربيع 1864 وبين ثورة الحرية والكرامة في شتاء 2011... لقد جرى طمس هذه الصلة في ما نشر من كتابات حول الثورة التونسية...وهو طمس غير بريء، ذلك أن هذا الربط إذا ما أقرّ فإنه يجرّ استحقاقات عديدة تتعلق بالسلطة والثروة في تونس المعاصرة تماما كما كان الأمر في ظرفية النصف الثاني من القرن التاسع عشر....إن المسألة المطروحة من خلال هذه الثورة هي نفس المسألة التي طرحتها انتفاضة القبائل: ما السبيل إلى شراكة عادلة في الوطن؟ ما نصيب تونس الداخلية من السلطة والثروة؟ وهي التي قبعت لقرون على قارعة السياسة والتنمية... إن هذا التساؤل يزعزع مسلمات ويهدد مكاسب معلومة ...لذلك يتم تغييب هذا البعد في الثورة التونسية.
3"-لا للمجبى ! لا للمماليك ! ولا للدستور!" (1)
كان ذلك هو الشعار المركزي الذي اجتمعت حوله القبائل التونسية في انتفاضتها التي اندلعت في ربيع 1864 في عهد محمد الصادق باي (2) وفي ظل الحكم الفعلي للملوك مصطفى خزندار الوزير الأكبر(3) وبطانته الفاسدة من المماليك الآخرين وأعيان البلاد في المدن والحواضر خاصة. وقد عرفت هذه الانتفاضة باسم ربيع العربان (4)  كما اشتهرت باسم قائدها علي بن غذاهم المساهلي (5). والجدير بالتذكير أن هذه الانتفاضة انطلقت بين قبائل الأعراض و الهمامة وماجر والفراشيش في وسط البلاد وفي وسطها الغربي وقبائل رياح في الشمال الغربي ثم توسعت تدريجيا لتشمل كافة أرجاء البلاد باستثناء تونس العاصمة. والواقع أن هذه الانتفاضة توجت تحركات اجتماعية تعددت وتراكمت على مدى السنوات الثلاث السابقة: سجلت سنة 1861 غارات لقبائل تونسية على التراب الجزائري الواقع تحت السيطرة الفرنسية كما تعددت الحوادث بين القبائل وتصاعدت وتيرة هذه الحوادث سنتي 1862 و1863 مما دفع فرنسا إلى التدخل في مناسبتين في التراب التونسي ( أولاد بوغانم وتالة). وأفضت هذه الحوادث انخرام الأمن بشكل جلي بما يؤكّد ضعف نفوذ السلطة المركزية آنذاك (6). ولم يجد التراجع المعلن ضمن منشور الباي الصادر بتاريخ 21 أفريل 1864 عن كل الإجراءات ما تعلق منها بإلغاء مضاعفة المجبى ووقف العمل بقانون عهد الأمان  وإصلاح العدلية نفعا واستمرت الانتفاضة.
4 – "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق !".... "شغل، حرية، كرامة وطنية! " "يسقط نظام السابع...فاشي وعميل وتابع ! "....
كانت هذه هي الشعارات المركزية التي جمعت حولها التونسيين في بداية انتفاضتهم الشعبية العارمة في شتاء 2011 في ظل حكم "المماليك الجدد" (7): الرئيس الفار وبطانته الفاسدة في مختلف المسؤوليات والقطاعات والجهات. كان ذلك هو " شتاء العربان" أو ما يصر عدد من التونسيين على تسميته ثورة الحرية والكرامة(8) والتي انتهت بفرار الرئيس المخلوع والشروع في التفكيك التدريجي لمنظومته الاستبدادية. ولقد سبقت هذه الثورة تحرّكات اتسمت بطابعها العنيف أهمها "انتفاضة الحوض المنجمي" سنة 2008 والتي تمت مواجهتها بالقمع الشديد والتعتيم الإعلامي وأحداث بنقردان سنة 2010، فضلا عن حوادث "سليمان" التي سبقتهما...وهي أحداث أكدت تآكل سلطة الدولة وبينت استعدادا جليا لدى المواطنين للتمرّد عليها. ولم تجد هذه المرة أيضا الخطابات المتتالية للرئيس المخلوع والتي تحولت من لهجة الوعيد والتهديد إلى الوعود المتعلقة بالإصلاح السياسي والاقتصادي ومقاومة الفساد.

5- وهكذا يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن في ظل شروط سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة:
-      فالبؤس الاجتماعي والقهر السياسي والفساد المالي والظلم المستشري في البلاد (9) هي القواسم المشتركة بين الحدثين: فجوهر الصراع هو السلطة والثروة ، والمطلب الجوهري هو شراكة عادلة في الوطن.
-       وكذلك الشأن بالنسبة للتركز المجالي لبؤرة الانتفاضة والقائمين على انطلاقتها. فقد انطلقت هذه الثورة من تونس العميقة: سيدي بوزيد – المجال الجغرافي التاريخي لقبيلة الهمامة- ومن القصرين – المجال التاريخي المشترك لقبيلتي ماجر والفراشيش تماما كما انطلقت انتفاضة 1864 من نفس هذه المناطق.
-      والأكيد أيضا أن القائمين على انتفاضة الكرامة في شتاء 2011 هم أحفاد المنتفضين في سنة 1864 وهو أمر لا يقبل جدالا ولا يمكن إنكاره.
-       وعلاوة على ما  تقدم ، فإن أوجه الشبه بين الواقعتين تشمل توسعهما المجالي - إذا استثنينا بقاء العاصمة تونس خارج مجال انتفاضة 1864 -  في الوقت الذي كان فيه دور العاصمة حاسما في انتفاضة شتاء 2011.
-      كما يشمل هذا التشابه التعاطي السلطة المركزية مع الحدثين ولئن نجح هذا التعاطي في إخماد انتفاضة 1864 فإن التعاطي مع ثورة شتاء 2011 كان مآله الفشل الذريع بل إنه ألهب نار هذه الثورة وزادها انتشارا وزخما ...
وخلاصة القول أن الثائرين في ربيع 1864 انتفضوا ضد سلطة المماليك بما تعنيه من تهميش وإذلال لشريحة عريضة من التونسيين، أما الثائرون في شتاء 2011 فقد ثاروا ضد سلطة "المماليك الجدد" وما رافقها من تهميش وإذلال لشريحة عريضة من التونسيين.
ولئن تشابهت المقدمات والبدايات فقد اختلفت النهايات بين هذين الحدثين الجللين في التاريخ الحديث والمعاصر للبلاد التونسية.
6- ففي المقدمات كان الاستبداد السياسي والجور الاجتماعي والحيف الاقتصادي، وهي ثوابت لازمت الطبقة الحاكمة التونسية وبدرجات متفاوتة منذ نشأة الدولة الحسينية سنة 1705 واستمرت بعد الاستقلال في ظل الدولة الوطنية الحديثة وبصورة لافتة خاصة بعد ما اصطلح على تسميته بالتغيير سنة 1987.
  6-1:  فالاستبداد السياسي معطى ثابت يتجلى من خلال حكم الفرد سواء في عهد البايات أو في العهد الجمهوري ولم تكن المؤسسات الدستورية – علاوة على ما تضمنته من عيوب عديدة- إلا مجرد ديكور. ومثل استلاب الإرادة الشعبية سلوكا ثابتا لمختلف القيادات التي تداولت على تسيير الشأن العام. فلقد ظل الأهالي ، أصيلو البلاد والمناطق الداخلية منها على وجه التحديد – إلا من لهج بمدح الحاكم وارتضى خدمته- مبعدين عن الشأن السياسي الذي انفرد به الباي ومماليكه و"البلدية" (10) الموالين لهم  والبعض من زعماء القبائل مع ما يترتب عن ذلك من امتيازات وكان شعار هؤلاء: " العربي خوذ ماله واقطع رأسه..."(11)  وكان ذلك مقصد الشعار المرفوع في انتفاضة القبائل سنة 1864 : "لا للمماليك...." واستمر هذا الاستبعاد في ظل الدولة الوطنية الحديثة فقد ظل سكان دواخل البلاد مبعدين من المشاركة في حكم البلاد وفي مختلف مستويات المسؤوليات الإدارية الوطنية والجهوية – إلا من قبل منهم بدور التابع المطيع- ما خلف شعورا حادا بالغبن و"الحقرة" بين مجموعات بشرية تمثل الكرامة لديها معنى وجودها وحياتها. 
6-2 : ظل الجور الاجتماعي بمختلف مظاهره ملازما لإدارة الشأن العام على مر القرون الثلاثة الماضية، ولئن اتخذ في عهد البايات وفي ظل حكم المماليك شكل نهب الممتلكات العامة وسلب ممتلكات المواطنين بشتى الحيل والأساليب-  ولمصطفى خزندار الوزير الأكبر في عهد محمد الصادق باي ومصطفى بن اسماعيل الوزير الأكبر زمن استقرار الحماية  وبعض أزلامهم مثل محمود بن عياد (12)...باع طويل وإبداعات عجيبة في هذا الميدان- فقد استمر هذا السلوك الاجتماعي الذي يتسم بالجور في عهد الدولة الوطنية الحديثة  تشهد على ذلك أعمال النهب والسلب والتحيل وتكديس الثروات غير المشروعة التي بدأت تتكشف بعد انهيار فرار الرئيس السابق بنفس أساليب التحيل والجور والتعدي.
6-3 :   أما الحيف الاقتصادي، فإن أبلغ تجلياته في عهد البايات والحاكمين بأمرهم من المماليك هو قيام العلاقة بين الدولة والمجتمع على جمع الجباية وقصر منافعها على العاصمة وبعض المدن المحظوظة في حين استأثر البايات وأتباعهم بالقسط الأوفر من ميزانية الدولة لتلبية نزواتهم مثل بناء القصور وحياة البذخ الفاضح، أما دواخل البلاد حيث القبائل المتنقلة فما من إنجاز يذكر وهو ما يفسر واقع التخلف الذي كانت عليه البلاد إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1881.
  وقد استمر سلوك الحيف الاقتصادي في الدولة الوطنية الحديثة  إذ استأثرت المناطق الساحلية التونسية وكبريات حواضرها بالقسط الأوفر من الجهد التنموي الوطني في الوقت الذي أهملت فيه المناطق الداخلية نسبيا وهي نفسها التي كانت مهملة في عهد البايات. وليس أبلغ دلالة على ذلك مما شهدته هذه الجهات من احتجاجات مثلت  شرارة ثورة الكرامة في شتاء 2011
 7- أما  النهايات فإنها جاءت متباينة:
7-1 :  آلت انتفاضة ربيع 1864 إلى التراجع وانتهت إلى الاضمحلال سنة 1866 بسبب ضعف القدرات التنظيمية وبفعل التآمر عليها من قبل المماليك الحاكمين الفعليين للبلاد آنذاك الذين اعتمدوا الترغيب كالتراجع عن مضاعفة المجبى ووعد الثائرين بالعفو والتلويح بإغراءات مادية للبعض منهم... والترهيب عبر استثمار الخلافات التقليدية بين بعض القبائل والتناقضات بين أعيانها، وآلت إلى القمع الرهيب ضد الثائرين  الذين انتشر بينهم الخذلان بفعل مناورات الباي ومماليكه وانتهى علي بن غذاهم أسيرا في كراكة حلق الوادي (13) وهناك قضى نحبه وفرضت على الثائرين غرامات مالية ثقيلة أنهكت اقتصاد البلاد وأفضت إلى إعلان إفلاس الدولة التونسية وتركيز الكومسيون المالي الأجنبي سنة 1869 للإشراف على المالية التونسية كمقدمة للإستعمار الفرنسي سنة 1881.
7-2 : أما انتفاضة شتاء 2011 فقد تصاعد زخمها بصورة ملحوظة وتبلورت أهدافها بين جماهير القائمين بها تبعا لتوسعها المجالي وتعزز صفوفها بمزيد الثائرين خاصة بعد تتابع سقوط الشهداء الأمر الذي قطع خط العودة على الجميع : الثائرون و"المماليك الجدد" الذين يحكمون البلاد. ولعل طرد رأس النظام – رمز الظلم والاستبداد والفساد- كان المطلب الرئيسي في مرحلة أولى وهو ما تحقق بشكل كامل يوم 14 جانفي /يناير 2011. ولضمان عدم الالتفاف على ثورتهم والسير بها إلى النهاية المنطقية بما يحقق لهم الطموح في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، يواصل التونسيون نضالهم اليوم لتقويض منظومة الظلم والاستبداد والفساد.
وهكذا تبدو ثورة الحرية والكرامة في جملة من أوجهها مواصلة لثورة القبائل في ربيع 1864، بما يجعل منها ثأرا للثائرين الأول ، ثأر يقوم عليه أحفاد يتسلحون بالعزيمة ويوظفون ما يتيحه العصر لضمان نجاح مسعاهم.
8- وبعد، يبدو ضمن قراءة أولية أن الثائرين في شتاء 2011 لم ينطلقوا من فراغ ! فهم ورثة نفس ثوري متأصل وحملة وجع تاريخي لحمته الغبن والإذلال والتهميش ، وجوهره شوق عارم إلى حرية مشتهاة، وجع مدفوع الثمن من دماء الأجداد منذ ما يربو عن مائة وخمسين سنة ومن دماء الأحفاد طيلة الأسابيع الماضية، وجع ممتدة جذوره عميقا في التاريخ الحديث للبلاد التونسية. وإن في إصرار الأحفاد على بلوغ ثورتهم نهاياتها المنطقية التي تقطع مع التسلط السياسي والفساد الاجتماعي والحيف الاقتصادي استبطان لا يخفى لتجربة أليمة يختزنها وجدان حي وذاكرة جماعية استعصت على الموت ولم تفلح آلة القمع في تغييبها...وذلك هو عنوان الشعوب الذكية الحية المتوثبة والأصيلة.
فهل ترى يكمل الأحفاد في ما بدأه الأجداد ويفتكون مكانا تحت شمس تونس يليق بتضحياتهم وبتضحيات هؤلاء الأجداد ؟؟؟ الأيام القادمة كفيلة وحدها بالإجابة على هذا السؤال (14).
إلى هنا تنتهى ورقة حسين الحامدي، ونتبعها بهوامشه التالية:



(1)           - المجبى: ضريبة على الأشخاص تبلغ قيمتها 36 ريالا جرى تعميمها على كافة السكان والحواضر في سبتمبر 1863 وتمت مضاعفتها لتصيح 72 ريالا بعد قرار التعميم بثلاثة أشهرفي إطار السعي إلى معالجة العجز المتفاقم لميزانية الدولة التونسية آنذاك.
أنظر:  جان قانياج، ثورة علي بن غذاهم 1864، ترجمة لجنة من كتابة الدولة للشؤون الثقافية، الدار التونسية للنشر ، 1965، ص 18.
-      الدستور: هو دستور 1861 الذي غير قواعد اللعبة السياسية بالبلاد وزاد في تهميش السلطة التقليدية لزعماء القبائل.
-      المماليك: هم من أسرى حملات القرصنة البحرية أو ما يسميه البعض " الجهاد البحري" وكانوا غالبا من أصول صقلبية وشركسية ويونانية وجيورجية وإيطالية...، تربوا في قصور البايات  وتدرج البعض منهم في سلم الوظائف الإدارية والسياسية حتى صلوا أعلى المراتب وأستأ ثروا بمختلف شؤون الدولة مقابل استبعاد الأهالي وأكثرهم شهرة: مصطفى خوجة، اسماعيل قائد السبسي، شاكير صاحب الطابع، يوسف صاحب الطابع، مصطفى خزندار، خيرالدين باشا....
للمزيد أنظر: توفيق البشروش، " ربيع العربان" :أضواء عن أسباب ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، سلسلة وثائق تاريخية، بيت الحكمة، 1991.
  (2)  حكم الإيالة التونسية بين 1859 و1882 وتم في أواخر عهده انتصاب الحماية الفرنسية بتونس.
  (3)  مملوك تولى منصب الوزير الأكبر بين 1837 و1873 في عهد ثلاثة بايات هم أحمد باي ومحمد باي ومحمد الصادق باي  واشتهر بسرقته للمال العام بأساليب عجيبة !
 (4)  أنظر توفيق البشروش، " ربيع العربان" :أضواء عن أسباب ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، سلسلة وثائق تاريخية، بيت الحكمة، 1991.
 (5) هو قائد انتفاضة القبائل التي انطلقت في أفريل 1864 ، ينتمي إلى فرع أولاد مساهل من قبيلة ماجر، وكان له إلمام بالقراءة والكتابة. أنظر أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ، الجزء الخامس، الدار التونسية للنشر، 1990.
(6) أنظر:  جان قانياج، ثورة علي بن غذاهم 1864، ترجمة لجنة من كتابة الدولة للشؤون الثقافية، الدار التونسية للنشر ، 1965، ص 16.
(7)  يجدر التنويه إلى أن عبارة " المماليك الجدد" تشير بالأساس إلى " الثقافة السياسية المملوكية" التي تشكلت من ممارسات المماليك في القرن التاسع عشر في إدارة الشأن العام وقد ورثت النخبة التونسية والسياسية منها على وجه التحديد هذه الثقافة السياسية التي تقوم على:
 - التعالي على سكان البلاد واستبعادهم من المشاركة في إدارة الشأن العام والاستئثار بالسلطة السياسية.
 - الاستئثار بالثروة والنهب السافر لخيرات البلاد بشتى طرق السلب والنهب والتّحيل.
 - نشر ثقافة هجينة تضرب في الصميم الهوية العربية الإسلامية للشعب...بدليل حالة إهمال اللغة العربية والاستعاضة عنها برطانة تجمع كل لغات المنطقة المتوسطية تقريبا وإفراغ الدين الإسلامي من مضامينه وتحويله إلى مجرد طقوس لا غير...يشهد على كل ذلك ضمور العطاء الفكري في القرنين الثامن عشر   و التاسع عشر خاصة
 - الارتباط بالأجنبي في إدارة الشأن العام والاحتماء به في مواجهة حق الأهالي في المشاركة في السلطة والثروة  .
(8)  تتردد أسماء كثيرة لهذه الثورة ومن ضمنها " ثورة الياسمين" وهو اسم أطلقه عليها المؤرخ الفرنسي بيار فيرميرن في صحيفة  "الأكسبرس" الفرنسية بتاريخ 14-1-2011. وتم تبني هذه التسمية من قبل وسائل إعلام دولية مختلفة، وقد لمست لدى التونسيين ميلا جليا إلى رفض هذا الاسم وتفضيلا لتسميتها بثورة " الكرامة"، فحيث انطلقت الثورة لا نعرف الياسمين ولا رائحته كل ما نعرفه هو العمل المضني ورائحة العرق التي انضافت إليها طيلة أيام الثورة رائحة الدماء على الإسفلت في سيدي بوزيد و منزل بوزيان والرقاب والقصرين وتالة ودوز... وحيثما سقط الشهداء.
 وعلاوة على ذلك ، يخطئ من يعتبر هذه الثورة عند انطلاقتها ثورة جياع، لقد كانت في البدء ثورة على "الحقرة" والإذلال والإهانة.
(9) أنظر: الرحلة الحجازية، الجزء الثاني، محمد السنوسي، تحقيق الأستاذ علي الشنوفي، الشركة التونسية للتوزيع، 1981، وعلى وجه التحديد الملحق عدد 4 ، ص 475 وما يليها وخاصة تقرير " فرانسوا فيللي".
(10)  عبارة تونسية تشير إلى ساكنة المدن وخاصة العاصمة تونس وهي مشتقة من كلمة "البلاد" وهي عبارة تشير إلى الحاضرة ولا تزال متداولة إلى اليوم في بعض الجهات. وتحمل هذه العبارة معاني التعالي على بقية مكونات المجتمع التونسي، فهؤلاء والأعيان منهم على وجه الخصوص يحتكرون السلطة الدينية والنفوذ الاقتصادي ويتمتعون بالوجاهة الاجتماعية وكانوا ولا يزالون طرفا أساسيا في الحكم.
(11) أنظر " إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" ، الجزء الخامس، الدار التونسية للنشر، 1990 وخاصة المداولات التي جرت في مجلس الباي حول مضاعفة المجبى كسبيل لمعالجة عجز الميزانية.
(12)  من كبار رجال الدولة في عهد أحمد باي (1837-1855)، هرّب أموالا طائلة إلى فرنسا ، حمل الجنسية الفرنسية بعد فراره من تونس واستقراره بفرنسا.
(13)  سجن حلق الوادي.
(14) مرت - بين تاريخ كتابة هذا النص ونشره ( نشرته على صفحتي في شبكة التواصل الاجتماعي فايسبوك ثم نشرته في مجلة الكلمة الالكترونية العدد 47   لشهر أفريل 2011) وبين عرضه في هذا المنتدى- قرابة السنة هي عمر الثورة التونسية، لكن السؤال الذي يطرحه يظلّ قائما: هل يفلح الأحفاد في استكمال ما بدأه الأجداد؟
تشير كل الدلائل إلى أن هذا الأمر صعب المنال والشراكة الحقيقية في الوطن ما تزال مطمحا قائما. وما جرى حتى اليوم هو في اعتقادي احتواء لهذه الثورة ضمن سقف التقت حوله قوى داخلية وأخرى خارجية:
-      ديمقراطية شكلية على النمط الغربي أساسها المحاصصة الحزبية بما يحيل على منطق الغنيمة.
-      منوال تنمية ليبرالي مرتبط وثيق الارتباط بالاقتصاديات الغربية.
-      استئثار بالسلطة من قبل نخب سياسية مدينية غالبا تجهل الكثير عن واقع شعب تدعي التحدث باسمه وتعيد إنتاج نفس السلوك المتعالي.
-      تجدد ارتباط البلاد التونسية بالدوائر السياسية والاقتصادية الغربية.
وهكذا فإن المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفضت إلى هذه الثورة تعيد إنتاج نفسها في ظل ظروف جديدة. وما يزال " أرخبيل الفقر والتهميش" بعيدا كل البعد عن الشراكة الحقيقية في الوطن ، شراكة نهض لها "المهمشون" منذ قرن ونصف وعادوا للنهوض إليها من جديد في شتاء 2011 وقد تنهض لها الأجيال القادمة مرة أخرى بعد عقود بعدما تتعرى المنظومة الجديدة من ورقة التوت وتتعرى معها من جديد الثقافة السياسية المملوكية القائمة على الإقصاء والتهميش.

ليست هناك تعليقات: