يد واحدة لا تكفي
رحاب محمد علي البسيوني*
( ...اسفر
الهجوم الذى قامت به العصابات الارهابيه عن خسائر فادحه فى الارواح والممتلكات ، وقد أعلن حزب البعث عن استعداده للقيام بكافة المبادرات التي من شأنها إعادة الأمن إلى البلاد…).
عاوده الإحساس الوهمي بكفه المبتوره ، فمد يداً لا وجود لها ليغلق التلفاز ، قبل أن يتذكر ... تلك اليد التي أصابها أحد القناصين أثناء وجوده هو في مشفى ميداني يحاول إسعاف المصابين ..تلك اليد التى ضربت منذ سنوات بعيده حين فشل في شرح بيت الشعر : أسد على وفي الحروب نعامه ....لم يحزن حين قرر الأطباء بتر كفه .... على أية حال مازال يملك أخرى ، فلأن
تقطع كفه خير من أن يفقد فكه وهو على قيد الحياه كما فعل بغيره ... شعر بأن المكان يضيق به .... خرج إلى الشارع ... رأسه تطن بمئات الأصوات المتداخلة .... صراخ أطفال ، ولولة نساء، دوي قنابل....
تتداعى أمامه الأحداث .. مظاهرات سلمية ... دبابات ... صواريخ .... طائرات .... حصار ... قصف .... ضرب .... هجوم ..... هدم .... ثم اعتقال .... تعذيب .... ذبح .... جثث ..... اشلاء ..... دماء .... جرحى ، كلها مفردات كانت تمثل له معاني ورموز ، الآن تعدت حيز المعاني إلى حيز الوجود يراها رأي العين هواء المدينة تشوبه رائحة العبوديه ... القهر ... الدبابات في كل مكان ، يتأهب جنود البعث من فوقها للضرب بصبر نافد ، يرمقونه بنظرات نارية تنذر بالويل... ( عد من حيث أتيت وإلا...
).
تتداخل بذهنه مئات المشاهد .... صورة كبيره يسجد لها العشرات من الرجال وأقدام الجنود فوق رقابهم .. قهر صامت في أعين النسوه اللاتي سلبت كرامتهن ... صرخات الألم التي لم يرتد صداها ليسمع العالم...تمثيل بالأجساد التي مازالت على قيد الحياه..
كان أبوه يردد دوماً ( ما لجرح بميت ايلام...) ، حسناً ياأبي : ماذا لو كان الجرح في جسد حي يعي ما يفعل به ويأتي الموت إليه كنوع من الرحمة ؟
يتذكر أباه وهو يقوم بذبح شاه عيد الأضحى ، ويتساءل : هل شعر من ذبح من قومه بما شعرت به الشاه ، أم كان الألم أشد ؟ يسير متجاهلاً الجنود ، وقت حظر التجول لم يأت بعد .... توقف أمام محل صغير لبيع الصحف التي لم تزل كما هي
(حقا... من يبتاع جريده وهو الماده التي تستمد منها الأنباء ، فضلاً عن أنها لا تقل نفاقاً عن إعلامهم المرئي..) ، ألتقط جريده وتصفحها .. ( قامت العصابات الإرهابية بـ
...) ، تصفح أخرى (
اسفر الهجوم الإرهابي عن...) ، ألقى الصحيفة وزفر زفرة طويله ، تمنى لو أخرجت ما بقلبه من غل ليحرق به أعدائه ، بادره البائع قائلاً : عد إلى دارك يا بني فليس الوقت للتجول.
•
- يا عم لم تعد لي دار ، ثم انني أريد أن أرى بلدتي ليلاً ، أليس هذا من حقي؟
•
- بني ، لا معنى للحق الآن ... النظام لا يعرف عن الكلمة شئ
•
- حسناً يا عماه ساعود...
•
- إلى أين يا بني ؟
•
- إلى الوضع الصحيح يا عماه ... إلى وضعي الصحيح ...
أحكم وضع كوفيته على عنقه وتساءل عن شعوره حين تستبدل هذه الكوفيه بنصل بارد ؟
سار واضعاً يده الوحيدة في جيبه ... لقد أشرف الليل على القدوم ... إنه منتصف الشهر والليلة قمراء ، تأمل وجه القمر المكفهر وهمس (انت يا صديقي شاهد على كل شئ .. ليتك تنطق...).
يسترجع ذكرياته ... في مثل هذا الوقت من العام الماضي ، كان مع أصدقائه يتسامرون في الفضاء الرحب ، لم يعد منهم أحد ... آخرهم كان باسل ... لا يدري ما أحل به منذ مظاهرة الجمعة ... اضطربت مشاعره فجأة ودمعت عيناه وهو يردد همساً ، صرخات باسل (مالنا غيرك يا الله ...).
هواء الليل البارد يلفح وجهه ، تمنى أن يلفح هذا الهواء وجوه الأجيال القادمة وهو حر لا تدنسه أنفاس البعثيين الملاعين .. انسابت أمامه المشاهد من جديد ... دمار ... دمار .... دمار .... منذ عام أو أكثر وهو لا يرى غير الدمار ... تذكر قول القائلين بأنهم يدعمون الدم ضد السيف والواقع يثبت عكس ذلك ....
ان كل معركة لابد أن تتوازن القوى فيها ، لكنهم يعتبرون مجرد الصراخ من شدة الألم اعتراض شعارهم
( مت ولا تتالم..) ، ويحرصون على أن تصل صور التعذيب الي كل مكان وكأن توقيعهم عليها (هانحن ذا...) ، مستمراً في سيره ، يتبادل معهم نظرات كره وحقد ... لماذا يجعلون علاقتهم بزعيمهم علاقة عبودية ؟ لماذا يألهونه ؟ لماذا يلقنون القتلى شهادة جديدة غير التي تعلمناها من ديننا ؟
يسير ومازال شطر البيت يتردد في ذهنه : أسد على وفي الحروب نعامة ...... "الآن يا أستاذي فهمت معناه جيداً ، بل ان شئت أنشدتك : يستأسدون علينا ومع اليهود نعاج
" ......
من بعيد يرى الجنود يستبدلون بآخرين .... انها نوبة جديدة .... لقد حان الوقت إذن .... وقت حظر التجول لديهم ، هو وقت التسلية باصطياد الأهالي برشاشاتهم .
استمر في السير ... المدينة الحبيبة غارقة في سكون قاتل يقطعه من حين لآخر صوت الجنود الملاعين يتمازحون .. أنه يكرههم ويكره أصواتهم .. كلاب في صورة اسود ...
رفع صوته مرتلاً آيات من كتاب الله تعالى ... صوت جميل مرتفع غطى على أصواتهم الخبيثة .... مستمرا في سيره يرتل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله اموات ، بل أحياء عند ربهم يرزقون"
شعر بقوة عارمة تجتاح جسده الضعيف ... نور من الأمل أضاء ظلمة قلبه ستتحرر بلادي قريباً ... ربما بعد شهر .. بعد عام ... لكنها ستتحرر ... فقط تحتاج إلى بعض الوقود الذي يشعل سعير ثورتها ، تمنى من داخله أن يكون جزءاً من هذا الوقود ....
يستمر في سيره مرتلاً أيات الله ، في حين يقترب من الجنود الذين تضاءلت قاماتهم امام عزيمته ، فأصبح غير شاعر بوجودهم ...
-(هيه .... أنت أين تظن نفسك ذاهب؟) ، قالها أحدهم مستوقفاً إياه ، مازال يرتل..
وقف غير عابئ بالبعثي الذي أمسكه من مؤخرة عنقه ... يستمر في قراءته ، في حين تجمع عدد لا بأس به من المجرمين ليشهدوا تلك الملحمة الجديده.
توقف عن القراءه حين شعر بكوفيته الدافئه تستبدل بنصل حاد بارد ، رفع يده يدفع بها النصل فقط ليدرك
ان يد واحده لا تكفى .........
* بورسعيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق