عن
ماهية الشعر الحديث والهوية الشعرية الإبداعية
صهيب
محمد خير يوسف
كقارئ، عندما أبدأ القراءة في مجموعة
شعرية حديثة، فإني أتوقع من مؤلفها تقديم شهادات بين يدي
المجموعة، تمثل الهوية الشعرية والبصمة الإبداعية الخاصة التي يُعرف بها، وهي
تأتي بالطبع بعد اكتمال أدوات الشعر الأساسية لديه، وأهم هذه الشهادات الإبداعية هي:
• شهادة اللغة:
لغته المعجمية والشعرية والنحوية، ثرية
المفردات، متعددة المصادر والبيئات، والتي يشتغل على صقلها وتنميتها والإبداع في بنائها،
مختلفاً بها عن لغة غيره، وغير مقلد للسائد اللغوي.
• شهادة الفكر:
مساحات فكره الخاص وفلسفته وأسلوب حياته
وتصوراته غير المتناقضة، المطروحة ضمناً، واحتواء النصوص على هذا الفكر وما يتبعه من
طروحات ولغة وبناء وإدراك.
• شهادة الروح:
أساليب تعبير الشاعر عن تجليات روحه ومشاعرها،
ومدى قدرته على التأثير في روح قارئه، وسريان ضوء روحه الصادقة خلال أروقة النص، والأدوات
الروحية الحية التي استخدمها للتأثير في النفس والعقل والعاطفة.
• شهادة الصورة:
الصورة المتجددة المطورة، المقتنَصة بعناية،
مختلفة المراتب والدلالات، مدهشة التركيب والتشكيل، ثرة الينابيع، متدرجة الألوان،
مقصودة لا مجانية، متعددة المصادر والأجواء والأنواع والطبائع والأمكنة، ممكنة الوصول
إلى شرائح من المتلقين.
• شهادة كسر الرتابة:
بحيث تكون القصيدة تضاريسية الأساليب
الشعرية، بعيدة عن الفتور والملل.
• شهادة المعاصرة:
مواكبة الحالة بظروفها، وإشعاع الروح
العصرية من التعابير ومن بين السطور، والاشتغال على الذاتي والجمعي في آن.
• شهادة الموهبة والاحتراف:
وجود الموهبة بدءًا، وتدفقها ضمن النصوص،
ومدى استخدامها باقتدار، ووضوح الجهد والتوجه، والقصد الأدبي، ومهارة التفنن والصنعة،
والطموح إلى الاحتراف.
• شهادة الذوق والدقة:
هل الشاعر بعيد عن الحشو التكميلي وعن
التذبذب والفوضوية الفنية؟ وهل هو متمكن ومتكيف، منسجم الإيقاعات، حذرٌ ودقيق الاختيار
للكلمات والمعاني، عميق الإحساس البلاغي، يتصرف في النص بهدوء وعناية، وقوة وثقة، وذكاء
وإتقان، ويفرق بين الضروري والثانوي؟ وهل هو لمَّاح، ينقد شعره في أثناء الكتابة، ويراعي
حالات المتلقين، ولا يرضى عما يكتب تمام الرضا.. طامحاً إلى الشعر المتسق الصافي؟
• شهادة الانجذاب الجزئي:
يحتاج الشاعر إلى تكوين بؤر مُشعة ساحرة
ضمن عُقد ودهاليز النص، تجذب المتلقي إلى الجوانب التي ينتعش لها، وتقوي جوانب الضعف
الأخرى، وتحتاج هذه البؤر إلى إعمال الذهن ومراعاة مختلف الأذواق من قبل المؤلف، وإلى
التحليل وحسن النظر والتفكيك من قبل المتلقي.
• شهادة الاطلاع الثقافي:
وضوح إحاطته بفنون الشعر واطلاعه على
مختلف تجاربه، وإظهار خبراته ومعارفه العامة وسعة اطلاعه الأدبي والثقافي ضمن النصوص،
من خلال الإسقاط والاستلهام والاستشهاد وتلاقي النص الشعري بمختلف الأجناس والمدارس
الأدبية.
• شهادة الاستقلالية:
هل استقل بشخصيته وهويته الشعرية، أم
يحضر في كتاباته شعراء آخرون؟ وما حجم حضورهم؟
• شهادة المشروع:
اتضاح مشروعه الأدبي الجديد وخطته التغييرية
في ذلك، وتوقع القارئ لرؤيته البعيدة.
• شهادة التجديد:
الجوانب الأدبية والشعرية والجمالية التي
أضاف إليها وجدد فيها كليًّا، والتي جدد فيها نوع تجديد.
• شهادة الاختلاف:
اختلافه عن غيره، وعن سابق كتاباته، ومدى
نجاحه في تكوين هذا الاختلاف الشعري.
• شهادة التفرد:
هل له شركاء آخرون في مشروعه الشعري،
أم أنه متفرد في مجاله ويسعى للتميز؟
• شهادة الاستمرارية:
يصبح الشعر مستهلَكاً إذا لم يطوره المؤلف
أو ينقلب عليه فنيًّا، انقلاباً كليًّا أو جزئيًّا، ويبقى نمطيًّا إذا سار على رتم
واحد. وتستمر أهمية الشاعر إذا لم يقدم كل ما لديه، ولم ينهِ تجربته بنفسه، وإذا غذى
شعره بالتجديد والتحسين المستمر.. ليبقى كاللغز، لغز البقاء المحفز على اكتشافه من
قبل القارئ.
.. وبعد هذا التلخيص المكثف لتجربتي القرائية
التطبيقية على الشعر الحديث، أختم بتصوري الخاص لماهية
هذا الشعر:
"هو فعل حضاري رؤيوي ممتع، ينشأ،
بالمعنى المصنوع المعبر عنه بالتخييل الجميل، عن حالات انفعال الوعي البشري لتلبية
المراد. يبنى من الكلمة، غير محصور في مكان أو زمان أو لغة أو شكل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق