2011/12/01

"قصة أربعة لواحد" د. صديق الحكيم

قصة أربعة لواحد
"مجموعة الذاكرة المقلوبة"
د. صديق الحكيم
(1)
أنهت عزة (بكسر العين)إبراهيم دراستها الجامعية في العام 2000 حيث تخرجت في كلية التمريض بجامعة الأسكندرية الكائنة بشارع إدموند فيرمون (محمود داوود سابقا) بحي سموحة الراقي والعريق الذي يتمتع بموقع متميز جدا في مدينة الإسكندرية، حيث يتوسط الحي الحديث نسبيا مدينة الإسكندرية ويقع في نفس الوقت على مدخل الإسكندرية الجنوبي حيث طريق الطريق السريع القاهرة الأسكندرية الزراعي، ناهيك عن أن الحي يطل على محطة قطار سيدي جابرالشهيرة، إحدى المحطتين الرئيسيتين بالإسكندرية وقربه الشديد من مطار النزهة الدولي وكذلك حدائق النزهة وأنطونياديس الشهيرة هذه المميزات المتعددة أدت إلى ازدهار الأعمال التجارية به حتى أصبح لكافة البنوك التي تعمل في مصر أفرع هناك وعدد من النقابات والكليات مع أن موقعه كان يسمي بحيرة الحضرة والتي كان اسمها من قبل ملاحة رجب باشا جد السفير حسن رجب وقام بتجفيفها "جوزيف سموحه" وهو يهودي عراقي وفد علي مصر ليتاجر في الأقمشة.)
(2)
وأطلق علي دفعة عزة دفعة الألفية الجديدة وفي حفل كبير ضم جميع الخريجات من دفعة الألفية الجديدة في كلية التمريض العريقة والتي بنيت بعد الثورة المصرية التي أطاحت بالملكية
تبادلت عزة مع زميلات الدراسة التهاني بالنجاح والأماني بمستقبل واعد يقدمن فيه خدماتهن الجليلة للمرضي ربما يكون اللقاء بعد هذا اليوم صعبا والتجمع بمثل هذه الطريقة وهذا العدد ضرب من المستحيل وكنوع من حفظ الذكري وتثبيت اللحظة التقطن الصور فرادي ومثني وثلاث ورباع ثم مجموعات ثم صورة للمجموعة بالملابس المعتادة للتخرج
(2)
ولأن ممارسات مهنة التمريض بهن نقص شديد في الأعداد وخصوصا من فئة ذوات الأربع سنوات فقد جاءها التعيين الحكومي علي عجل في مستشفي كبيربوزارة الصحة بالأسكندرية بالإضافة لعملها كمشرفة للتمريض بقسم العناية الفائقة (المركزة) في مستشفي السلامة الجديدة بشارع السلطان حسين كامل بالشلالات الذي التحقت به قبل تخرجها بشهور
(3)
مرت سنة والثانية وهي تقطع المسافة مابين الأسكندرية ومدينتها يوميا ذهابا وإيابا وما تلبث أن تنتهي من عملها الحكومي في الثانية ظهرحتي تستقل تاكسي وتذهب مهرولة إلي مستشفي السلامة الجديدة لتكمل يوم العمل الطويل والشاق الممتد من الصباح الباكر وحتي المساء وربما تضطر في بعض الأيام للمبيت في مستشفي السلامة إذا كلفت بنوباتجية سهر
عمل شاق ومرهق لكن لا مناص منه لتوفير حاجيات باتت ضرورية بعد أن كانت من الكماليات في الزمان الماضي شأنها في ذلك شأن صديقاتها وزميلاتها في العمل سواء بالمستشفي الحكومي أوفي المستشفي الخاص وكثيرما سألتها نفسها حتي متي تستطيع أن تتحمل هذا الوضع المرهق ؟ طوال الوقت وهي تفكر في بدائل لهذا الوضع الذي أصبح لايُطاق خصوصا في فصل الشتاء مع قصر ساعات النهاروبرودة الجو فإنها تخرج من البيت بعيد صلاة الفجر وترجع جسدا متهاو بعد العشاء بساعات وهذا الأمر في عرف الأسرة المحافظة أمر لايمكن السكوت عليه مهما كانت المبررات والأعذار
فكرت عزة في البدائل المتاحة أمامها ومنها تغيير مسار عملها كما فعلت إحدي زميلاتها لكنها مضطرة لتأجيل هذه الفكرة سنة أخري تنتهي فيها من شراء بعض الأشياء لكنها في نهاية الثالثة أحست بالملل بل والقرف من مجتمع المستشفي الضاغط علي أعصابها وأن الوقت قد حان لتنفيذ فكرتها فغيرت مسارعملها الحكومي من التمريض بجوار أسرة المرضي إلي التدريس في مدرسة التمريض بمستشفي المعمورة شرق الأسكندرية
(4)
وسرعان ما أحست عزة بالراحة و أحبت عملها الجديد بين الطالبات الصغيرات اللاتي تتراوح أعمارهن مابين أربعة عشر عاماو ستة عشرعاما إنها فقط ثلاث سنوات لكنها من أخطر السنوات في عمر الإنسان وأكثر خطورة وأهمية بالنسبة للفتيات في هذه المرحلة الحرجة من عمرهن وبطريقتها العفوية والحنونة التي لاتخلو من الحزم تقربت منهن وتقربن منها فوجدت فيهن شيئا افتقدته وهي أن تعيش معهن سنوات عمر شغلت فيه في المذاكرة في الثانوية للحصول علي مجموع مرتفع تدخل به أحد كليات القمة الطب أو الصيدلة أو الأسنان وبالفعل حصلت علي المجموع المرتفع لكن كليات القمة كانت علي بعد درجة أو درجتين واضطرها التنسيق أن تقبل بالتمريض علي فرض أنه كادر طبي أيضا
(5)
ووجدن عندها الحب والحنان وبذلت وسعها لجعلهن جديرات بمهنة التمريض العظيمة علما وخلقا فهذا تخصصها الذي تجيده وتبدع فيه وربما كان من حسن حظها أن يسند إليها تدريس مادة علم النفس فهي أقرب إلي نفسها وتزيدها وعياً وإدراكا للحياة والأحداث والأشخاص من حولها جعلت منها في عيون تلميذاتها فلورانس نيت أنجيل جديدة
(6)
وفي كل سنة تمر علي عزة كانت إحدي صديقتها المقربات من أيام الدراسة الثانوية والجامعية وزميلاتها في العملالقديم وحتي العمل الجديد تختفي عن الأنظارلسبب اجتماعي معلوم وهو الزواج منهن من تركت عملها من أجل أسرتها الجديدة ومنهن من سافرت مع زوجها إلي حيث يعمل بالخليج العربي ومنهن من غيرت محل عملها حتي يتناسب مع سكنها الأسري الجديد ومازالت هي تنتظر لعلها تختفي أيضا لنفس السبب عن أنظار الجيران والأقارب والمتربصين من الأهل الموتورين ربما بسبب رفضها لبعض أبنائهم فيزلقونها بأبصارهم ويقولون في أنفسهم
ماذا فعلتي بكبرك وغرورك وتعاليكي علينا ورفضك لأبناءنا لقد تزوجوا وأنجبوا لنا الأحفاد ومازلت أنتي محلك سر
(7)
ومرت السنة الرابعة من الألفية الثالثة وفي نهايتها احتفلت عزة بدون صديقاتها المقربات بعيد ميلادها الفضي (الخامس والعشرين) كان أنيسها في هذه الليلة فقط برقيات تهنئة وكروت صغيرة ملونة من تلميذاتها في مدرسة التمريض كتبن عليها بخط كوفي رقيق "عيد ميلاد سعيد ماما عزة" قرأتها وهي تتبسم وتتمني أن تصبح أما حقيقية وأن يصبح لقب ماما مصدره طفلا أو طفلة لايهم المهم أن يخرج من رحمها
(8)
وفي صبيحة اليوم التالي لعيد ميلادها الفضي تلقت مكالمة هاتفية دولية تبدأ بمفتاح 00971 لابد أنها من دولة الإمارات وبالتحديد من عاصمتها أبوظبي حيث تعمل أعز صديقاتها منذ أيام الدراسة إنها منال إسماعيل
لم تطل مدة المكالمة كالعادة في المكالمات الدولة لارتفاع سعر الدقيقة وبعد السؤال عن الحال والأخبار وبطبيعة الحال سألت عن الفارس المنتظر هل وصل أم مازال تائها في الطريق وأرسلت إليها بتهنئة مباشرة بمناسبة عيد ميلادها والتي كانت تحتفل به معها فيما سبق طوال سنوات الدراسة وفي نهاية المكالمة زفت منال إلي عزة خبر حملها و أنها تنتظر طفلها الأول بعد أشهر معدودات ستصبح منال أما باركت لها عزة وتمنت لها أن تضع وليدها وتكون في أتم صحة وتمنيت لو تستطيع حضور السبوع وانتهت المكالمة
مكالمة من صديقة تفتقدها كثيرا لكنها قلب المواجع علي قلبها الغض الذي لم يطرق أحدا بابه الموصد بالضبة والمفتاح لحين إشعار آخر
(9)
ومرت السنة الخامسة والسادسة ثم السابعة وفي نهايتها جاءها صوت منال عبر الهاتف للمرة الثانية تزف إليها نبأ وضعها وليدها الثاني محمد
تعرف عزة تمام المعرفة أن منال لا تضمرأي سوء وإنما تتصرف علي سجيتها وبعفوية شديدة ومن منطلق فرحتها الغامرة وغن كان في بعض كلماتها تحريك ودفع لي وتحريض علي الارتباط بأول من يطرق الباب
ربنا يسامحك يامنال تتركيني بعد كل مكالمة بين شعورين متباينين بي شعور بالفرح لك والحزن علي نفسي والعمر الذي يمر دون تقدم ملموس علي المستوي الاجتماعي مازلت آنسة بعد عمر ناهز الثامنة والعشرين
(10)
نشب في عقل عزة حوارمتأجج عن علة الوجود والحياة في هذه الدنيا وحديث نفس عن المقارنات التي لاتنتهي بينها وبين صديقاتها اللآئي انتقلن من مرحلة الآنسات إلي مرحلة الأمهات
إنها الغريزة الإنسانية والحاجة إلي الحب والأمومة لقد أثرت فيها كلمات قليلة علي الكروت الملونة "ماما عزة" من تلميذاتها
لكن هل لها يد في ذلك الوضع ؟ وماذا عساها أن تفعل وهي الجميلة الأنيقة المترفعة عن الصغائر والتفاهات ناهيك عن النزول لمستوي الشبهات ؟ لقد حرمتها تربيتها المحافظة في بيت يسكن في المدينة ويعيش بأخلاق القرية من أن تمر بفترة المراهقة بل عبرت مباشرة من الطفولة إلي النضج والرزانة والتعقل ولم يجدي معها عمل الخطبة واجتهاد الأم وجلسات الصالونات في توفير المطلوب
(11)
لقد قررت عزة أن تشغل نفسها بشئ آخر غير التفكير في بيت العدل والفارس المنتظروأوقوال الجيران في الذهاب والإياب وبعد تفكيرعميق ومشاورات مع أسرتها وطلب النصح من الصديقات والزميلات عزمت وتوكلت علي الله لتكن الدراسات العليا الماجستير ثم الدكتوراه لعلها تجد فيها السلوي عن هذه الأفكار الكئيبة التي تنغص عليها حياتها الشبيهة بحياة الراهبات المتشحات بالسواد مع أنها تعشق الألوان المتناسقة والمبهجة
(12)
أوكلما أضحت صديقة لها عروساً وزفت إلي عريسها أو وضعت أخري مولودا جديدا أحست بهذا الشعور المريروالخانق أن القطارلن يمر من هنا حيث تجلس وكثيراً ما تتسأل هل الاحترام والاحتشام ذنب تعاقب عليه؟ أم أنها حقا عقوبة قاسية بلا جريرة من مجتمع ذكوري يطلب من المرأة أن تتمايل وتخضع بالقول حتي تفوز برجل
(13)
قررت عزة أن يكون شغلها الشاغل في الفترة المقبلة هو العلم وتقسيم الوقت مابين مهمتين أساسيتين هما طلب العلم بدراسة الماجستير وتدريس علم النفس لتلميذاتها مع لعب دور الأم الموجهة الحنون لعل ذلك يعوضها بعض الشئ ويسد بعض حاجتها المؤجلة إلي الأمومة الحقيقية
(14)
حملت عزة حقيبتها وحلت بكلية التمريض طالبة للعلم للمرة الثانية بعدما تركتها منذ سبع سنوات انقضت سريعا كأنها كانت هنا البارحة نفس الأماكن والمناظر لم تتغير حتي الأشخاص معظمهم موجودون ربما تغيرات ملامحهم بسبب عامل الزمن
لكن أفضل ما في الأمرمن وجهة نظرها أنها وجدت بين زميلاتها الجدد في الماجستير آنسات فوق الثلاثين وهذه ميزة نسبية في صالحها فهي مازالت تبتعد عن الثلاثين بأكثر من ألف يوم لعلها تجد في أي يوم منها فارس أحلامها المنتظر
(15)
ومرت السنة الثامنة والتاسعة وفي السنة العاشرة وشُغلت بالدراسة والمذاكرة التي التي أعطتها كل وقتها وتركيزها حتي حصلت علي درجة الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف في حفل بهيج حضره الأهل والزميلات وبعض تلميذاتها ولم يغب عنه سوي شخص واحد لم يأت بعد ربما كان من الأفضل أن يكون بجوارها في هذا اليوم
(16)
ولم يعكر صفو فرحتها في هذا اليوم المشرق في حياتها سوي مكالمة من أعز صديقاتها منال المعتادة من الإمارات لقد وضعت مولودها الثالث لكن عزة في هذه المرة لم تعر الأم كثير اهتمام وحاولت أن تتماسك وتتغلب علي هذة المرارة والتي تعقب هذه المكالمة وقالت لنفسها هذه أقدار و أرزاق ولعل نصيبي لم يأتي بعد سأواصل مشواري في الدكتوراة وفي تعليم تلميذاتي وأتحصن بالصبر والصوم

(17)
مرت الألف يوم وأتمت عزة عقدها الثالث ولم يطرق بعد بابها الفارس
الذي يخطفها علي حصانه الأبيض ويأخذها إلي عش وردي بعيدا عن أنظار الجيران والأقارب وألسنتهم الحداد التي ليس لها حديث سواها أوهكذا تعتقد علي الأقل
(18)
وفي ليلة من الليالي الباردة في شهر نوفمبر وحين كانت عزة تزجي وقتها بالتواصل مع الصديقات والأصدقاء علي الفيسبوك ، طرق حسابها الخاص فارس أحلامها المنتظر-عرفته من أول وهلة ووقعت في غرامه من أول لحظة - جاء يطلب الإضافة فرحت به ورحبت به ضيفا عزيزا علي صفحتها وتطورت المعرفة علي مدارليال الشتاء الطويلة والتي أحالها التواصل مع الضيف العزيز من بارد قارس إلي دفء ومودة تتورد منها وجنتيها وتنقضي ساعاتها كالثواني وهي التي كانت تمر فيما مضي كالدهر
(19)
ومضي الشتاء بكل لياليه الطويلة وجاء الربيع بشمسه المشرقة والخضرة والأزهار الملونة وتحول فارسها من ضيف افتراضي علي صفحة الفيس بوك إلي ضيف حقيقي جاء إلي بيتها طالبا إضافته لأسرتها وإضافتها لأسرته وبعد الخطبة وكتب الكتاب بمسجد النور المقابل لبيتها علي مرأ ومسمع من الجيران والأقارب لتلجم ألسنة المرجفين وتشفي صدور المقربين وتدخل الفرحة والسرور علي البيت الذي انتظرها طويلا حتي تقول الأم متي يأتي الفرج والفرح إلي بابنا
(20)
وبذلك أنهت عزة رحلة طويلة من المعاناة ،والتي استمرت عشرة الآف يوم ( نحوثلاثين سنة) حتي ظنت أن الحياة ستنتهي بها بدون فارس من بني آدم تذوق عُسيلته ويذوق عُسيلتها وأنها ستعيش رهبانية فرضت عليها لتزجي خلالها الوقت في طلب العلم معلمة ومتعلمة والصداقة الافتراضية علي التويتر والفيسبوك
(21)
وبدأ شهرالعسل والذي تذوقت فيه عزة طعم العُسيل بكل ما أوتيت من قدرة حتي أثمرذلك العُسيل جنينا يتحرك في أحشائها المتشوقة له منذ أمد بعيد يربو علي نصف عمرها
(22)
ومع نهاية العام الأول من الزواج السعيد استقبلت عزة وليدها الأول الذي انتظرته طويلا بفارغ الصبر وكان صبيا جميلا تقاسم ملامح أبيه وأمه معا جري تسميته سامي بالتشاور مع زوجها أحمد وبعد الفراغ من حفل السبوع والتعافي من آلام الولادة جاء وقت تنفيذ أمنية قديمة لعزة
(23)
الآن فقط تستطيع عزة أن تجري مكالمة هاتفية كانت تنتظر أن تجريها منذ سنين طويلة وتعتبرها مكالمة العمر (حياة أوموت) ولو خُيرت بين أن تُجريها وتموت بعدها بثوان لما ترددت لحظة من عزة إبراهيم إلي أعز صديقاتها منال إسماعيل الحمد لله ربنا أكرمني ووضعت مولودي الأول فردت عليها منال وهي تكاد تنفجر من الضحك
عمرك أطول من عمري وأنا وضعت مولودي الرابع ( أربعة لواحد)
ضحكت عزة ومعها زوجها أحمد وهو يقول إن شاء الله سنتعادل ونفوز

الخبر الشمالية - السعودية
19/11/2011


هناك تعليقان (2):

أخبار يقول...

جزيل الشكر لك يا أستاذ أحمد علي هذا الفضل الكبير بنشر قصصي
وأرحب بأي نقد منكم أو من السادة زوار الموقع

أخبار يقول...

جزيل الشكر لكم علي نشر قصتي علي مدونتكم الرائعة والذائعة الصيت وأرجو أن تتموا الفضل بنقدكم لقصتي