2012/12/02

قصة كائن ثلاثي الأبعاد للكاتبة/ بثينة محمود

 كائن ثلاثي الأبعاد

القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة مكتبة الاسكندرية 
بثينة محمود
لم أكن يوماً شخصاً "مستوياً" ك الآخرين، كنت رجلاً ثلاثي الأبع اد بينما الآخرون جميعاً دوائر أو مربعات مرسومة على الو رق، لم أصرح أبداً لأحد بما أرا ه؛ أرى الناس جميعاً بلا "سُمْك"، أتعامل مع رقائق بشريّ ة منذ الصغَر، ولكني كنت مختلفا ً بلاشك! كنت أقف أمام المرآة وقفة جانبية فأرى لي هذا السُمك وكنت أجعل إخوتي يقفون وقفتي ف لا أرى منهم غير طبقة رقيقة؛ وَرَقَة رفيعة تمتد من ا لرأس وحتى القدم، وكنت أضحك كثي راً فيصيبهم الجنون، وصرت غريب الأطوار! أنا غريب الأطوار! لعلّي نشأت على هذا ولم أتّعظ م ن أمور كثيرة لم أفهمها في صغري حيث كنت أبادر بالاعتداء على الأشرار الصغار م ن رفاق اللعب وأصيح بأحدهم زاعق اً: سأُكَرمِشَك بقبضة يدي.. وأنهال عليه بقبضتي فتتورّم ويس يل دمي، عرفت مع الوقت أنهم رغم هشاشتهم البادية أقوياء وأنه يجب عليّ الإحتراس. ولمّا كنت الأوسط بين أخوتي فقد كان هناك تيه يحيط شئوني ونسيا ن يُغلِّف كل أموري! كان يكبرني اثنان وتصغرني اثنتا ن، ولم يعبأ أحد بتفحٌّص ضحكتي الماكرة ونظرتي الساخرة لأجسادهم الفارغة، لم تتوقّف أم ي أمامي يوماً لتسألني: ما بك ي ا بني؟ ولم يعبأ والدي بسؤالي يوماً عن دمي الذي يسيل في معارك كنت أراها محسومة لصال حي لكنها تنتهي لغير ذلك، كنت أعود دامياً فلا يترك جريدته ليلقي نظرة على حالي! لعلّه الاعتياد.. عندما اشتدّ عودي وخبرت العالم من حولي بدأت أفكر بأنني مريض و قررت الذهاب لطبيب؛ طبيب عيون، حيث رأيت أن الأمر يتعلّق بقدرتي على الرؤية ، لا تفسير آخر قادني إليه ذهني غريب الأطوار، ولكن الطبيب - ثنائي الأبعاد - أكد أن عينيّ على ما يرام! وعندما انتهيت من دراستي وبدأت أبحث عن العمل. كنت قد خبرت الد نيا أكثر فقررت قبل أي شيء أن أذهب إلى طبيب نف سيّ، نعم ... تمدّدت أمامه على "الشيزلونج" الشهير وبدأت أحكي، فدعاني الرجل لأن أ لمسه، تحسّست يديه وأصابعه وشعر ت به مثلي، كان ذلك ما يحدث عندما ألمس أي إنسي تماماً ، لكني لا زلت أراه مستوياً!! أ خبرته بأمر عينيّ السليمتين؛ فطفق يتحدّث بمصطلحات علمية عجي بة لم أفهم منها حرفاً ليُحلّل المال المدفوع سلفاً في الزيارة.. أظنني خرجت من عند الطبيب مُحمّ لاً بأسى ضاعف سُمْكي، وجلست عل ى المقهي لساعات طوال أرقب ثنائيي الأبعا د يتحركون كعادتهم، وأتاني صديق كورقة اللعب التي تحمل رأس الولد ليجلس معي ويحكي عن تفاصيل يومه فلا يرى دموع مكتومة تكاد تُفجِّر عينيّ. لم يصدّق أحد أن أوراقي قد قُ بلَت في تلك الشركة الزاعقة الن جاح وظنّوا أنني أبالِغ، لم يتيقّنوا إلا عندما لملمت مل ابسي وودّعتهم في طريقي لموقع ا لشركة بقلب الصحراء! وقتها هطلت دموع أمي لأجل فراقي! واحت ضنتني في صدرها الذي رأيته مُ سطّحاً وأحسسته عند انغماسي فيه دافئاً كفراش الشتا ء بعد أن أملئه نوماً.. " أحسسته" حضنا عميقا لكنه يستحيل في عينيّ برقّة الورقة عندما أخ طو إلى الوراء، في تلك اللحظة د اهمتني فكرة زواجي، ورأيت أنني سأتعذّب لو كانت زوجتي مثل هم جميعاً.. كنت قد بلغت الثاني ة والثلاثين من عمري عندما نلت الماجستير الذي أشرف عليه أ ستاذ فائق الاستواء وكأنه ورقة "بفرة"، ولكن الرجل كان حازماً جداً رغم ذلك! ظللت بعاهتي الخفيّة أو ظلّوا ه م بعاهتهم المستمرة في عيني حتى صحوت في اليوم التالي لتكريمي مُختلفاً تمام ا لاختلاف ... تكريمي؟ كان ذلك لإ نقاذي الموقع من كارثة مُحققة كاد أن يتسبّب بها زميل لم أفضح أمره، لكنني على العكس احتضنته وظللت أهز كتفيه مُبتسماً وأنا أشعر بهما بين يدي وأرى استدارتهما بعيني!صاروا جميعاً فجأة بشراً طبيعيين أو هما عينا ي استقامتا فجأة، لا أدري، المهم أني كدت أجن وقبّلتهم واحتضنتهم جميعاً مراراً حتى قالوا أنني: غريب الأطوار!

ليست هناك تعليقات: