كراسة
قديمة ( 01 )
بقلم: عبد الله لالي
الجزائر
عثرت في مكتبتي على
كرّاسة قديمة فيها ملخّصات وفوائد نفيسة؛ لبعض الكتب التي قرأتها ففتحتها وبدأت
أقرأ ما كتبته فيها، ورغم أنّني لم أعثر على أيّ تاريخ يدلّ على سنة أو سنوات تلك
التدوينات والتلخيصات، لكن فيما أذكر هي تعود إلى زمن تسعينيات القرن الماضي، أي
قد مضى عليها ما يقارب العشرين سنة..
كتاب المزهر في اللغة:
وجدت في صفحة الكرّاسة الأولى
ملخّصات ورؤوس أقلام أُخذت من كتاب ( المزهر في اللغة ) للإمام السيوطي( ت 911 هـ
) وأذكر أنّي استعرت الكتاب من مكتبة المركز الثقافي بوسط قريتي، وقد كانت تدير
المركز جمعيّة آفاق الثقافيّة وقد تحوّل المركز إلى مركز للتكوين المهني، وخسرنا
بذلك صرحا ثقافيّا لا يعوّض..
وهذه بعض النقول القيّمة من تلك
الكراسة أخذت – كما قلت من كتاب المزهر في اللغة – مع بعض التعليقات التي يفتح
الله بها والتي أراها طريفة وظريفة:
" امرأة متئام: من عادتها أن
تلد كلّ مرّة توأمين، ومذكار تلد الذكور ومئناث تلد الإناث.."
وهذه الألفاظ وإن كانت فصيحة
وبليغة إلاّ أنّها صارت اليوم نادرة الاستعمال، إن لم نقل صارت مهجورةً، ويستعمل
الكُتّاب عبارات طويلة ركيكة مستهجنة، تنفر من العربيّة نفورا وتفرّ منها فرارا..
ووجدت بيتين من الشعر لا أدر مَن
قائلهما:
حفظ اللغات علينا * * *
فرض كفرض الصلاة
فليس يُضبَط دين *
* * إلاّ بحفظ اللغات
وهذا رأي عامّة العلماء والدّعاة،
وكبار المفكرين الصّادقين من أبناء الأمّة، يولون للّغة أهميّة كبيرة هي قرينة
الدّين ومصاحبة له، وقد لخّص ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس حين قال:
" الإسلام ديننا والعربيّة
لغتنا والجزائر وطننا " ثمّ وجدت قصّة طريفةَ للأصمعي عن شعر الخنساء، قال
ابن خالويه في شرح الدرديريّة:
" خرج الأصمعي على أصحابه
فقال لهم:
-
ما معنى قول الخنساء:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا * * *
وأندبه لكلّ غروب شمس
لمَ خضّ هذين الوقتين ؟ فلم يعرفوا
فقال:
فقال: أرادت بطلوع الشمس للغارة،
وبمغيبها للقِرى "
والبيتان يحتملان معنىً آخر قد
تكون الخنساء قصدته وهو أنّها تذكر أخاها صخرا صباح مساء، أي في كلّ وقت، ولكنّ
الأصمعي أعلمُ بالشعر وأكثر فهما للغة العرب وعاداتهم وتقاليدهم، وما يأتون وما
يتركون.. !! وإنّما ذكرت أنا المعنى الثاني لأنّه خطر
ببالي وتحتمله لغة البيتين..
ومعروف أنّ القبائل العربيّة كان
بعضها يغير على بعض ويعتدي القويّ منها على الضعيف، وكانت أفضل أوقات الغارة عندهم
الصباح الباكر، وكانوا رغم جاهليتهم وكفرهم يُقرُون الضيف ويكرمونه ويتفاخرون
بذلك، وصخر أخو الخنساء اشتهر أيضا بكثرة غاراته على بعض القبائل العربيّة، وقد
قتل في إحدى تلك الغارات، كما عُرف كذلك بسخائه وكرمه ولذلك كانت أخته الخنساء
تذكره وقت الغارة في الصباح، ووقت القِرى في المساء.
وأحبّ هنا أن أنوّه بالأصمعي( 216
هـ ) هذا الرجل الذي يعتبر من عمالقة اللغة رواية وفهما، ورجال اللغة أمثاله
يُعدّون في التاريخ عدّا..
ووجدت في الكرّاسة أيضا:
" اللابّة الحجارة السّود،
والبصرة الحجارة البيض" وقد ذُكرت كلمة لابّة في الحديث النبويّ عندما قال
الصحابيّ للرسول صلى الله عليه وسلّم:
" فو الله ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهلَ بيت أفقر من أهل بيتي
! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال : أطعمه أهلك ".
ولابّتا المدينة جهتان من المدينة
تكثر فيهما الحجارة البركانية السوداء، هكذا قرأنا وهكذا سمعنا، وإلا فما زرنا
المدينة ولا نعرفها عيانا، رَزَقنا الله زيّارتها ورحم الله امرءا قال: آمين..
قطوف أخرى من كرّاستي ( 02 )
أمّا البصرة فتعني الحجارة البيض
فهذه فائدة جديدة، كنت استفدتها من الكتاب ونسيتها فذكرتني بها الكرّاسة، ولعلّ
البصرة سميت كذلك لكثرة الحجارة البيض بها..
وفي الكرّاسة أيضا نفائس لغويّة
كثيرة لا أدري عندما أقرأها أشعر بنشوة كبيرة، لاسيما ما كان منها من نوادر اللغة
وعجيب الشروح لآي القرآن أو الحديث أو عيون الشعر العربيّ.. ومن ذلك ما كتبته
بخطّ ( الريشة ) وكنت أحبّ الكتابة
بالريشة كثيرا، ولقد كتبت بها أزيد من عشرين سنة حتى حسن خطّي وصار مقبولا، وأذكر
أنّني عندما دخلت إلى امتحان شهادة البكالوريا وأنهيت الإجابة على أحد الامتحانات،
ذهبت لتقديم ورقتي، حيث وضعتها على المكتب وهممت بالخروج فناداني الأستاذ المشرف
وسألني عن هذا الخطّ الذي كتبت به.. فقلت إنّه خطّي فقال: بم كتبته فقلت بالريشة،
فقال أين هي ؟ فأشرت بها إليه قائلا: هي ذي فعلّق قائلا:
-
كأنّه خطّ مطبوع.. !!
قلت ووجدت في الكراسة بخطّ الريشة:
" قرأ
الأصمعيّ على أبي عمرو بن العلاء شعرَ الحطيئة، فقرأ قوله:
وغررتني وزعمتَ أنّـ * * ك
لابن بالصيف تامر
أي كثير اللّبن والتمر فقرأها : لا
تَنِي بالضّيف تامر ..
يريد لا تتوانى بتعجيل القرى إليه،
فقال له أبو عمرو: أنت والله في تصحيفك هذا أشعر من الحطيئة "
وبطبيعة الحال القصّة واضحة
ومفهومة لدى أرباب اللغة والملابسين للأدب والشعر، يتنفّسون هواءه صباح مساء، ولكن
لا بأس من أن نزيدها شيئا من الوضوح:
يقصد الحطيئة في شعره أنّ المخاطَب
يكثر اللّبن عنده والتمر بالصيف، وهذا وصف بكثرة المال والخير، وفيه إشارة خفيّة
وقد تكون مقصودة أو غير مقصودة بأنّه كريم سخيّ..
فقرأ الأصمعيّ البيت مصحّفا، أيّ
أنّه حرّف في قراءة كلماته فبدّل وغيّر فتغيّر المعنى، ومعنى التصحيف في اللغة أن
يقدّم حروف كلمة بعضها على بعض أو يشكلها على غير وجهها الصحيح، فلمّا صحّف
الأصمعي في كلمتين صار معنى البيتين؛ أنّك تكثر إطعام التمر لضيوفك بالصيف وهو
نادر في ذلك الوقت ( الصيف )..
وذلك يدلّ على كثرة الكرم والجود
وعظم السّخاء، والمعنى بالتصحيف أقوى من المعنى الأصلي، لذلك قال له عمرو بن
العلاء، أنت والله في تصحيفك هذا أشعر من الحطيئة.. !
ودوّنت أيضا هذا البيت الرّائع
والمدهش من ذلك الكتاب القيم (المزهر في اللغة ):
" كذا قضى الله للأقلام إذ
بُرِيت* * أنّ السيوف لها مذ أرهفت
خدم
وذكر أيضا – وله علاقة به – قول
المأمون:
لله درّ القلم كيف يحوك وشيَ
المملكة ! "
المأمون رجل يعرف للكلمة تأثيرها
وللعلم أثره، ..رغم أنّه صاحب فتنة خلق القرآن، ذلك زمن عندما كان للقلم فيه صولة
ودولة فعزّ المسلمون وسادوا..
ووجدت أيضا مخطّطا مبسّطا لتصنيف
علماء اللغة من البصرة و الكوفة:
فكتبت تحت مدرسة البصرة:
-
الخليل بن أحمد
-
سيبويه
-
الأصمعي
-
أبو عبيدة.. وغيرهم.
وكتبت تحت مدرسة الكوفة:
-
الكسائي
-
الفرّاء
-
المفضّل الصبيّ
-
حمّاد الرّاوية.. وغيرهم.
وفي مدرسة البصرة أبو عمرو بن
العلاء وفي مدرسة الكوفة أبو عمرو الشيباني، كما يوجد الأخفش في كلتا المدرستين،في
البصرة الأخفش المجاشعي، وفي الكوفة الأخفش الكوفي..
وإذا قرأنا مثل هذه الأسماء اليوم
على شبابنا لا نكاد نجد أحدا منهم يعرفهم، أو حتى يسمع بهم، حاشا بعض طلاّب الأدب
وقد لا يعرفون منهم سوى الخليل بن أحمد أو سبيويه، لكن إذا حدّثتهم عن أشهر لاعبي
كرة القدم وأشهر مغنيي ( الرّاب ) و( الهيب هوب )، فإنّه يأتيك بقائمة مفصّلة
ومدققة عن حياتهم، وأغانيهم أو مقابلاتهم وأنديتهم الرّياضيّة..
ووجدت بخطّ الريشة أيضا:
" حمّاد الرّاوية غير ثقة عند
البصريين.. والشعر أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكنّ أكثره مصنوع ومنسوب إلى غير
قائليه..كلام أبو الطيّب اللغوي.."
وهذه التدوينة ترجع بنا إلى ما
كتبته في مقالة سابقة عن طه حسين وطعنه في التراث العربي بسبب فكرة ( النحل في
الشعر ).. فنرى كيف أنّ علماء اللغة كانوا على دراية بمنحول الشعر وصحيحه، ولم
يغفلوا ذلك بل كانوا يعرفون من ينحل الشعر لغيره، فقالوا عن حمّاد الراوية بسبب
ذلك أنّه غير ثقة..
ومما قرأته عن مدرسة البصرة
والكوفة في مصدر آخر، هو أنّ الكوفة تعتبر مدرسة الرواية والسماع ولا تعتمد
القياس، بينما مدرسة البصرة تعتمد العقل والمنطق ولذلك توسّعَت في القياس وقلّت
لدى رجالها الرواية، وكان ذلك سببا أيضا لكثرة الشعر عند الكوفيين واحتجاجهم به،
وقلّته عند البصريين وعدم التوسّع في الاحتجاج به، إلا بورود الرواية الثابتة على
وجه القطع واليقين، وهما في ذلك يشبهان إلى حدّ بعيد مدرستي الفقه والحديث بالنسبة
لعلماء الدّين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق