مَناسِك حَمّام الجَدّة
سعاد محمود الامين
قَدمت الجَدّة فاطمة
دون رغبتها الى المدينة، من قريتها الكائنة حيث ينحنى نهر النيل ثم يستقيم مسرعًا نحو
الشمال يَشق التِيه تحُفه الأشجار والرمال وآثار التاريخ القديم. فقد الحَ عليها ابنها
الوحيد أن تأتى لتعيش معهم فى المدينة. حيث يشغل مركزا مرموقا ويعيش مع زوجته وطِفْليه.
عندما علمت بنبأ رحيلها من القرية إنتابتها حالة من الإكتئاب. لأنها تكره الرحيل لإرتباطها
العميق بجذورها فى القرية، فأودَعت أغنامها
للحاجة نفيسة لترعاهم فى حظيرة أغنامها حتى عودتها.
مَرت الأيام وأعقبتها الشهور، وهى تنادى بالرحيلِ
حيث ينحنى نهر النيل. وابنها يوعِدها بالرجوع للقرية يومًا بعد يوم حتى يئست. وأصبحت كثيرة الصمت، لاتداعب
أحفادها كما كانت ولاتتحدث مع زوجة ابنها.
وإنعزلت نهائيًا عن
مجتمع المدينة، لاترحب بالزوار ولاتخرج مع الأسرة. تجتر ذكريات القرية. وصاحباتها المُسنات،
عندما يجلسن ليتسامرن طوال اليوم تحت شجرة
النيم الظليلة فى بيتها المتواضع المبنى من الطين كبقية بيوت القرية، تغشاهُن غفوة تقدم العمر لاإرادياً فينُمن كأصحاب
الكهف . ثم تزول الغفوة. يحتسيّن الشّاى طوال النهار، حتى إذ إنقضى النهار مُفسحا للليل
مكانه، توشحت القرية السواد الحالك، وينبَلِج ضُوء القمر وتتسربت خيوطه الفضية بين
أشجار النخيل، لترمى بظلالها التى تتحرك مع نسائم الليل كالأشباح على صَفْحَة النيل
. عندها يخرجن النسوة لجلب الماء . كانت تتذكر
كل ذلك وتتحدث كثيرا قبل أعلان اضرابها عن
الحديث وعن الحَمّام. صمتها كدر صفو حياة الأسرة. حياة المدينة الصاخبه الفردية لاتستهويها
لا زيارات ولا خروج، حيث لاتجد العفويّة كل شئ مُتكلّف حيث تطالبها زوجة ابنها بأن
تغير لهجتها القروية التى تتحدث بها حتى لاتفضحها
مع جاراتها، وهى لاتستطيع. وأن ترتدى الثياب التى تختارها لها، وأن
تَسّتحِم كلما أمرتها بذلك. الجَدّات المسنات فى المدينة منبوذات فى حجرات تنتبذ ركنًا قصيًا من المنزل.وهذا
مأثار حفيظتها وجعلها تتمرد على حياة المدينة.
إجتمع مجلس الأسرة
ليناقش الجَدّة فاطمة لتفك إضرابها عن الكلام والحمّام. اذ صارت تنبعث منها رائحة العرق والملابس المُتسخة. رفضت رفضًا باتًا التفاوض خاصةً
الحمّام، لانها تكره حمّام المدينة المُتحضر لاتريد أن تستحم بماء يخرج من ثقوبٍ وهى تقف على حوض أبيض زَلِق هذا جنون. اتفقت أخيرًا بعد أن هجر أحفادها حجرتها النَتِنة،
وأصبحت وحيدة لايستطيع أحد الجلوس قُربها.
ذات يوم من الأيام
نادت على ابنها وهمست له: أُريد أن إستحم
قفز واقفًا وصفق بيديه
فرحًا لقد تركت أمه العِصيان. نادى زوجته وأمرها بتجهيز الحَمّام. صرخت الجدة بأعلى
صوتها: لا أريد حمام المدينة أريد حمّامى الذى تعودت عليه فى القرية. داخل حجرتى لن
أتحرك من هنا.
إمتعضت الزوجه وعبّرت
عن سخطِها بضرب أقدامها بشدة على الأرض وقذفت بالمناشف بعيدا فهى لاتعرف حمّام القرية.
اخبرت زوجها بأنها
لاتستطع مجاراة عِناد أمه. ولاتعرف طقوس حمّام القرية لانها بنت المدينة.
قالت لها الجدة: أنا..ه.ها..
زمان.. زمن ..الزمان ..زين . كنت أريد لابنى زوجة من قريتنا ولم يسمع كلامى .تعرف مَناسِك
حمّام القرية ولاتتضجر مثلك. تبا لك
صمتت الزوجة وهى تنظر
اليها نافدة الصبر تكتم غيظً،ا والجَّدة تستعرض
بنات القرية ..ه.ها. ام الحسن بنت مقبول..والرضيّة بنت أبوزيد..ه.ها.. كلهن أجمل منك
وتكيد لها.. وتكيد وتكيد حتى غفت فى سبات عميق غفوة تقدم العمر الّإرادية .
جاء ابنها وطلب منها
أن تشرح لرشا زوجته حمّام القرية. استعدلت الجدة جلستها ومَصّمصت شفتيها مُستهجنه جهل
زوجة ابنها قالت: أولا أزيلى هذا السِجّاد من حجرتى..ه.ها.. وضَعى الطست فى منتصف الحجرة..ه.ها.. واملائى الجَرّدل بالماء..ه.ها.. وضعى الصابونة فى لِيفة من لحاء شجرة النخيل..ه.ها وأحضرى كوبا لاصب به
الماء فوق رأسى..ه.ها..فهمتى شيئاً..ه..ه..ها. اسرعت الزوجة تكتم انفجار يمور فى داخلها
كالبركان. وأزالت السِجاد من على بلاط السراميك، ووضعت لها كل ماطلبته. تحركت الجَدّة
ببطء وخلعت ملابسها المتسخة. وتوسطت الطَسّت وجلست القرفصاء، وتناولت الكوب ودلقت الماء
فوق رأسها فتسرب مندفعًا فى انحناءت جسدها المُترهل متخذًا طريقة نحو الأسفل، هى تلاحقة
بالصابونة المتمردة الملفوفة داخل اللِيفة، تنفلت من يدها المرتجفه فتَلّعنها الجَدَة،
محاولة إزالت الأوساخ التى تراكت مع العَرق ابتسمت برضا فقد إنتصرت على زوجة ابنها،
فهى لم تمارس حمام القرية منذ قدومها، وانتشرت وتناثرت الرغوة على السراميك وامتلأت أرضية
الحجرة بالماء وفقاعات الصابون وعندما نهضت الجَدّة واقفةً من جلسة القُرفصاء خارج
الطَسّت وضعت قدمها على الصابونة فزَلّت وسقطت محدثا ضجيجًا عاليًا اذا حاولت التمسك
بالجردل فانزلق هو الآخر مُغرقاً الحجرة بالماء.
هرول الجميع لاستجلاء الخبر فوجدوا الجَدة ملقاةٌ على الأرض عارية، اسرع ابنها والقى عليها ثوبها، ونُقلت للمشفى لعلاج الكسور
المُركبة التى أصابتها إثر مَناسِك حمَام القرية.
قطار الشمال ينهب
الأرض نهبًا فى اتجاه منحنى نهر النيل حيث تطلّ الجَّدة من النافذة
فترى السُرة، وسعدية، ونفيسه، وصالح صاحب الكَنْتِين والكَجم الجزّار، والحَقِى
بائع الخضار، والترزى عبد الكريم وكل القرية التى إفتقدتها فرحة بقدومها،رَسمت خطواتها
فوق الرمال، وعادت أغنامُها الى الحَظِيرةِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق