الثقافة.. وصناعة المستقبل!
أحمد طوسون
لا مجال للشك أن مقولة زمن
الرواية التي أطلقها الناقد الكبير د.جابر عصفور على صفحات مجلة فصول، وذاع صيتها
ما بين المثقفين، لم تكن مجرد مقولة أدبية منبتة الصلة عن السياق الثقافي
الاجتماعي السياسي الذي يعيشه الإنسان العربي من الخليج إلى المحيط.
ومن قبلها مقولة الناقد الكبير
د. على الراعي عن أن الرواية قد
أصبحت ديوان العرب المحدثين.
المقولتان في حقيقتهما بقدر ما
كانتا تقرءان التحول الثقافي العربي من الشعرية إلى النثرية، وانطواء صفحة الشعر
القائم على الغنائية والخطابية المجانية في الذائقة العربية، الغير قائمة على
استقصاء وإحصاء وتحليل ونتائج من الواقع فأفرطت في الفخر والمدح والهجاء والحماسة والوقوف
عند الأطلال متكأه على الكليات والعموميات التي تأثر الوجدان وتجعله يدور في فلكها،
لصالح السردية التي تولي جل اهتمامها للهامش والتفاصيل الصغيرة لحياة المهمشين وعذابات
مجتمعاتهم.
بقدر ما كانت المقولتان تتنبئان بتحول الثقافة العربية من طور القبلية
(بأشكالها المتعددة القديمة والحديثة بما فيها الدولة القبيلة) إلى المدنية، وما
يتبع هذا التحول من صراعات قد تبدو في ظاهرها صراع الموروث مع الحداثة، أو صراع
الكيانات القائمة وما ارتبط بوجودها من تكريس لمصالح ونخب تدور في فلكها وترتبط مع
وجودها بوشائج عميقة، يجعلها تسعى لترسيخ وجودها ومقاومة كل ما هو جديد يسعى إلى خلخلة
المركز، في صراع تتحد فيه السلطة بمؤسساتها مع الأعراف والتقاليد والمنظومة الاجتماعية
ضد التحديث والتمدن!
وقد استدعى هذا الصراع قبول السلطة في هذه النظم على أن يكون بديلها في
الشارع الراديكالية الدينية التي تسعى في صراعها للوثوب إلى سدة الحكم في بلادها على
نفس آليات السلطة للبقاء في مقاعد الحكم وإفساح المجال لها للعمل مع الجماهير في الهامش،
لأن عادة النظم المستبدة يكون جل اهتمامها بالمركز وتصدير الوعود الخطابية
للهامش.. وتعمل القوى الراديكالية القائمة على أساس ديني على تهيئة الهامش لقبول
هذا الخطاب نظرا لطبيعة الثقافة التي تنشرها هذه الجماعات وتنبت من ذات المعين
الذي تستقي منه السلطة خطابها وجوهره المحافظ الرافض لكل أشكال الحداثة ومعطياتها
وأولها اعتبار الفرد مركز تدور حوله قوى المجتمع السياسية والثقافية وما يولده ذلك
من إعلاء لقيم حقوق الإنسان وحرية التعبير والمواطنة والحوار والتوزيع العادل
للثروات وتبادل السلطة.. وهي أمور تتعارض مع المرجعية الثقافية لفريقي السلطة
المستبدة و الراديكالية الدينية.. المرجعية القائمة في حقيقتها على ثقافة القبيلة
وإن اتخذت شكل نخب تحكمها شعارات تجتذب العامة عند الفريقين، كُلاً وفق معطياته
ومنهجه.
وعادة ما يكون المثقف التنويري هو العدو المشترك لكلا الفريقين، فتعمل
السلطة على إقصائه خارج المشهد ولا يجد لنفسه المكانة الاجتماعية والاقتصادية التي
تعينه على أن ينهض بدوره المأمول منه فنجده غارقاً في البحث عن قوت يومه، عاجزاً
عن الحصول على رعاية صحية واجتماعية لائقة، وقد برعت الأنظمة في صور الإقصاء التي
تطورت من قصف للأقلام بصورته الغاشمة، إلى صناعة المثقف وفق معطيات النظام ليكون
صوتاً من أصواتها المتعددة، إلى تدجينه داخل مؤسساتها باستخدام العصا والجزرة، وفي
النهاية حين تفشل في اجتذابه إلى فلكها، استخدمت في الحقب الأخير آلية اقتصادية معروفة بالإغراق.. استخدمتها ثقافيا
فيما يمكن أن نسميه الإغراق الثقافي اعتماداً على أن الإبداع والفن الرديء دائماً
أعلى صوتاً، وبالتالي فتحت هذه الأنظمة نوافذها الإعلامية ومؤسساتها لهذه الأصوات
التي كانت من صنيعتها، فوصلنا إلى ما نشهده في حياتنا من إسفاف إبداعي وفني
واجتماعي، ليضيع صوت المثقف التنويري بين الضجيج المصطنع.
أما الفريق الآخر الذي يتلاعب بالعقول تحت ستار الدين فسيبدو عداؤه ظاهراً
للثقافة باعتبارها حجر العثرة أمام الأفكار الظلامية التي يروجون لها في سبيل
تحقيق أهدافهم. لذا لم يتورعوا عن مهاجمة الثقافة بكل أشكالها بما فيها إراقة دماء
المثقفين كما حدث في اغتيال فرج فودة على يد الجماعة الإسلامية، وفي محاولة اغتيال
الكاتب الكبير نجيب محفوظ على يد أحد الشباب من الذين خضعوا لأفكارهم الظلامية،
بخلاف الاغتيال المعنوي الذي مورس من هذه الجماعات (ومن السلطة أيضاً) ضد كثير من
المفكرين والمثقفين، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تستوعبها هذه الورقة.
الوعي (المديني) كما أطلق عليه د.جابر عصفور بمقاله بجريدة الأهرام بتاريخ
13 ديسمبر 2004 وغدت الرواية تجسيدا له، لم تنتبه له القوى السياسية من حكم
ومعارضة ولم تعمل على تكريسه وتطوير مرجعياتها الفكرية المختلفة وفق آلياتها والتي
سعى محمد علي مع بدايات الدولة المصرية الحديثة إلى غرسها بإيفاد البعثات إلى
الغرب لخلق المناخ المناسب لتحديث الدولة والانفتاح على الثقافات واتخاذ مواقف
ورؤى متواكبة مع التطور والعلاقات داخل المجتمع بما فيه من تعدد أو ما بين دول
العالم.. والموقف من الآخر المختلف دينا وجنسا وبالتالي طبيعة النظر إلى المرأة
ووضعيتها الاجتماعية وضرورة أن تحصل على كافة الحقوق بالتساوي مع الرجل وفق حقوق
المواطنة.
لكن البداية التي خطا محمد علي خطواتها الأولى وكان اهتمامها منصباً على
المركز بحكم السياق التاريخي والجغرافي وطبيعة مركزية الدولة المصرية آنذاك، ظلت
منفستو لأنظمة الحكم في مصر حتى لحظتنا الراهنة برغم اختلاف السياقات وتقدم وسائل
الاتصال والمعلوماتية والزيادة السكانية الرهيبة التي شهدتها مصر، وتحول التحديث
من رغبة عند محمد علي يعمل على تحقيقها كماً وكيفاً وفق المنعطف التاريخي لحظتها،
إلى صورة تصدرها الأنظمة إعلامياً بقدر ما ترفضها واقعياً.
لذا لم يكن من المستغرب أن يطفو على سطح الجدل السياسي والإعلامي إبان حكم الرئيس
المعزول د.محمد مرسي عقب ثورة 25 يناير2011 مصطلح (ترييف مصر) على لسان الساسة
والإعلاميين، فرغم أن المصطلح إعلامي ولا يوجد_ على حد علمي_ تأصيل منهجي أكاديمي
له إلا أنه واحد من تداعيات صراع عشناه طويلا ما بين الأصالة والتحديث في الثقافة
العربية والإسلامية، بالإضافة إلى انعكاسات لرؤى سياسية دولية لم تتخل عن أطماعها
بالمنطقة تزرع الانقسام والطائفية بأشكالها الاجتماعية المختلفة كأحد آليات الفوضى
الخلاقة التي دعت لها كونداليزا رايس كوسيلة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
وبعيداً عن كل ما سبق يكشف المصطلح حقيقة الأزمة التي مر بها المجتمع
المصري والمجتمعات العربية وأدت إلى إخفاقات جلية لثورات الربيع العربي.. وهي في
حقيقتها أزمة ثقافية تتمثل في غياب لثلاثية الشاعر ت.س. اليوت التي تطلبها لإدراك
الثقافة في المجتمع وتحققها أولاً: من خلال البناء العضوي لمؤسسات الثقافة التي
تعمل على نشر الثقافة في المجتمع وضرورة مراجعة ما قمت به من دور وما تحقق من
نتائج وأسباب عجزها عن الوصول لغالبية فئات المجتمع وبالأخص تلك الفئات التي نجحت الراديكالية
الدينية في اجتذابها وعلاج هذه الأسباب ومظاهر الشللية والفساد في هذه المؤسسات، ثانياً:
مراعاة البعد الإقليمي للثقافة وتحليله وفق واقع كل إقليم وظروفه الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية لنستطيع تقديم خدمة ثقافية تتناسب مع واقع الإقليم والثقافة
المحلية المتوغلة بين أفراده، ثالثاً: عدم إغفال عامل الخطاب الديني أو تهميشه،
وعدم التعامل باستعلاء وتعالم مع البسطاء، والتطرف تجاه أفكار غريبة عن مجتمعاتنا
تدفع البسطاء لحرصهم على دينهم في مجتمعات متدينة بالفطرة باختلاف عقائدها إلى
الانصراف عن كل خطاب يمس عقيدتهم وبالتالي تركهم فريسة سهلة لجماعات التطرف
الديني.. إن العمل على مراعاة وحدة الدين وتنوعه واحد من أهم سبل اتساق الثقافة
داخل المجتمعات لتكون مؤهلة للانتقال إلى التحديث بقناعة شعبية ضرورية لإحداث
التغيير.
الدور الثقافي كان له أكبر الأثر في التغيرات التي شهدتها المنطقة وستشهدها،
ومنذ ولجنا إلى العولمة التي جعلت العالم قرية صغيرة أصبح الصراع بين الأمم
والشعوب والمجتمعات صراعاً ثقافياً بالأساس.
ولن تنهض أمتنا وتتقدم إلا إذا أفسحت الدولة مجالاً حقيقياً للثقافة لتقوم
بدورها في إعادة ترسيخ ثوابتنا الثقافية والوطنية، وألا تتخذ من الثقافة عدواً
لمجرد أنها ستبقى دائماً العين الحامية لضمير هذا الوطن.
http://www.middle-east-online.com/?id=168815
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق