2013/04/03

الأسود يليق بك / أحلام مستغانمي بقلم: محمد الحميدي

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
الأسود يليق بك / أحلام مستغانمي

*متكأ..محمد الحميدي
قرأت الرواية الأخير للكاتبة البارعة/ أحلام مستغانمي، وعنوانها/ الأسود يليق بك، وفي التالي بعض الانطباعات والمحاورات بيني وبينها، لقد أدهشتني وأوجعتني، مساحة فضائي تتسع وتضيق فيها، إنها روية رائعة بمعنى الكلمة.
ثمة الكثير من الأسئلة والأفكار حول الرواية، لعل أولها وأهمها، وأشدها بروزاً، يتمثل في العنوان غير الاستهلاكي، الذي افتتحت به الحديث "الأسود يليق بك".
العنوان غير المألوف، بدا جاذباً لقارئ؛ ليكمل الرواية قبل ابتدائه في قراءتها، تتحدث عن لون لباس يليق، والسؤال سوف يكون كالآتي: يليق بمن؟
إنها البداية، والبداية غواية، تعيش الشيء وتستغرق فيه، لكنك لا تحصل منه إلا على ما يشتهي الكاتب، أو الكاتبة في حالتنا الراهنة.
العنوان صَدَفَة مغلقة، تتسع لتروي الحكاية في اختصارها ويتمها الفريد، وفي اختياره تجسيد لواقع خيالي، ربما طافت به بعض الحقيقة، إنما يبقى في عليائه، لا يستطيع أحد المساس به.
تلك حكاية ثوب أسود، طال مبيته على جسد الفاتنة "غير الجميلة"، أو بتعبير الكاتبة: جمالها طبيعي إنما لا يفوق الأخريات.
إذن ثمة حكاية للثوب، ترويها صاحبته، وهنا نسأل: أحكاية الثوب، أهم الحكايات في الرواية، أم هناك ما هو أهم منها؟
سنكتشف ذلك بعد قليل...
لنوصّف الرواية أولاً: إنها تنتمي إلى عالم الحياة الرومانسية الخيالية، فالأحداث والتطورات، لا يمكن لها أن تتم على أرض الواقع، كما ترويها الكاتبة، بل تظل تلامس التصور العالي في خيالات البشر، لن تنزل الرواية إلى الواقع الحقيقي، بل على القارئ الارتقاء إلى الواقع الخيالي؛ كي يعيش في داخلها، وإلا فإنها لن تسلمه قيادها.
تحكي الرواية قصة الفتاة الجزائرية "هالة"؛ تلك المعلمة في المدرسة، التي ألفها المجتمع وألفته، وصارت جزءاً من ذاكرة الناس؛ لكونها تشاركهم في همومهم وهموم أبنائهم، فالطالب حينما يتغيب، تبادر إلى الاتصال بأهله، وتستفسر عنه، نلمح إلى أنها تنتمي إلى فئة أقرب للمثالية، فليست مهمة المعلم اكتشاف أسباب عزوف الطلاب عن الحضور إلى قاعة الدرس.
تلك مهنتها، أما حياتها الحقيقية، فمختلفة؛ لأنها أحبت الغناء وعشقته، لقد عاشت في عائلة غنائية بامتياز، فمن سبقها في العائلة كان مغنياً، ومن سيأتي بعدها سيكون مغنياً (استنتاج من القارئ)، تبعاً للتقاليد العائلية المتوارثة.
حياتها الغنائية أكسبتها الشهرة والمجد، أما حياتها العملية في المدرسة فأكسبتها قليلاً من المال، وبعض الاحترام، الاحترام الذي سيتبخر حينما يتم الإطاحة بها، وفصلها من عملها، بحجة ممارستها لمهنة الغناء.
يحدث التصادم حول "هالة"؛ تصادم العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة، مع الرغبات والنوازع الشخصية، تصادم أعراف المجتمع وتقاليده الإسلامية؛ حيث الغناء منكر وحرام، وطلبها الداخلي؛ لتكون "نجمة" من نجوم الغناء.
كان التعارض بين الرغبتين فاضحاً لدرجة إلغاء أحدهما لصالح الآخر؛ إلغاء المهنة لصالح احتراف الغناء.
في الرواية تعارضات أكبر وأكثر، وبناؤها يشف عن استيعابها لنظرية "الضد"، فلن يتم كشف الجميل إلا بمقارنته بالقبيح وفضحه.
ما أتحدث عنه أشياء اختلافية بين الناس، فالقبيح عند ذا قد يكون جميلاً عند ذاك، فالأمور تسير دون انتظام من هذه الناحية على الأقل؛ بسبب تقديمها لوجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر الكاتبة وحدها، بينما أهملت بقية وجهات النظر التي تخالفها، وكأن لا وجود لها.
تنسحب وجهة النظر الواحدة على بطلة القصة أيضاً، وكأن البطلة "هالة" امتداد للكاتبة "أحلام"، فكلتاهما أنثى، وكلتاهما تتوسل البوح، وكلتاهما تقف موقف الضعيف مما يحدث.
لن أتعمق في الربط بين الكاتبة وبطلتها، يكفي أن أشير إلى آلية استخدمتها أحلام في بناء القصة، وهي ذات الآلية التي سارت عليها البطلة.
استخدمت "أحلام" في روايتها عدة أساليب، لعل أهمها خاصية الإدهاش، فاللغة الرائقة تعلن موت الحقيقة في الكلمة، نعثر على الشيء ونقيضه، نبادر إلى ردم الهوة في البناء؛ لاكتشاف الحقيقة، فنتفاجأ بتغير سريع يصيب الحدث، سرعان ما تتوافق الرواية في انبنائها معه، فلا تترك للقارئ مساحة للتفكير، وهكذا جاءت البطلة "هالة".
كانت تعيش في ذهول تام، واندهاش مستمر مما يحدث، فالأحداث الإرهابية في الجزائر، وطغيان الإسلاميين على الساحة، وفقدان الوالد، ثم الأخ، برصاص القتلة، جعلها تعيش حالة من الدهشة والذهول، لم تكتفِ بذلك، بل تعمقت النظرة مع الرجل الثري؛ فاحش الثراء "طلال" الذي أخذ في ملاحقتها، وجعلها تعيش العالم الموازي لعالمها؛ عالم الفقر في قبالة عالم الثراء.
كم كانت الفتاة المسكينة في أزمة بعد أزمة، وفي محنة إثر أخرى، و"طلال" مثل لها طوق النجاة من الحياة الحقيقية، مثلما مثل لها حبل المشنقة مع حياتها الخيالية.
تعارض وتضاد وتقابل، الرواية تنبني على فكرة، ثم لا تلبث الفكرة أن تكون منفية، فكرة الأمان والاستقرار تنفيها فكرة الترحال والبحث عن أمسيات غنائية، وفكرة الفقر تنفيها فكرة الثراء، وفكرة الواقع تنفيها فكرة الخيال.
تسير الرواية بلا هوادة في عالم مجنون، ليس أقل من جنون الحياة الواقعية، يكتشف القارئ أنه اكتشف شيئاً، ثم يكتشف أن الشيء الذي اكتشفه لم يكن شيئاً.
عالم آخر تعيش الرواية في كنفه، لا يرتبط بالعالم الواقعي، إلا بالأسماء والألقاب، أما التصرفات، فتلك مسألة لم تتأكد بعد.
البناء الغنائي في الرواية:
الفتاة الفقيرة "هالة" أحبت الغناء وأدمنته، صار عشقاً، أُولعت به، بسبب النشأة والممارسة، فبدأت في شق طريقها الغنائي، أحالتها الظروف إلى مغنية، تشبع نهم الناس إلى صوتها.
في الطرف الآخر، يأتي "طلال" الفتى الشرقي، رجل الأعمال، ثراؤها يصل إلى لا حد، المال يتدفق على يديه كالماء، يأتي ليشاهد الفتاة في حفلها الغنائي التلفزيوني، فيعجب بها، ويعجب بإجاباتها في المقابلة التي أجريت لاحقاً.
الإعجاب هنا لا يمكن تسميته حباً، فالفرق بين معنى الكلمتين كبير، إنما يظل أحد المعجبين، وبسبب ثرائه الفاحش يستطيع الاطلاع على أخبارها الفنية في بلدها البديل "سوريا" أو في بقية بلدان العالم.
يبدأ في ممارسة عملية إدهاشها؛ إذ يقوم بإرسال أزهار التوليب إليها بعد كل حفل غنائي، ويعمل على اقتناص أخبارها المتفرقة.
الواقع يصطدم بالخيال في الرواية، فالحياة الواقعية لا توقع الحب بين طرفين في شراكه، لمجرد إرسال باقة ورد بعد نهاية حفل، خصوصاً إذا أدركنا كمية الباقات التي ترسل إليها.
الاضطراب في البناء بادٍ كأعلى درجة حينما تظل تتذكر أزهاره وتعشقها قبل معرفته، وكأنه امتلك زمام حياتها.
ليس للثراء والفقر دخل في الموضوع، بل العاطفة الإنسانية المقدسة، تبقى تهيمن على المرء، بغض النظر عن كمية الورود ونوعها، لقد صورت "أحلام" بطلة قصتها على أنها شخصية متعالية، فكيف تقبل إحسان شخص غريب، وتتخذه فكرة مثالية، حتى قبل أن تراه.
بل أكثر من ذلك، لقد انساقت وراء ألاعيبه وصعدت الطائرة، وظلت تبحث عنه بين الجموع في المطار، دون أن يكلف نفسه عناء الالتقاء بها، رغم كونه على بعد خطوة واحدة من الفتاة التي أغراها.
قمة الامتهان الإنساني لشعور المرأة، أن يحدث لها ذلك من شخص غريب لم تلتقه في حياتها قبلاً، ولا تعلم عنه شيئاً، تظل تركض وراء السراب، إن الفعل هنا استثنى مشاعر المرأة وأحالها دمية بيد الكاتبة، فكيف لا تغضب المرأة لهكذا فعل.
بل تسارع إلى الالتقاء بالرجل الذي أهانها وامتهن كرامتها؛ الحدث في منطقه لا يتوافق مع السلوك المفترض، وإن كان ثمة عذر للكاتبة، فيتمثل في البناء الفني الرومانسي؛ حيث تختفي الفواصل بين الأشياء والأحداث، ويغدو المطلب هو القضية الأساسية، والرواية تسير في انبنائها على هذه النقطة تحديداً.
الرغبات الرومانسية في الرواية هي الطاغية، لا وجود لحدود العقل إلا في بعض المواضع، الفضول القاتل يعمي النظر، والثروة الحاشدة تغري النفس، وتجعلها في اندهاش دائم، خصوصاً إذا ما كانت فقيرة ومفلسة من الحياة والحب والرقة الأنثوية.
تصور الكاتبة فتاتها في صورة أنثى رجولية؛ وجهها وجسدها كائن نسائي، أما تصرفاتها وعملها فكائن رجالي.
الحب والتطهير:
تمزج الكاتبة بين لونين من الأحداث في روايتها، يظلان في استمراريتهما للنهاية، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر؛ الحدث الأول: انقلاب حياة الأسرة بعد مقتل الأب في الجزائر، وانتقالها للعيش في سوريا، بعيداً عن الإرهاب، مع ذكر التفاصيل اليومية المؤلمة لما يحدث، وكأن الواقع يلقي بظلاله على الأسرة.
الحدث الثاني: حالة الحب العاشقة بين طرفين متباعدين، بين طرف فقير وآخر غني، بين طرف عبثي في الحياة وآخر رصين، بين المرأة المتشوقة للخروج من عالمها ورجل يبحث عن متعة خالصة لا يشوبها حزن أو ضيق.
لكأن العالم في الرواية تم اختصاره إلى مفردتين، وقد أحسنت الكاتبة في ذلك حينما اختارت عنوانها: الأسود يليق بك. بين مفردتي: الأبيض / الأسود. الأبيض النقي والأسود المظلم.
الرواية تنبني على حافة اليأس والألم، ليأتي الأمل في المستقبل كالقشة التي تظل ممسكة بها، لا تود مفارقتها، والقشة أوهن من قدرتها على تحمل جذب وشد، البطلة تعلم ذلك جيداً، برغم ذلك، تواصل التمسك ببصيص الأمل المنعقد أمامها مهما بلغت الصعوبات.
حالة من الحب "الضرير" تحدث بين طرفين، يُفترض بهما ألا يلتقيا أبداً في الحياة الواقعية، إنها لعنة القدر الذي يطارد الأشخاص، يمارس عليهم جميع الضغوطات؛ ليرى نتائج عمله في النهاية، في افتراق الأحباء وخذلان الحب.
رجل آتٍ من الفضاء لا يمكن أن يقيم علاقة مع امرأة أرضية، ربما علاقة ضوئية فقط؛ علاقة عابرة، ليست علاقة مباشرة، ففي النهاية كلٌّ منهما ينتمي إلى عالم لا يمت بصلة إلى عالم الآخر، وهذا ما ظلت "نجلاء" الوفية تحذر منه قريبتها بطلة القصة، لا يمكن لعلاقة كهذه أن تستمر، فالمحال أقرب من استمراريتها.
الحب في القصة انصهار بالحياة، واستعداد لدخول عالم فريد؛ عالم لم تألفه "هالة" ذات الصفات الرجولية، عالم مغلق، يعشش في الأوهام فقط، ولا يقترب من الواقع، جاء الحب ليطهر النفس البشرية مما لحق بها من أدران.
لكن التطهير ليس عملية انتقائية، ولا يمكن التنبؤ بعواقبه، فربما كان سلاحاً فتاكاً يؤذي أكثر مما يعطي، ويهدم أكثر مما يبني، وهذا ما نستشفه من الأحداث المتلاحقة على مدى سنتين من الزمان في مطارات العالم، فالثري يخشى على سمعته ومستقبله إن وجدته الصحافة أو وجده الناس مع المغنية الفقيرة، ولذا يستعمل مكره ودهاءه الكبير في جعلها تتنقل بحثاً عنه، ورغبة في ملاقاته.
جعلها تصعد إلى القمة، رويداً رويداً، ثم قذفها إلى القعر؛ حيث لا تتمكن من الرجوع ثانية كما كانت.
لقد مارس فعلاً استخباراتياً محكماً حينما ظل يتلصص عليها من نافذة العالم، تلك الشاشة الفضية التي توصله بها، ففي الحقيقة لم تتعد معرفته بها حدود الشاشة، وكل ما أدركه بذكائه وجبروته المالي، يستطيع المتابع لأخبارها اكتشافه والحصول عليه، وهنا يقع مكمن خطر في الرواية وبنائها الفني.
فكيف يستطيع الإنسان اكتشاف صفات إنسان آخر والحكم عليه من خلف الشاشات؟ تلك معظلة حقيقية في الرواية؛ لم تستطع مجاوزتها، رغم تمسكها بالبناء الفني الجميل والخلاب.
الحب المغلف بالألوان، هو ذاك الحب الحادث بين "طلال" و"هالة"، فلا الرجل الثري اكتشف المرأة على حقيقتها، ولا المرأة الفقيرة اكتشفت الرجل على حقيقته.
كما قلت سابقاً، الحب هنا تعبير عن إعجاب، وليس ذلك الحب المنبني على علاقة متينة ومستمرة، إنها لحظة فريدة في حياة الثري، عندما يعجبه شيء فيسعى للاستحواذ عليه، وهذا بالضبط ما قدمته الرواية.
تعاملت مع المرأة في علاقتها بالرجل الثري، تعامل البطاقة البنكية، فمادام في الرصيد حساب، سوف يكون بالمقدور شراء أي شيء، حتى لو كان امرأة.
اكتشاف "هالة" لوضعيتها هذه جاء متأخراً في نهاية الرواية، وهو ما ميز سلوكها النهائي، فبعد عمليات المطاردة في المطارات والفنادق والسهرات الليلية، اكتشفت قيمتها الحقيقية، فليست سوى جسد أنثى، يجوز التخلي عنه، إذا شبع الثري منه.
ولكن الثري، لم يكن يريد الجنس، نعم، العلاقة تتخذ أبعاداً أخرى، فلا يريدها سوى دمية يلهو بها، فالجنس ليس أولوية بالنسبة إليه، ربما في النهاية حاول قطف ثمرتها، لكنها في حركة غير متوقعة عاركته فغلبته في الميدان فانسحب إلى الظل، أخفى وجهه بقناع من أقنعته الكثيرة.
اكتشفت أن حياتها ووجودها بالنسبة إليه لم يكن سوى تسلية، وهو ما فاقم محنتها النفسية وجعلها تمر في نفق طويل من التطهير، انتهى إلى اكتشاف ذاتها، وقطع علاقتها بالكائن الثري، رأت في نفسها نداً للمال، ليس فقط لصاحب المال، بل للمال أيضاً.
موسيقية الرواية:
تنبني الرواية على أربع حركات، تقع في أربعة فصول، كل فصل يمثل حركة في النوتة الموسيقية، إلى أن تكتمل في الأخير جميع الخيوط.
الرواية في بساطتها وتلقائيتها كأنها عمل اعتيادي، يمارسه الإنسان على الدوام، دون أن يشعر أو يلاحظ وجوده، فثمة أمور نعتادها، ولا نشعر بوجودها، وحاجتنا إليها، إلا إذا فقدناها، هكذا هي الرواية في بنائيتها التلقائية، لا تحتاج عناءً لكشف الخيوط المتشابكة، بل إن الكاتبة كثيراً ما تسهل عليك الأمر، فتخبرك عن النهاية قبل وقوعها، وتأمل فيك الوصول إلى النتيجة ذاتها؛ التي توصلتْ إليها.
الحركات الموسيقية، حركات راقصة، تسير في انسيابية الكون والحياة، فما الحياة الكونية سوى تناغم أبدي، يتماهى الإنسان في وجوده مع بقية الكائنات في حركة دائرية، تجعل الحياة تسير، أما الصعوبات، إن وجدت، فلها رقصة إضافية، تضيف إلى رصيد الحياة خبرة جديدة، وجديرة بالتمثل والتذكر.
تبدأ الرواية في إطار تاريخي، تستوعب الحدث المفجع في نفس "هالة" وفي الوطن الأم "الجزائر"، فليتقي الحدثان ويتقاطعان في أكثر من محور؛ كمحور البؤس والشقاء، والرغبة في الانسلاخ من الواقع، والفرار منه، إنها حياة صعبة، تلك التي تعيشها المغنية الشابة، ويعيشها وطنها.
ثم تبدأ في السرد لما جرى على الفتاة وبلدها من الفظائع وسفك الدم وسيطرة الإرهابيين الإسلاميين على تسيير شؤون الحياة، الأمر المؤدي إلى الخوف الدائم، الخوف من كل شيء، فالمستقبل المنظور لا يوجد في أفقه بارقة أمل، إنها الحياة في أبشع صورها، تعيش في بلدك خائفاً من كل شيء، دولة الخوف الحديثة، الأمور فيها تسير عكس التيار، والأمور مع الفتاة "هالة" تسير عكس التيار أيضاً.
تبحث عن روحها في بلد آخر، فتتعثر بالرجل الغني "طلال"؛ الذي يمارس في حقها أقذر لعبة ممكنة، يجعلها تعيش على دموعها وحزن قلبها، يظهر لها في أوقات المفارقة العصية، يأتي حينما لا تنتظره، ويهرب منها إذا بحثت عنه، فلكأن العَالَم الجزائري انطبع في حياة الفتاة المسكينة.
ترقب وخوف وحذر ومواجهة، بحث دائم عن السكينة الروحية، تجدها في بطاقات باقة الورد المرسلة عبر المحيطات، تترسم أحلامها خطى المستقبل، ولكن لا شيء واضح أمامها، وإذا التقته في بعض الأماكن تعود إلى حالة الاكتئاب والمزاج العكر، فدائماً يصدمها، يصدم أحلامها وآمالها.
لعبة مثيرة يتقنها القدر، يحرك خيوطها بإتقان، والكاتبة تستلهم منه خطواته، فتنسج النوتة الموسيقية على أساس اللعبة، إنها ترسم القدر كما تراه، عيناها انفتحتا على واقع مرير، وها هو الواقع يزول؛ ليقدم لنا دولة الجزائر الحديثة، المنتمية إلى المصالحة بين الدولة والإرهاب.
أما "هالة" فتعيش حياتها في ترقب دائم، تغلي كالمرجل، كالطعام في القدر، تحتاج مساحات للتنفس، توفر الكاتبة ذلك، إنما النهاية، تأتي مفارقة للواقع الجزائري الحديث، فإذا كانت الدولة انتهت إلى المصالحة، فإن "هالة" انتهى أمرها مع "طلال" إلى القطيعة.
غريبة هي الرواية حين تقدم نهايتين مختلفتين لقضية واحدة؛ قضية الفتاة وقضية الوطن، قضية واحدة، والتغير الذي يمس واحدة منهما يمس الأخرى بالضرورة.
ربما تعليل ذلك يعود إلى حب الكاتبة للمفارقة، وبحثها الدائم عن الاختلاف، وهو الواضح جلياً في الرواية، بلا مواربة، تضع الشيء ونقيضه، وتعمل على نشر الجمال، الذي من خلاله نكتشف القبح، عملية دائرية تمر بها الرواية في فصولها الأربعة، تسير من فصل إلى آخر، وتستلهم في كل فصل مواقف متناقضة، ومشاعر غير متبادلة، تصل إلى نتيجة غير متوقعة.
النهاية بالقطيعة، أمر مفهوم منذ البداية، منذ المقدمة التي وضعتها "أحلام" في الإهداء، وأحالتها رسالة إلى القارئ؛ لكي لا يفاجأ بما في داخلها، ولكنها أصرت على وضع ذلك في عمق روايتها.
بإعلان القطيعة تنتهي النوتة الموسيقية، تنطفئ الأضواء؛ ليغادر القارئ العالم السحري، الممتد على أكثر من ثلاث مائة ورقة، أرادت إيصال رسالة ختامية: الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وليس كل شيء نشتهيه يتحقق لنا، فما أحلامنا سوى كينونات ضائعة، يعبث بها القدر كيف شاء.
الموسيقى لا تفارق الرواية، فهي بنيت على أساس موسيقي، وتتحدث عن الموسيقى والغناء في داخلها، مع حشدها بمختلف الأسماء والمقطوعات الموسيقية الشهيرة، تسير في تناغم مذهل، بحركة من عازف ماهر، أجاد نسج الأغنية وتأدية الدور بإتقان.
ربما ما جعلها تدخل في اضطراب جزئي في نهايتها، تسبب في إرباك للقارئ، حديثها عن "الشطرنج"، حيث انتقلت اللعبة من موسيقيتها إلى رقعة على طاولة، يرغب الطرفان بالفوز.
رغبة "هالة" في الفوز على "طلال" والعكس، جعل اللعبة الروائية تضطرب قليلاً، فالمعتاد في مثل هاته الحالات، الانسجام التام بين الأغنية والراقص، أما في لعبة "الشطرنج" فاللاعب يتحدى الآخر، ويود هزمه بكل وسيلة ممكنة، وهو ما تحقق للفتاة الفقيرة في النهاية؛ إذ تمكنت من الانتصار على الخصم العنيد، المدجج بكل الأسلحة الثرية.
اللعبة انتهت، وحدثت القطيعة، وأسلمت المطربة عود أبيها القديم إلى شخص خبير؛ ليعيد له الروح ويقوم بإصلاحه.
مع إصلاح العود، حدث إصلاح الروح، وانعتقت من أسر رجل الثراء والمال، وبدأت في رسم خيوط حياتها المستقبلية، بعيداً عن طغيان القلب وأسره.
حكاية آسرة، روتها نوتة موسيقية، على أنغام عازف ماهر، استمدت مادتها الأساسية من خلجات الروح المعذبة، وفقر مدقع أصاب العائلة، وشر عظيم حل في البلد الجميل.

ليست هناك تعليقات: