من حياة المدير .....
عبد العزيز مشرف
" يقولون إنك بعت المائة فدان الملك يا محمد أفندى " قالها وهو
يقف خلف المتوضئين فى المسجد ينتظر دوره للوضوء ؛ فيضحك الجميع من كلامه ،
ويرد محمد أفندى : " ويقولون إنك أنت من اشتراها " ، تتطاير الكلمات من
أفواه الواقفين مع رذاذ ماء الوضوء مشتبكة معهما فى حميمية من سيقف
أمام الله ليصلى بعد قليل ، وما إن ينصرفوا من الصلاة حتى
يستأنف " المدير " كما كان يلقب حديثه
موزعاً كلماته التى تسمعها فلا تتمالك نفسك من الضحك ويبقى هو الوحيد الذى
لا يضحك .
قبل سن
المعاش كان يشغل منصباً كبيراً بوزارة الشئون الاجتماعية ؛ لذلك لقبوه بالمدير ،
لم يسبق له الزواج لملابسات تتعلق باعتقال قديم وآثار تعذيب ، والحياة – كما
تعلمون – دائرة سائرة لا تتوقف لأحد ، يعيش وحيداً فى بيت ريفى
كبير نفس البيت الذى ولد فيه ، بيت عليه ملامح عز قديم شاحب ، شاخت
معالمه ، لكنه أصيل يحتضنه رغم ذهاب الجميع عنه ، الإخوة هاجروا إلى البلاد
الباردة ، والأخوات منهن من توفين ومن يعشن فى بيوتهن ، وحده بقى فى بيت أبيه وأمه
، بالليل تجمعه سهرة بأصحاب يشبهونه فى أشياء ، منهم الشيخ الضرير ذو العلم الشرعى
والدراسة الأزهرية الذى يجد فى صحبة " المدير " ورفاقه سلوى
، ومعهم شباب حدثاء الأسنان لم يدخلن دنيا – بعد – يجدون فى الرفقة
هذه خبرة الحياة المبعثرة ، ربما قرءوا مع الشيخ الكفيف كتاباً ، او استفتوه فى
مسائل تعن لهم ، أو يدور الحديث عن الزواج وصبواته ومتعه وآهاته كما يكون الكلام
بين رجال يتضاحكون ويتسامرون خاصة فى رمضان بعد التراويح وحتى السحور ، ينفضون من
عند " المدير " وكل منهم يجد لحديثه إذا ما أعاده على ذهنه وجاهة
لا تخلو من فكاهة ، ورجاحة لا تخلو من صراحة ، فيهز كل منهم رأسه هزة المتعجب
المتأمل من الرجل الذى أودع الله فيه مادة المرح ، فيضحك كل من يسمعه
ويخالطه ، وهو وحده الذى لا يعرف الضحك إليه سبيلاً .
فى أيام
الصيف كان للمدير عادة أو قل هواية : بعد صلاة العصر يركب دراجته "
النصر" الكبيرة التى لم يعد طرازها موجوداً بالبلدة ، ويعلق
بيدها دلواً ، ويتجه إلى المقابر فيروى الزرع أمام قبور أبيه وأمه وإخوته ويرش
الأرض حولها ، ويجلس يقرأ الفواتح لهم جميعاً ، وقبل المغرب يعود كما ذهب ، فلا
يمر بجماعة إلا استرعاهم واستضحكهم من حيث لم يحتسب ، إما لذكرى سابقة معه ،
أو لهيئته التى تتحدى مألوفهم خصوصاً حين يلبس الجلباب " الدمور"
المخطط أزرق فى أبيض الذى لم يعد أحد يراه إلا عليه .
أمّا فى يوم
العيد فللبلدة عادة كادت تنقرض : يذهبون للمقابر فى الصباح البكر ويعودون ليجلسوا
للاجتماع والمعايدة بجوار مقام الشيخ " أبو سليمان " ويأكلوا منين ودقة
بملح وكمون ، فى هذا اليوم " المدير " هو بطل المشهد ، المتحدث
الرسمى المعتمد لدى الأسماع ، فلا تلتفت إلا إليه ، ولا يصغى القوم إلا
لكلماته المازحة الماكرة التى تضحكهم على حالهم فى سخرية مرّة إذا ما تناولت
شاناً عاماً أو مصلحة للقرية ، يضحكون لحديثه الطلق التلقائى حتى يكاد الواحد
منهم يسقط من الضحك ، فإذا ما انصرفوا سمعتهم يقول بعضهم لبعض :
" والله المدير معه حق فى كل ما قاله " فيكون الرد : " المهم – يا
أخى أنه يضحكنا دوماً ، وهو لا يضحك أبداً ، كأنه بنا يضحك ، أو يضحك
علينا " .
هناك تعليق واحد:
Dank den Themen .... Ich hoffe, mehr von den Themen
إرسال تعليق