سقوط بائع البطاطا
خيري عبدالعزيز
طوال
عامين والرواج الذي تشهده من توافد المتظاهرين علي الميادين العامة
والشوارع الرئيسية هو سرك الصغير الذي تدفنه في صدرك, فأنت لم تَبع طوال
حياتك التي لم تتجاوز الثالثة عشر مثلما بعت من البطاطا خلالهما.. حقا كم
لهثت, وسقطت, وضُربت, وتدافعتك الأجساد, واستنشقت من الدخان المسيل للدموع
ما كاد يزهق روحك أكثر من مرة, وطالتك بضع من رشات الخرطوش في
أكثر من موضع في جسدك الصغير, ولكنك ها قد اعتدت الأمر, ولم تعد رائحة
الدخان تجدي معك نفعا, ولم يعد بامكان طلقات الخرطوش أن تنالك, فقد اكتسبت
مع الوقت قدرة عالية علي المراوغة, وتوقع مذهل لمجريات الأمور, وحدس غير
عادي بايقاع الأحداث, وكيف تلتمس بحذق تُحسد عليه أأمن الأمكان حتي تهمد
الاضطرابات وفورة الغضب.. هكذا علمتك التجارب أكثر مما علمت الطرفين
المتناحيرين: المتظاهرون, ورجال الأمن.. ربما لأنهم كل يوم يأتون بوجوة
جديدة, يتوافدون كموجات بحر مكفهر مضطرب, ولا موجة تشبه أختها, ولا ثابت
إلا أنت والميادين والشوارع, وكذلك لا حيادي غيركم,
فكما سمحت الميادين للجميع بالتجمهر, وكذلك فعلت الشوارع لموجات لا حصر
لها من كر وفر, فعلت أنت بالمثل وأعطييت "بطاطتك" المشوية بلا تمييز لكل من
مد يده إليك: لأصحاب اللافتات البيضاء, ولحاملي السيوف والسنج, وأيضا
للملقين بالقنابل المسيلة للدموع.. دائما كنت حياديا لأبعد الحدود, فأبدالم
تؤثر أحدا علي أحد, ولم تنحز يوما إلي فريق دون أخر, كلهم بالنسبة إليك
سواء: مصريون تعساء منكوبون في حكامهم.. وأيضا لم ترهق نفسك لحظة بالتفكير
لتحديد نقاط الخلاف, حتي البلطجية من حاملي السيوف والسنج تلتمس لهم العذر
بفطرتك النقية, وتظن في نفسك أنهم يتكسبون
لاطعام أفواه أضناها الجوع كما تتكسب أنت من بطاطتك المشوية من أجل اطعام
اخوتك الصغار.. وكنت إذا ما سقطت -رغم خبرتك وحذرك تحت الأقدام المهرولة
الهاربة من دفعات خرطوش الأمن- لا تحمل مطلقا ضغينة لأحد عندما تنهض, فقط
ترفع التراب الذي علق علي "ترنجك" الأزرق الوحيد, وعن وجهك الطفولي البريء
الذي تعفر, وتبحث عن عربتك التي أخذها الطوفان بعيدا عنك؛ لتتنفس الصعداء,
وتشعر بالبرد والسلام عندما تجدها لم تمس بسوء, وتعاود دفعها بكل قوتك,
مناديا علي بطاطتك المشوية..
للآسف
يا بائع البطاطا الصغير, يا من تمتلك أحلاما صغيرة ربما لا تتجاوز هامتك,
أو لربما لا تحمل أحلاما علي الاطلاق.. يا من كنت تشعر بالسعادة وأنت تلتقط
اللافتات القماشية حين تسقط من الثوار الهاربين من بطش الأمن, وقد كتب
عليها: عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. وأنت لا تدري ما كتب عليها -لأنك لم
تعرف القراءة يوما- لتعطيها لأمك فرحا عند عودتك لتصنع منها
سراويلا لاخوتك الصغار.. للآسف يا بائع البطاطا, في لحظة غدر أصابتك
قشعريرة, وقلبك الصغير النابض بالحياة والأحلام الصغيرة في ذات اللحظة
انفثأ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق