حبى يمنعنى من خداعها
فؤاد قنديل
البعض يرون أن مصر أم الدنيا وسوف تكون قد الدنيا ، والأغاني تري أن مصر ليس لها مثيل في الوجود والكثيرون يعتقدون أن المصريين هم أذكى المخلوقات وأكرم الناس وأشجع الرجال وأن مصرأجمل بقعة في العالم وهي جنة الله في الأرض وهي بلد الأمن والآمان ومعشوقة كل الشعوب وبلد الطيبين المسالمين الأوفياء بل وفيها أكثر شعوب الأرض تدينا ، وأعترف بأن قليلا من تلك السمات يمكن أن توصف بها مصر و المصريون ، وأنا أحب وطنى وأهله ولو شُغلت بالخلد عنه نازعتنى إليه في الخلد نفسي كما قال شوقي ولا أقبل له بديلا ، وأنا شخصيا أحب المصريين جدا إلا أننى لا أسمح لنفسي أن أخدعهم ، ولعن الله الرياء، وفي المقابل تدفعنى مبادئي كي أكون صادقا أبدا ومن هنا لا أري أي مبرر لإطلاق كل هذه الأوصاف على المصريين لأن منهم الكرماء والشرفاء والنبلاء والعباقرة وأيضا هناك البلطجية والهمج والجهلاء والجبناء وهناك نسبة ليست قليلة من الجشعين والمدّعين والمزيفين والبخلاء وفاقدي الضمير ، ويكفي لمن تصدمه كلماتي أن ينزل إلى الشارع ويرصد بعيونه وآذانه ما يجري ، وقبل أن نمضي في تفصيل ما زعمناه علينا محاولة تقريب الصورة وتحديد هذا البعض من الهمج وملوك السلوك العشوائي والإجرامي والمُعادين للبيئة والجمال ، وكل هؤلاء بالطبع غير متحضرين ويمكن اعتبارهم بدرجات متفاوتة من أعداء الوطن المخلصين مثل الإخوان الإرهابيين، ولا أعتذر عن كلماتي التي ربما تستفز من يتصور أن الأمة خالية من كل عيب وأن ما أشير إليه خيانة للبلد وتسهيل مهمة أعدائه في تطوير منظومة الهجوم عليه .بل أري أن نصف المصريين على الأقل مميزون بكم هائل من السلبيات كما أن النصف أو أقل عاشقون للوطن والقيم وحريصون بكل ما يملكون على أن يكونوا إيجابيين أو على الأقل لا ضرر منهم. فمن هم الذين يمكن وصفهم بالهمجية ؟
أقل شرائح المجتمع ضررا هم الفلاحون لولا الأمية وليسوا هم المسئولين عنها ، وفي المقابل فهم أول من يخدم هذا البلد لأنهم الذين يطعمونه بما يزرعون ،كما أنهم أقل الناس ضجيجا وتلويثا للبيئة. وهم إلى حد كبير أفضل الفئات أخلاقا لأنهم يتعاملون مع الله مباشرة ومع الأرض ، كما أن الكثير من أبنائهم من النابغين ، فضلا عن أنهم يمثلون أغلبية الجنود في الجيش والشرطة ، وعددهم لا يقل عن عشرين مليون .
يأتي مباشرة بعد الفلاحين فئة العمال ، وهم في الحقيقة ليسوا فئة واحدة وإنما العديد من الفئات فهناك عمال المصانع والهيئات الحكومية وعمال القطاع الخاص وعمال المهن الحرة البسيطة ثم العمال الزهرات ( الفواعلية ) ، والحق أن معظم هذه الفئة مظلومة بنسبة أقل من الفلاحين وإن كانت لهم أنياب يستطيعون بها نيل أكثر مما يستحقون وبعضهم بلا ضمير، ولا يستطيع عمال القطاع الخاص الضغط مثلهم على السلطة ، أما عمال المهن الحرة كالميكانيكا والسمكرة والسباكة والنجارة فأكثرهم يدخن السجائر وبعضهم الحشيش ويكثرون من الزواج والإنجاب ومن ثم يجزرون من يتعاملون معهم ومن يطلبون خدماتهم . وهناك المعذبون في الأرض تلك الشريحة من العمال الذين هجروا بلادهم ليعملوا مع شركات المقاولات الصغيرة أو بعيدا عنهم وقد يعملون يوما ولا يجدونه لعدة أيام ، وهم في حدود خمسة عشر مليونا.
أما الشريحة التي تسمى الطبقة الوسطى فتضم كل صغار الموظفين والمدرسين وشركات السياحة ووسائل الإعلام ومن شابههم في الوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية فضلا عن كل الجنود والضباط ، وهذه الطبقة لا تقل عن خمسة عشر مليونا. وهناك خمسة عشر مليونا يمثلون أصحاب المعاشات وكل من انتهت مدة خدمتهم بالإضافة إلى رجال الأعمال والأثرياء وكبار الملاك وأصحاب المشروعات الحرة ومعهم النخبة من الفنانين والأدباء. و تتمثل البقية وهي خمسة وثلاثون مليونا تقريبا في الطلاب والأطفال دون السادسة.
تتطلب هذه الرؤية العامة ضرورة الفصل بين الريف ( بما فيه الصعيد ) والمدينة إذ يلحظ كل ذي عينين أن السلوكيات المدينية أسوأ بمراحل من سلوكيات الريف ، والضرر الذي يلحق بالدولة يأتي أنهارا من المدن الكبيرة والصغيرة بنسب متباينة ، سواء من حيث سلوكيات سكانها أوطبيعة النشاط الإنساني ، فمعظم المصانع التى تفسد البيئة بكافة عناصرها موجودة في المدن ، ومعظم الاستهلاك البشري الذي يعصف بالبيئة ويكدس القمامة يتركز في المدن ، والسيارات التي توجه اللطمات الثقيلة للأرواح والأبدان في المدينة ، وأكثر المواضع التي تبتلع أموال الدولة وميزانيات الوزارات وأغلب الاستثمارات هي المدن ، كما أن المدن هي التي تشهد الإضرابات والاعتصامات والتخريب والتدمير والخروج على القوانين وارتكاب الجرائم من سرقة وخطف وقتل ونهب ونصب واحتيال فضلا عن الصخب والعنف والفضائح.
من الناحية الموضوعية يتعين الإشارة إلى أن الهمجية ليست أصيلة في الشعب لأنه من أوائل صناع الحضارة وهو أيضا صاحب كرامات ومواقف كبري في مراحل عديدة على مدي التاريخ ، لكنه في السنوات الأخيرة تغيرت ملامح بعض أبنائه وتربت لهم أظافر وتجاوزا الحدود وارتكبوا الحماقات وتنكروا لكل دين وثقافة وأخلاق وقيم ورثوها عن الأجداد والآباء والقادة والثوار والزعماء والمناضلين والمفكرين والكتاب الشرفاء بل والفنانين الذين كانوا دوما نجوما تضيء الليالي والأيام .لقد عاني الشعب المصري من خلل واضح في السنوات الأخيرة خاصة منذ قيام ثورة يناير 2011 واندفع البعض نحو سفوح الهمجية والعشوائية والحماقة والشواهد أكثر من أن تحصي ونتائجها أسوأ من أن ننكرها .
أشرنا إلى أن الفئة الأقل ضررا هي فئة الفلاحين بكل من ينتمى إليها من الرجال والنساء والأطفال والتلاميذ ، أما كافة الفئات فأغلب الهمج منهم حتى النخبة ، ونبدأ بالقمامة التي تتعدى في العام مليونى طن فمصدرها الأول الأغنياء والأثرياء وكل أصحاب الدخول العالية خاصة أن استثمار تلك الثروة لم يتم تفعيله حتى الآن رغم التصريحات الوردية والوعود ، كما أن إلقاء القمامة في الشوارع سببه عدم وجود سلال لها أمام كل محل ، ومعظم القمامة بشوارع المدن من المحلات التجارية والباعة الجائلينالذين بلغوا في الفترة الأخيرة عدة ملايين وأصبحوا يهددون المدن بشدة ويسيئون جدا للمظهر الحضاري، وهم من يركبون السيارات التى تسد الطرق وتحرق الوقود.
الهمجية تتجلى مؤخرا على الأقل في المظاهرات العشوائية والطائفية والخارجين على القانون وهواة التحرش والسرقة والظهور في وسائل الإعلام ، وكلها دليل على الهمجية من جانب المتظاهرين والدولة بالمقدار ذاته لأن الدولة لم تنظم هذه السلوكيات التي تهدد منظومة العمل والمتظاهرون ليسوا نسيجا واحدا فأغلبهم من العاطلين والمتورطين والمندسين والمدفوعين والمتآمرين والمخربين والمحرضين والبعض لا يهمه إلا البحث عن التسلية وقضاء وقت الفراغ ، فالهمجية أحيانا تكون من صنع الإدارة، وأحيانا تسببها البطالة ، وهناك همجية لمجرد العناد مثل الكلاكسات في الشوارع من راكبي السيارات والدراجات النارية ، وهناك همجية في القيادة ذاتها فماذا في أن تصعد السيارة الرصيف الأوسط لتعود من حيث أتت ، وماذا لو سارت في المقابل ؟، ومن الهمجية قيام ضباط المرور أو وكلاء النيابة برفع الغرامات عن المخالفين. ومن الهمجية رمي الجماهير زجاج القطارات بالطوب ، وتمزيق المقاعد الجلدية والعبث بالإسفنج في القطارات والأتوبيسات فلا الأهل قاموا بالتربية ولا الدولة عاقبت أو اهتم موظفوها حتى برد المخالف بالمودة أو التبليغ عنه . الهمجية ابنة شرعية لغياب القانون الرادع.
الهمجية تجلت في استيلاء المصريين على عشرين ألف فدانا من الأرض من أملاك الدولة خلال ثلاث سنوات ، ثمنها لا يقل عن عشرين مليارا.. الهمجية تجلت ولا تزال في سرقة الآثار وبيعها وتركها من الأصل دون حراسة .. الهمجية ترك الناس يتقاتلون ليحصلوا على رغيف أو أنبوبة ..الهمجية أن يتم حشر التلاميذ بالمئة في فصل واحد دون زجاج أو مقاعد إلا القليل ..الهمجية أن تترك القطارات بهذه الصورة غير الإنسانية لتمزق أجساد الركاب في كثير من الحوادث .. الهمجية أن يسيء الرجال معاملة المرأة والأطفال وبيع البنات الصغيرات لمن يدفع . الهمجية أن تترك سيناء بلا استثمار ولا خدمات ولا حقوق ، والهمجية إخراج المجرمين والقتلة من السجون بإرادة سياسية ، والهمجية منح الجنسية لغير المصريين دون أدني حق ..قد تمنحها لعالم أجنبي كبير قدم خدمات جليلة للوطن أما أن تمنحها لمئات الآلاف من دولة مجاورة فهذا ما لم يحدث في التاريخ . الإنسان يذوق الأمرين حتى يحصل على جنسية أية دولة من الدول ونحن نوزع منها مئات الآلاف كزكاة بمناسبة رمضان والعيد الكبير وفي عاشوراء. الهجمية تجنب استخدام العقل .. بإيجاز شديد أقول : دولة بلا قانون محكم وعادل دولة همجية ومع ذلك نأمل أن تتبدل الأحوال ويقيض لنا الله حكومات واعية وشريفة وثورية تصحح الكثير من الأوضاع الملتبسة والمشوهة لصورة مصر في عيون أبنائها وأحبابها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق