ما بين الماء والماء
محمد الكامل بن زيد
بين الماء والماء هناك ماء .. بين الجسد والجسد هناك جسد .. بين الآهة والآهة هناك آهـات وبين أول الخيط وآخره حكاية أمل جريح ضاع في الملكوت.. حكاية مركب صغير مهترئ يعـج بأربعين نفر.. تلاقت سيقانـهم الساق بالساق وعيونـهم انصهرت كعيــن واحدة ظلــت مصوّبـــة في اتجاه حلـم واحد ولا شيء سواه..وأي حلم... ؟؟ .."سواحل ايطاليا "..الكل يمني النفس بايطاليا ..بوابة الجنة الموعودة...
غلبتهم هستيرية مفاجأة فبدؤوا بالبكاء المر ساعة ما أيقنوا أخـيرا أن القناع قد سقط .. و أن هذا البحر الذي بـــدوا فيه كنـقطة يتيمة لا شـرقية ولا غـربية ما هو ..إلا ماء...
وأن المسيرة لا تزال طويلة وبعيدة وشاقة جدا جدا ..هذا إن بقيت نـهايتها معلومة.. وأن غسق ليل أمس كان إشارة انطلاق لبداية ليال حالكات أخريات ...
قال أحدهم ...خدعونا برب السماء ..
قال الآخر.. ما هكذا كان اتفاقنا ..
قال آخر بقي ممسكا بحبل مشدود إلى حلقة بلاستيكية في آخر المـركب بنبرة ملؤها الخوف والقلق العميقين.. جنة أصبحت جهنم والوعد والموعود بات.. سرابا
نظرات الجميع تتبادل الأسئلة بكثير من الــحزن ..وتنتــظر بكثير من أمــل متلبـــد إجابــة مقنعة..إحساس غريب سيطر على مخيلتهم صورة قاتمة و متشائمة : هــــل هذه النهاية ؟! هل تبخرت الأحلام ؟! قشعريرة مسعورة سرت في أجسادهم جعلتهم يمسكون بكل ما تبقى لهم من قوة غضب وغيظ باقية بالحلقات البلاستيكية.. فعلها المرشد ..فعلها ابن الكلب !!.. خالفهم أثناء نومهم لا بد أنه شعر بخطر عظيم يحدق بـهم فآثـر
النجاة بنفسه.. لكن كيف له أن يتسنى له الرحيل وهو لا يملك قاربا آخر.. فحتى القوارب التسعة التي أبحرت معهم في نفس اللحظة والمكان والتي بانت للعيان كأنـها قوارب سبق مضت كل في طريق بعد دقائق معدودات ..يا له من حقير.. لا بد من أنه له صاحبا ومن المؤكد أنـها خطة مدروسة .. قبضوا " المفيـد" وتركوهم في عرض البحر بلا مجيب ..هم لم يشعروا به من شدة الإرهــــاق والتعب ..إغفاءتـهــم تلــك كانت دلالة واضحة على أنـهم سكارى نجاح الرحلة ..بدا جليا لهم أنـهم ركضوا كالأيتام أيام عيد الفطر دون أن ينتبهوا للحظة واحدة إلى حقيقة هذا المركب.. هذا البحر ..وأن رغبة الوصول إلى سواحل " ايطاليا " جعلتهم يغوصون في أعماق الأعماق وينتشون من سفرهم هذا...
كل الأماني المباحة في هذا العالم ...
الماء ..ما زال ماء.. والمركب يزداد اهتراء.. والوجوه تزداد اصفرارا.. حمم بركان تتناثر تسعـى لحرق كل شيء.. أمـــواج
الصمت تصارع أمواج البحر العاتية ...حكايات وحكايات عبرت هاته الأجساد تفاعلت في بوتقة ذاكــــرة واحدة وهي الخروج عن النص على المألوف ولتنطق ما تشاء.. فتحت الماء ماء .. وفوق الماء نحن ..ومن فوقنا الله.. الغفور.. الرحيم
( ....الوالدان معلولان وعلتهما لا شفاء منها إلا بوفرة المال والإخـــوة جياع.. كساؤهما هـــو الصيف هو الشتاء ...سئمت النظر إليهم وهم يهربون من المدرسة واحد ا تلو الآخر وحجتهم في ذلك سؤال واحد : وأنت ماذا فعلت بشهادة الليسانس التي تحصلت عليــها منذ أربع سنوات.. كلنا نعرف أن شقاءك كان عظيما حتى تحصلت عليها وفي ختام كل مرة يأتي من هو أدنى منك ليسرق منصب الشـــــغل المـــنتظر دون مــسابقة... دون إعلان ..
(....لم أدر ماذا حدث ..كنت خارجـــا من المسجــــــــــد فجرا..ففي لمح البصر امتدت أياد غليظة إلى عنـــقـــي.. قيّدتني.. أصــرت على أنني من حـزب مـحــل وأصرت على
أنني بريء.. اتـهمـــوني بأني ضد القانون ..ضد الدولة ..ضد الله ..وبعد أسبوع من السين والجيم وقتـــل للفحولـــة والانسانية... قالوا: عفوا سيدي.. حدث خطأ في العنوان.. وأصـــــروا بأغلظ الأيمـــان أن يعيدوني إلى المسجد لأصلي الفجر... ومن ساعتها أصبحت في نظر النــاس والمصــــلين شيطان في ثوب أبيض وأصبحوا يتحاشون مجرد النظر فيّ...
(.....لم تحترم ليالي السهاد وأحلام الصبا.. لم تحترم أشعاري المبتذلة وقصصي عن الحب والأحبة.. لم تحترم فضل الليل على النهار.. بل اخــــــتــارت اللاحب على الحب ..ومضت في طـــريق مقفر.. مملوء ببيــــع الهوى ....
(....قالوا لي.. أنت ضحية إرهاب ولا ذنب لك مطلقا.. ولم يبق من ذويك أحد غيرنا.. نحن الأهل والأحبة والإخوة ..ستبقين داخل هذا المركز ريثما نعمل المستحيل لإيجاد عمل لك ....ولقد عملوا المستحيل فعلا ..فكل ليلة يأتي أحدهم بفكرة عمل وحتى أحصل عليها لا بد أن أنسى أنني ضحية إرهــــــاب ..وأني محــترمة جدا.. جدا.. وأنـهم الأهل والإخـوة .........)
من في المركب المهترئ صعقوا لهذا الصوت الأنثوي يتغلغل بشدة كضربة خنجر ولم يستيقظوا من الهول إلا على هول أعظم منه....
صوت حاد يخـترق صمتهم اللعيـن ..وأضـــواء كاشـــفة تتفرس
وجوههم ...ولكنات مجهولة في الفضاء المظلم تتضح رويدا.. رويدا.. تسري في أبدانـهم مثل التيـــار الكهربائي الصاعـــق ..أنفاس لاهثة هتفت بكلمــــة واحدة ....
- إنــهـم الايطاليون
- سيدي إنـهم "حراقة جزائريون"
- كالعادة لم يختلف الأمر
قالها الضابط الايطالي على مضـض وهو يمرر ضوء مصباحه بينهم ...
بقدر فرحتهم الداخلية بالنجاة من الضياع في عرض البحر
بقدر ما ازدادت حلقة بؤســـهم اتساعا ..فالرحلة.. أدركت النهاية.. وأي نـهايــــة..فما تبقى من المصير عرفوه من إشــارة الضابط الايطـــالي وهــــو يأمـــر مساعده ..
- احجزوهم جميعا بعد أن تسجلوا أسماءهم
البعض منهم امتعض لهذا الحديث وأسّرها في نفسه.. مستسلما للأمر الحاصل .. أما البعض الآخر فبلغ الغضب به حـد الجنون ...هل انتهى الحلم ؟! هل انتهـــت حكاية مركب صغيـــر مهترئ يعج بأربعين نفرا...؟!!
هو.. نفسه الموت ...ضربة موجعة اخترقتهم في الصميم.. انفعالات ذاتية وجماعية.. قاسية لا ترحم ...تراجعوا بحركة بطيئة قليلا إلى مؤخرة المركب ثم وقفوا صامتين زمنـــا يراقبون فيها أصحابـهم وكيف يساقون بوحشية إلى الأعلى..دون إحترام ..دون شفقة ..وكأنـهم ليسوا بشرا ..وكأنـهم جاؤوا إلى إيطاليا ليهتـكوا عرضها ..لا للعمل أو لإثبات الذات ...
ثم استداروا في نفس اللحظة بعد أن أعلنوا بصوت واحد...
- مستحيل.. الماء... ولا سجون ايطاليا
احتاج الأمر إرادة كبيرة لاختيار الصعب وها هو الآن يحتاج إلى إرادة أكبر لاختيار الأصعب.... الموت
الضابط الايطالي هاله المنظر.. تجمد في مكانه برهة من الزمن استعاد بعدها توازنه :
- لا تدعوهم يهربون ..
ألقى رجال الخفر بنور مصابيحهم في كل مكان.. الظلام تـفجّر في صدور من رحلوا ..حالة هيجان واستنفار ضربت كل الاحتمالات الممكنة وغـــير الممكــــنة عرض الحائط ..لم يجد على إثرها الضابط الإيطالي حرجا
و كمحاولة أخيرة ...إعطاء الأمر إلى رجاله ...:
- أطلقوا الرصاص
القالة ولاية الطارف في جويلية 2009
هناك تعليق واحد:
مدونه ممتازه شكرا لخدماتكم
إرسال تعليق