الجنة العالية
د. سوسن أمين
الجنة العالية .. حلم الجميع على الضفة
الشمالية لهذا الهائج
بلا هوادة .. يتقلب في عرينه محاولاً ردع المستبحين لصفحته الكبرى تحت جنح الليل
ومع ساعات الفجر الأولى.. والإصرار العميق على ملاحقة الحلم الهائم كسحابة رائقة
سريعا ما تتلاشى وتصبح ضبابا كثيفا يحجب العقل والرؤية..
مئات من القوارب عرفت طريقها من مدينتنا إلى جزيرة
لامبادوزا الإيطالية .. ومئات أيضا من الشباب من قرى ونجوع بلدتنا الطيبة تحولوا
لأجساد بالية طافية على الصفحة السوداء لأنظمة عفنة ظلت جاثية السنيين الطويلة على
أنفاس الحرية المسلوبة والكرامة المحتضرة..
خوض عباب البحر كان سبة بصك قوانينهم التي تجرم الهجرة
الغير شرعية ونحن صغنا قوانيننا الخاصة بنا التي جرمت بدورها الدولة التي لم توفر
الحد الأدنى لمواطينها من الحياة الكريمة والعدالة الأجتماعية .. رجال الأمن
اللذين كانوا كالكلاب المسعورة في ملاحقتنا أحاطوا المدينة الساحلية من كل جهة
علهم يفرضوا عليها سيطرتهم الأمنية .. فلا تفتح شواطئها ولا تغلق إلا بالرشوة ..
ونحن فتية أصررنا وتعاهدنا على الرحلة الصعبة.. أنا وسالم وعبد الله .. وها هي
قليبية معبر "الحراقة" بعد وصولنا إليها تطل بأعينها علينا ولا تستطيع أن
تزرف الدمع الهتون مقدما على فلذات اكبادها الضائعة مع رياح التغريب وأمواج
الغربة..
ـــ مئات الكيلومترا فقط وتظهر الجنة ..
وما دام غيرنا قد عاد بعد سنوات قليلة بأموال طائلة ومغانم شتى فلماذا لا يحالفنا الحظ ونحظى نحن أيضا والنجاح والثروة والحرية ..
ـــ أنا خائف يا ناجي ..هنا لن نموت جوعا.. لكن
قد نموت بأندفاعنا غرقى كالمئات من الشباب اللذين دفعوا حياتهم لمجرد الوصول
للجانب الأخر من الدنيا أو قتلى على يد عصابات المافيا .
ـــ
وهل نحن غير أموات وغرقى في بئر بلا قرار أسمه الفقر واليأس والملاحقة .. ماذا بقي
لنا بعد الملاحقة في كل ثانية .. ما أن أخرج من السجن حتى يعيدوني إليه وكأن لا
غيري تجرأ ولعن الأيام السوداء .. وفيه أنت تعرف ما جري لنا جميعا .. التعذيب أهون
المهانة..ثم ما بقي لنا وأبواب الرزق موصدة أينما نولي وجوهنا .. أتركها لله وهيا يا سالم ولا تأخرنا ـــ آه لو بيدي.. ما كنت تركتها أبدا .. أمي
سوف تموت من حسرتها ..
ـــ
وكذلك أمي .. لكنك ترى .. حاولنا وحاولنا
.. لم ننجح.. ولن ننجح إلا لو خرج الشعب دفعة واحدة .. لكن متى ..
ـــ
نعم حاولنا .. والكثير مات منا.. فما بقي لنا ..
ـــ
صحيح أنهم يقولوا أن الحياة في ايطاليا أصبحت من الصعوبة بحيث لا أحد يتحملها
لكنها محطة نحو فرنسا أو ألمانيا أو هولندا.
للوصول
لشاطيء البحر المهجور سلكنا طريق الغابة التي يختبىء فيها الوافدون من كل الأرجاء المسلوبة انتظارا لدورنا
مع السعادة الأبدية.. غابة موحشة بأشجارها الجرداء وأحجارها الرجوانية المتفرقة ..
أجتمعنا مع رفاقنا من كل حدب وصوب ككتل هلامية لم يحدد ملامحها ولا هويتها إلا أمل
يجمعها وهو الفرار من هذا الوطن بلا عودة .. أفترشنا الأرض وتدثرنا بأوراق الجرائد
وأكياس القمامة فقد استطعنا بالكاد توفير ثمن الرحلة إلى الهناء السرمدي والأحلام
الجميلة التي تنتظرنا والتي كنت أنظر من خلالها على المدينة
الفاضلة .. حياة رغدة وعالم متحضر يعامل فيه الجميع بحرية وكرامة وإنسانية ..
كان انطلاقنا في أحدى ليالي شهر نوفمبر القارصة.. رحلة ليلية في
غياهب البحر علي متن مركب خشبي صغير ولا أدري كيف أستطاع هذا القارب الصغير إستيعاب مئة
شخصا غير أثنين من البحاريين ذوي
الخبرة الذي أظنها لا تفيد مع ارتفاع الموج وهياج العاصفة البرقية.. في حين أنه يستطيع بالكاد استيعاب أربعون شخصا ليرصوا
فيه كالأسماك المملحة في المعلبات
الصغيرة. واللأكثر غرابة
كان تواجد ثلاث فتيات بين هذا الجمع الذكوري. هم أيضا أستحالت أمامهم سبل المعيشة
فقرروا الفرار من يأسهم وأغلالهم المؤصدة ..
تعلقت أحداهما برقبتي حين بدأ الموج في التلاعب بألواح
المركب الأثري .. ومن وقتها وهي تلازمني وزميلاتها حتى بعد الوصول إلى الشاطئ..
بتنا كأسرة تضم أخوة وأخوات .. فالغربة كانت لنا كالرضاع من أم واحدة لكل هؤلاء
الهاربين من أنفسهم وكل هؤلاء الحيارى على مركب البؤس الشريدة في ظلام الليل
والمحنة. وجدنا من بيننا على ظهر المركب عائلات
تهاجر بأكملها..الوالدين والأبناء وكأن اليأس طال الجميع كبار وصغار والبحث عن لقمة العيش أصبح من الصعوبة بحيث لا
يحق لها تشتهى والمطالبة بها الطامة الكبرى..
حالة
الهياج والمياج وارتفاع الأمواج اصابتنا بالخوف والقلق وترسخت في اذهان الجميع
احتمالات الموت والغرق فأزداد قرب الفتيات مني لأني في نظرهم أكبر الفتيان
واكثرهم عقلا وخبرة وأني مررت بهذة التجربة أكثر من مرة .. حاول البعض أثناء
البحار عن التقدم والرجوع بنا من حيث أتينا إلا أن أحد القائميين على الرحلة قرر
أن نواصل السير بالرغم من خطورة الموقف وأرتفاع الأمواج بصورة رهيبة وتلاعبها
بالمركب وكانها ريشة في مهب ريح مجنونة خطفت عشر ممن معنا لتقدمهم قربانا سائغا
لأمواج عاتية لم تردعها محاولاتنا المستميته لأنقاذهم كما لن تعيدهم دموعنا الحارة
على أرواحهم..
بعد ساعات طويلة أتى الصراع من أجل الأستمرار
والبقاء بثماره الفواحة وصححت الدفة مسارها بقدرة الله تعالى وتلقائيا وجدنا
انفسنا نسير لمقصدنا وأوصلت الرياح بعد التخلي عن زئرها وفورتها القارب الصغير
المكتظ باللاجئين إلى جزيرة لامبادوزا ولكن بعد أيام قاسية أذابت فيها عافيتنا
وقوانا وكل
ما لدينا .. فقد باعت أمي كل ما تملك حتى الأثاث عندما أستيقنت تصميمي
على الهرب مما أعاني .. أقترضت من القاصي والداني .. ثلاث ألاف بذلت في سبيلها مياة الوجة على كل باب قطرة ..
بالكاد قبلوها كثمن للرحلة .. ثمن
أرواحنا المتعبة وأجسادنا الهزيلة .. رحلة
الموت من دون أكل أو ماء أو متاع يعصمنا من صقيع أذاب مفاصلنا وخلخل عظامنا .. من
يومها وأنا أعاني ألاما حادة مع أي إنثناءه أو أستدارة.. وما
يعنيهم وما الضير في هذا وحتى وإن هلكنا ..
أنيين عظامي وعذابي الدامي من ضربة الصقيع لا يعتبر شيء
بالمرة بجانب حنيني إلى عائلتي وبالذات أمي
وخوفي من المجهول الذي قد يلتهمها ويلتهمني .. فما أنا في نظر القانون غير
هارب وما هي غير المتستر الجاني على سؤء أفعالي .. مع أن غيري كان توج بطل شعبي
وأرتفعوا به فوق الأعالي وأشادوا به على التوالي..
عند وصولنا وجدنا أنفسنا بين أكثر من ألفين مهاجرا من كل
الأعماروالألوان والأشكال يتصارخون ويتزاحمون من أجل البقاء والحصول على تأشيرات
وقتية من السلطات الإيطالية.. والشرطة الإيطالية تتعامل معنا وكاننا حيوانات فارة
أو قوارض ليلية يجب مطاردتها وطردها أوالقضاء عليها..
في الحافلة التي كانت تقلنا ببخل شديد في الهواء
والنقاء..جاءتنا الصاعقة.. لاعمل هنا ..البطالة طالت الجميع..الأطفال يصرخن من
الجوع .. والنساء يبعن أجسادهن ..أما الرجال أمن مثالنا فليس أمامهم إلا أنتظار أي
عجوز شمطاء تدفع ثمن المزاج والفتوة.. تعويضا عن الأجور
المتدنية جدا والتي لا تكفي لحياة كريمة.
يالا الحسرة .. من سيء لأسوء تمضي بنا الحياة وكأننا دمى
زجاجية واجب تهشيمها ليرتاح منا جلادينا..
بدأ مرافقنا الذي عاش هنا لسنيين طويلة يوجه لثلاثتهن
حديثه..وهن في أصغاء له ببلاهة ..والكلمات في فمه تجري كالكرة يصيب بها أهدافه
اللعينة .. ويعيد ويزيد ويشير إلينا..
ـــ من تريد أن
تهرب من هذا الجحيم فلتبحث بنفسها لنفسها
عن مصير غير مصير هؤلاء الغوغاء..
ـــ لن نتركهم
.. نحن كأخوة .
ـــ سوف يكونوا ممن يلجأوا
في النهاية إلى الأنحراف أوالجريمة. على كل واحدة أن تعمل العقل في مصيرها وفيما
ينتظرها.
في البلدة التي تبعد عن المدينة بساعات.. استطعن أن
يحصلن على غرفة بجانبنا وشرعن في رحلة
البحث عن عمل لكن دون جدوى .. فإيطاليا لم تعد
البلد الذي يمكن أن يعيش المرء فيها بكرامة ويبدوا أننا سوف نعاني الفقر كغيرنا ..
مع الأيام أصبحن شاحبات
الوجة إلى درجة مخيفة، وعيونهن غارت في عظام وجوههن كالأسماك الميتة وملامحهن تخلت عنهن حتى بتن لا تعرفن أحداهن من
الأخرى ..مجرد مومياوات وهياكل عظمية..
لكن قراري العودة بهن إلى الديار بعد رحلة المتاعب
والتشرد بين الملاجئ الايطالية أستقر في نفسي بحق بعد الحريق الأنساني على
الشاشة الصغيرة وعلى مرأى ومسمع من كل الجهات الحقوقية .. كيف لبشر أن يحرق جسده
لمحو الزل والمهانه التي طالته من أمرأة تمثل السلطة الفاسدة .. كانت بحق تلك "القشة" وليست رحلتنا الغبية في سبيل بعض
المال و بعض الأنسانية..عدت بهن لكن دون سالم وعبد الله اللذان غرقا في رحلة
العودة من الموت إلى الموتى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق