2012/04/01

نموذج الأمومة الخالدة وتقنيات القص الفني في رواية (دمعتان .. وبسمة) للروائي كارم عبد الغفار

نموذج الأمومة الخالدة وتقنيات القص الفني
في رواية (دمعتان .. وبسمة) للروائي كارم عبد الغفار
خالد جوده أحمد

الجمال بطبعه لا يقنن له، مقولة أطلقها الناقد د. محمد مندور، عندما تحدث حول الدور الشخصي للذوق والتأثر، وباعتبار ملكة التفكير تعمل علي تجسير العلاقة بين الذوق الذي هو منتجا خاصا، والمعرفة باعتبارها شأنا عام، يقول: (ويصبح الذوق وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدي الغير بتبرير وتفسير الإنطباعات بحجج جمالية وفنية يقبلها الغير)(1)، ومن هذا المنطلق أتناول بذوقي الخاص هذا المنتج الروائي الذي يمكن تصنيفه بعنوان (الرواية القصيرة)، وهو شكل نشأ في منطقة تماس أدبية، كائنة بين القصة القصيرة والرواية، وهى رواية (دمعتان وبسمة) للروائي كارم عبد الغفار، وهو كاتب في التاريخ والتراجم ومسرحي وشاعر (فصحى/عامية)، وروائي له عدد من الإصدارات في جميع هذه المجالات، منها: هنرى فورد - نور الدين محمود – رائد الإصلاح الأفغاني - وغيرها، ولعل دافعي علي إجمال لتناول الراوية هو اعجابي بها مما شحذ ذوقي للكتابة، فإضافة إلي تلك الكتابة للروائي في مجالات متنوعة، أجد أنه يجب الإحتفاء بمنتجه الروائي بصفة خاصة، حيث أصدر روايتين تعتبرا من كتب النفس الواحد، ما أن يمسك القارئ برواية منهما حتي تمتد تلك الأنامل الساحرة للفن لتمسك به تماما ولا تفلته حتي الحرف الأخير، ويعود هذا التشويق من وجهة نظرى إلي تلك التقنيات الروائية العالية من حيث اللغة والأسلوب الأدبي، واستخدام أداة الراوي والمروى عليه في أفق الرواية، ومزج السرد بالحوار بالوصف في إتزان، إضافة إلي القيمة الموضوعية الهامة والشيقة والمعبرة عن أصول في الشخصية المصرية عريقة، والروايات الصادره له من دار الفاروق (رواية دمعتان وبسمه، ورواية الغوله) ولو واصل كاتبنا نشاطه الروائي فنتوقع له أن يكون منتجه الروائي علي درب الروائين الكبار.

هذا إجمال له التفصيل التالى:

تطالعنا صفحة الإهداء (إلي سيدة نساء العالمين التي علمت النساء كيف يصنعن الرجال إلي امنا خديجة رضي الله عنها)(2)، لتؤكد علي القيمة المحورية في الرواية، حيث أن شخصية الحدث الروائي الرئيسة هي "خديجة" الأخت الكبري، أيقونة العطاء، والشمس الدافئة التي تدور حولها مدارات الشقيقين (راويا الحدث بضمير المتكلم عبر التناوب وإن توحد المنظور) المتلقين لذلك الفيض، خديجة في وعي الروائي الأمومة ومعادل الوطن، ومانحة الدفء ومُورثة الحب، تزرع الرجولة، وتمد أسباب النماء في النفوس، وهنا نجد الخلفية الفكرية التي يستند إليها الروائي، ترد الإعتبار للمرأة وتوضح دورها الكريم في الحياة في ظلال القيم الرفيعة، حتي انني استشعرت أن حكمة الرواية استمدت ضيائها من نبض مقولة (زملوني .. زملوني)، يقولها إنسان العصر الحديث وهو يرنو إلي شاطيء الأمان.

وعبر التنقيب عن تقنيات القص الفني في الرواية بين أيدينا، خاصة فيما يتصل بقناع الروائي التي يتقنع بها، ويتخذها ستارا فنيا براقا يحقق قصديته، نجد تعدد الأصوات الساردة بضمير المتكلم الذي يصف مشاعره ويستبطن ذاته، ويعبر عن مواجعه وآلامه وبما يناسب أجواء الفقد من جانب السارد (جاد/حسين) للإخت الكبري (خديجة)، منتجه أثرها الدلالي حول العاطفة التي يكنها الشقيقين للملهمة الأم الحانية (خديجة)، تعدد الأصوات الساردة لا يعبر عن وجهات نظر متباينة، بل وجهة نظر واحدة كالبلورة أو الماسة لها أوجه براقة متناظرة، أو بعبارة أخري عزف سردي عبر وتر وحيد يمثل الأمومة الغارسة للقيم، والعامرة للحياة بالجمال والحب.

والمروى عليه (رجال الإعلام) غائب عن المشهد في لحظة السرد الحاضرة، حيث اتفق الشقيقان أن ينتظر رجال الإعلام ساعة من الزمن ليسطرا بالكتابة بواعث الناجح، ويعبرا بالحكي عن رحلة البطل الأصيل وراء ما قاما بتحقيقه من انجاز طبي كبير، هنا المروي عليه سيتحقق دوره لاحقا بعد ختام الرواية، بل سيتغير دوره ليكون هو الراوي عبر وسائط الإعلام، وكأنها سلسلة من الحكي للعبرة الخالدة.

والرواية عامرة بعبارات كاشفة في حكمة مصفاة مستمدة من ضمير جمعي قد يصاغ حينا في شكل مأثورات شعبية متعارف عليها وذائعة الصيت، لكن باسلوب أدبي صاف نقي، أو خلاصة مقطرة من تجارب الحياة، والتالي شواهد يسيرة تمثل عينة من مجتمعها الروائي الكلي، وجميعها مستمدة من منبع الإلهام (خديجة) عبر مواقف تربوية مؤثرة:

(في كل سبيل نحو الإبتسام لابد ان يدفع الإنسان ضريبة من الألم، حتي يقدر نعمة الابتسام، ولا يفرط في بسمته)(3)، ونجد تناصا واضحا في نصب ميزان الاعتدال عبر الشرع الحكيم الداعي للاقتصاد في المشاعر بين الأفراح والإتراح.

(القوة وحدها لا شيء، إذا لم تحطها رجولة، فترشدها)(4)، هنا أيضا ميزان الاعتدال باعتبار الفضيلة وسط بين رزيلتين.

(وهى تقول: قالت لي جدتي يوماً: الفائز في دنياه من يجيد لعبة الصبر، والفائز في آخرته من يجيد لعبة الصبر، والأبله المضيع للاثنين الذي يقول: أحيني اليوم في النعيم وابعثني غدا في الجحيم)(5)، وهنا في تلك النافذة المشرقة للنص نجد توريث الحكمة عبر رحلة الأمومة، كما نجد التناص مع مقولة تصف التواكل (أحييني النهاردة وموتني بكره)، هنا نجد نحت الروائي للعبارة الشائعة من موروث الاستخراب الروحي البغيض، إلي لغة أدبية راقية، ليمثل دور الأديب في الرقي باللغة دون أن يفلت المعني المستهدف في شيء منه.

وفي عبارة لافتة أخرى (تعلمت أن الإنسان في حاجة إلي عضلات أخري غير تلك المفتولة في عضديه وساعديه، في حاجة إلي عضلات في روحه تمكنه من التصدي لسهام الإيذاء التي لابد ان يتلقاها ممن حوله، من الناس، من الزمان، من المكان، حتي من الجمادات)(6)، وبعدها بقليل تعبير ملخص آخر يشبه حقيقية أن الأرض بيضاوية الشكل (ولكن ما البشر إلا وتر مشدود علي عود الحياة)، عبارات كاشفة عن حس غامر يتناص مع الآية الكريمة (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، ومع النص الشريف (من يخالط الناس ويصبر علي آذاهم ...)، ويمكن لقارئ الرواية أن يستخرج لائحة ممتازة من تلك العبارات المضيئة.

أمر آخر تكامل عبر الشكل الفني والمضمون ذاته، فكما أشرنا سابقا نحو النسيج السردي المتتابع عبر أصوات متعددة تأخذ برقاب بعضها البعض بإجراءات للتسليم والإستلام، نجد علي مستوي المضمون، أجيالا من الأمومة الراعية الحانية عبر ثلاثية (الجدة/الأم/الأخت الكبري)، معادل الأمومة الموضوعي، فنجد الحوار التالي:
(ستصيرون رجالا يا رجالي؟
فنجيب كأننا تلاميذ تعلمهم:
سنصير رجالا يا امه خديجة
هل فهمتم درس الجدة جيدا؟
نعم فهمنا يا جدة خديجة)(7)

وعبر براعة الرواية نجد دائرية الحكي، من خلال قصة النتيجة التي تبدأ بمشهد الختام ثم ترتد عبر تقنية الاسترجاع كى تزيل الأستار رويدا رويدا عن مسرح الحياة، ثم لا تلبث ان تدعو القارئ أن يبدأ الحكي من جديد، بتمثل المعرفة وإنتاج القيمة علي مستوي الفعل.

(قصة صبر .. أو موال من الألم .. لا.. لا.. بل هي قصة حب.. قصة حب غير عادية.. ستعلمون بعض تفاصيلها في هذه الأوراق.. وستعلمون كل تفاصيلها إذا فتشتم في شوارع مصر وحواريها ونجوعها)(8)

بقي من أفق تلك الرواية الرومانسية الممتعة، أن نشيد بالإيهام بالواقع عبر تزييل أخير بتوقيع السارد المزدوج (د/ جاد رزق محمد سالم، د/ حسين رزق محمد سالم)، مع كتابة التاريخ، لكن نقف قليلا أن الروائي حيت أراد أن يغلق الرواية انزلق إلي خطاب وعظي مباشر في الصفحة الأخيرة من الرواية (ص84)، ولو توقفت الرواية عند مشهد اللقاء التخيلي بين الشقيقين والراحلة الكريمة، وهذا الحضن الدافيء، لانتجت الخاتمة الفنية المرجوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:
1 د. محمد مندور – قضايا جديدة في أدبنا الحديث – ذاكرة الكتابة – الهيئة العامة لقصور الثقافة – صفحة (د).

2 كارم عبد الغفار – دمعتان وبسمة – رواية – دار الفاروق للاستثمارات الثقافية – الطبعة الأولي – 2009 – ص 5.

3 الرواية – ص 13

4 الرواية – ص 24

5- الرواية – ص 26

6 الرواية – ص 52

7 الرواية – ص 71

8 الرواية – ص 81


ليست هناك تعليقات: