يناير .. من يتذكره الآن :
مقاطع من رواية (
أغنية علي الباب )
ماثلة للطبع ..
________________________________
بقلم: حسن النجار
( 1 )
من
صبيحة ذلك اليوم وإلي ما بعد منتصف الليل
ظلا واقفيْن في قلب الحشود الهائلة التي غطت أرض ميدان التحرير والشوارع المؤدية
إليه . كان ممسكا بيدها خشية أن تضيع منه في هذا الزحام الذ ي لم يشهد الوطن له
مثيلا . إنها ليلة المصير كما تنادي المنادون ، إما أن يسقط الجدار الغليظ الأصم
أو يهلك الجميع . حتي صُرَّة الزاد التي
يحملانها ظلت كما هي لم تفتح . إن شهوة الإزاحة كانت أقوي من كل شهوة . وبين
الفينة والفينة ينظر إليها بامتنان ‘ فقد ضخت في جسده منذ أن غادرا بيتهما السعيد
وحتي وصولهما إلي أرض الميدان ( مسافة 150 كم ) هذه
الرغبة الجياشة بالغناء في حب الوطن . إنهما يدافعان عن بيتهما السعيد من
هنا من هذا المكان . وكل من جاء إلي هنا كان يسعي لدرء الخطر عن حياته وحياة ذويه من هنا حيث تشتعل الأبدان في غناء
كالهدير.
فإما
أن يسقط الجدار الغليظ الأصم أو يهلك الجميع .
وعند
محيط القصر الذي وصلاه ضمن الموجات البشرية الهائلة التي زحفت إليه رفعها إلي
اعناقه خشية أن يحدث لها مكروه في الزحام ، لكنها ظلت ممسكة بيد صرة الزاد
وبالأخري العلم .
حاول
أن يدخل بها عبر البوابة الرئيسية مع الذين حاولوا الدخول لكن الأسوار الشائكة ومن خلفها الحراس
المدججون سدوا الطريق.
نزلت
دنيا زاد عن أعناقه وشقت طريقها بصعوبة إلي الجانب الخلفي فقد يكون ثمة باب ليس به
أسوار شائكة أوحراس ، تبعها وفي يده شعلة أضاءت لها المكان . جاره في الحشد كان
يحمل فأسا .
ــ لماذا هذا الفأس يا جاري العزيز ؟
وضاع
صوت الجار في ضجة الصخب .
قال
أحد الحراس :
ــ
الذي تبحثون عنه ليس موجودا هنا .. ابحثوا عنه في مكان آخر.
وسقط
الجدار من أول ضربة فأس..
عادا
بعد منتصف الليل إلي البيت . أغلقا الباب
الحديدي للحديقة بإحكام ، وقبل أن يلتقطا
الأنفاس ذهبا إلي السجادة وأطلقا لجسديهما
العنان يفتحان كل مغاليق الأرض المحتبسة يشمون
رائحة الفرح الوافد إليهما بعبق التاريخ . وبدون دواء طاقة . كل الأنهار العربية وكل اليابسة ، كل ماهو طيب
وجميل في هذه الحياة ، كانوا شهودا علي تلك الليلة التي لم ينم فيها إنسان علي وجه البسيطة .
وأول
مرة يحدثها بحنو عن الإنجاب :
ــ يكفي صومنا كل هذه المدة ..أليس من حقنا أن يكون لنا وريث نلقنه التاريخ كما
ينبغي أن يكون .. ويحمل عنا مرسوم العشق الذي ضرب قلبينا وحملناه كل هذه السنوات ؟
ــ
أجل حبيبي .. وسأتعجله بالمجيئ ..
ــ
لو كانت بنتا سنسميها يارا .. هذا الاسم الجميل كان عنوانا لكتابي " الغناء
في أقاليم يارا " ولو كان ولدا أترك لك اختيار اسمه انتِ ياأجمل الجميلات .
صباح
اليوم التالي سمح لدنيا زاد أن ترتدي زيها الجزائري الفضفاض وتقف شامخة كطلع
النخلة علي سطح البيت رافعة العلم وتطوح به في الهواء ليري الغادي والرائح كم كان
زوجها محقا حين انتقاها من كل نساء الأرض ، وكم كان صائبا حين قرأ التاريخ قراءة
صحيجة .
وفجأة
انفجر الجو برائحة كريهة ، طاغوت من نوع آخر
وتساءل:
ـــ
لماذا لايدَعوننا نشم رائحة الفرح الوافد إلينا بعبق التاريخ؟
هل ضاقت الأرض بإنسانها فأطلقته يقتل ويسرق ويزني
ويسيِّر
الفحشاء في كل مكان .؟
لماذا يضيق بعض الناس من الواقع الجديد الذي
فرضناه فرضا ، انتزعناه بالدماء الذكية التي سالت علي ارض الميدان ، ومازالت
آثارهذه الدماء مطبوعة في قصائد الشعراء ؟
ولأول
مرة يخشيان علي أنفسهما من المجهول القادم الذي يتربص بالجميع .
اتسع
نطاق الفوضي وضربت أطنابها في كل مكان ، ولاأحد قادر علي فك طلاسمها ووقف الجميع
عاجزين . كل شئ بقدرة قادر أصبح في ملقف ريح صرصرعاتية .
اقترحتْ
دنيا زاد عليه أن يسافرا إلي أي مكان آخر حتي لو إلي
الجزائر
فقد يجدان الأمان هناك ..
ـــ
عزيزتي أيتها الزوجة المحبة لزوجها .. كل مكان نذهب إليه ستصل إليه هذه العدوي لا محالة.. فالقطار سائر في طريقه
لن يوقفه عائق .علينا إذن أن نحصن أنفسنا هنا بالطريقة اللائقة .. أن نسلح أنفسنا
بما نستطيعه من أدوات الدفاع عن النفس ..ألم نتعاهد بأن نظل أوفياء للعشق حتي عند
الموت ؟
ثم
أكمل وكأنه يبكي من الداخل :
ـــ
لم يِِردْ هذا الذي يحدث في نبوءة عراف
ولا في كتب تاريخ
هذا
الوطن الذي ظل بعيدا طوال عصور عن أي انتهاك لحياة
الآخرين
.
أصبحت
الحياة لهما ولغيرهما شديدة التعقيد والصعوبة .
خرجت
دنيا زاد إلي الشرفة تتأمل أشجار الحديقة والفاكهة التي دخلت في طور النضج وتحتاج
إلي رعاية من نوع خاص . فذباب الفاكهة بدأ يطن حولها وفي حاجة إلي من يهشه .
تبعها ونزلا معا يتمشيان بين الأشجار وقد
وضع ساعده الأيمن علي
كتفيها كأنه يضمها إليه ، وساعده الأيسر يُبعد
عنها الأغصان
المتشابكة .
وبغتة
حدث دوي انفجار هائل ، كان إطار سيارة قد انفجرعلي
الطريق
المار بالبيت وأحدث هذا الدوي الذي أخرج الناس هلعا من بيوتهم يستطلعون الأمر .
ظلا واقفيْن بين الأشجار يتأملان اللحظة التي انسكب فيها دوي الإنفجار بهروع الناس
إلي خارج البيوت .
قال
جارٌ له من بعيد : هذا نذير شؤم .
رد
عليه يطمئنه :
ـــ حادث عارض أيها السيد .. ألم تعايش حربا من قبل
؟
ـــ
كلا ..
ثم
وهو يوجه كلامه إلي دنياه :
ـــ
كانت الحرب هكذا .. دوي انفجارات طول
الوقت هنا وهناك
..
ودخان أسود كثيف يغطي سماء المعركة .. وكنا نتقدم في وثبات إلي الهدف المرسوم .
وتحسست
ظهره الذي أصابته شظية من دانة مدفع معادٍ في الحرب ، ومالت علي موضع الإصابة تطبع قبلة
..ونزلت من عينيها دمعتان .
دخلا
معا ( البيت السحري ) وجلسا يتأملان النبات الأخضر
وهو
يشب عن الأرض كأنه يقاوم الحالة الضبابية التي تكتنف
الحياة
ويقول :
ــ مازال في الأرض متسع للحياة السعيدة .
( 2 )
انشغلا كما كل الناس في ناحيتهم والنواحي الأخري بتحصين أنفسهم من
الخطرالمحدق بإشعال نار أمام البيوت في الليل ، يسهرون حولها كما المجوس خشية أن
يأتيهم أذي من هؤلاء الذين انطلقوا في الأرض يعيثون فيها فسادا دون أن يعوقهم عائق
.
قال وهو يكتم غيظه :
ــ لم
يشهد الوطن مثل هذه الغمة من قبل وأنتِ تعرفين ذلك
ــ أعرف .. فكل الوطن العربي له سماته الواحدة حتي
في الفوضي .
واكتشفا أن للنار وظيفة اخري غير وظيفة التدفئة
والطهي . وأشعلا النار مع الشاعلين .
بعض الناس تمادوا في زيادة الحرص فاقتنوا أسلحة
نارية من جميع الأعيرة ومتعددة الأنواع
غير مرخص باقتنائها يدافعون بها عن أنفسهم
إذا اقترب الخطر منهم ، فلا أحد يحاسب أحدا علي ما اقترفت يداه . وكانا أكثر ما يخشيانه هو أن يحدث لهم ما حدث لغيرهم من احتلال البيوت
من قِبل هذه العصابات وطرد سكانها منها تحت التهدبد بالسلاح .
ولم يسلما
من أذي تلك المرحلة ، فقد استيقظا ذات صباح فوجدا البوابة الحديدية للحديقة قد
سُرقت .. إنهما في دائرة الخطر إذن وفي مواجهته . ورغم هذا ظلا واقفيْن في الميدان ..
ولم يكن النوم علي السجاجيد بمنأي عن تلك الأحداث
التي أفقدت المرء أي شهوة للتولصل المنشود ، وكان النوم علي الفراش هو الوضع
الأمثل الذي يأوون إليه مضطرين .
قال وقد ملأ الحزن قلبه :
ــ دنيا
أيتها الجميلة المحبة لزوجها .. عدتُ إلي اقتراحك من أيام ..إذا كان هذا
المكان غير آمن لكِ ولي فلنذهب إلي أي مكان آخر ترغبين الذهاب إليه ..حتي ولو إلي
الجزائر أو باريس.. لقد فكرت طويلا في هذا الأمر وأعرضه عليكِ الآن ؟
ــ لقد راجعت نفسي وعنفتها علي ذلك .. إذا ذهبنا
إلي مكان آخر فمن يرعي شئون حديقتنا التي تعبنا في جعلها أم الحدائق في هذه الجيرة
إنهم يحسدوننا عليها ، دعك من هذا الأمر الآن وساعدني في ردِّ النافذة إلي ما كانت
عليه لقد جعلتها شديدة الإحكام لا ينفذ منها رصاص .
ظلت ممسكة بالعلم لم يسقط منها يوما ، وهو ما جعله
يطمئن علي أن حياتهما ماضية في طريقها بدون منغصات . وقد رآها ذات يوم وهو عائد من
السوق وقد طلت زجاج النوافذ باللون الأزرق كما في زمن الحرب ، وهاهي الآن تمسك
بالفأس الصغير تسوي أرض الحديقة وتنزع منها الحشائش الضارة ، وقد لفَّتْ رأسها
بالعلم وتغني الأغنية الشهيرة : والله زمان يا سلاحي ..
التي تمني أن يغنيها كل عربي في كل الأوقات .
( 3 )
سيبقي
يوم الثامن من يوليو ظلا ممدودا في
الذاكرة ، لايضاهيه يوم قبله ولا يوم بعده . وللميادين لغة لا يفهمها سوي عشاقها
الميامين . وهذا الميدان ذاعت شهرته كأفضل الميادين قاطبة لرقي من يؤمه من مداحي
الشعر والمغنين والحواريين وأصحاب النخوة النبلاء .
وقف
الإثنان علي إحدي بوابات الميدان يفتشان القادمين إليه من كل الأرجاء حرصا علي
سلامة من هرعوا إليه من كل الأنحاء . هو للرجال وهي للنساء ويلبسان قبعة الحماية ،اختارا هذا المكان طواعية هذه المرة
.. جماعة الحماية .
في ذلك اليوم كانت الشمس تصب لهيبها حمما تكاد
تحرق الأبدان ( سقط نحو سبعين في حالة إغماء ).
حتي
شعائر صلاة الجمعة أداها الجميع واقفِين من سخونة الأسفلت .
يوم
لايضاهيه يوم قبله ولابعده ..
ظلاَّ
صامدين في الميدان يحرسانه كما لو كانا يحرسان الوطن، أو يحرسان بيتهما بحديقته
النموذجية التي ذاع صيتها في طول الجوار وعرضه . إلا ساعة واحدة غادرا
البوابة ليحل محلهما طاقم حراسة آخر وذهبا
يقودان الميدان .
ــ
سي منصور ..إرفعني إلي أعلي لكي أري قمة الحشد ..
حملها
علي الأعناق ليصل صوتها إلي أبعد أطراف الميدان كانت هذه رغبتها من أول بداية
رحلتهما من بيتهما الريفي .. أن تقود يوما حشدا من نساء الميدان تكون فيه قيِّمة عليه.
يوم
لا يضاهيه يوم قبله ولابعده ..
حتي
طعامهما تناولاه واقفيْن عند البوابات . أشارت علي أحد الواقفين أن يتكرم ويعطي
للسيد الواقف هناك ( زوجها ) قنينة الماء ليشرب لأنها لا تستطيع أن تبرح مكانها .
نظر
إليها بامتنان وحب ، وناولته منديل ورق ليمسح عرق الجبين ، وبعد أن خف الزحام بعثت
إليه قبلة في الهواء تلقفها قبل أن تطير في الزحام .
عند
حلول المساء ألقيا تحية المساء علي من بقوا يحرسون الميدان في الليل ، هؤلاء الذين
كتب الله عليهم وقفة الميدان إلي أن يجف مداد الدواة . ثم غادرا إلي البيت كما لوكانا عائديْن من خط
النار .
في
الطريق أخذت راحتيه بين يديها تمسحهما من التراب الذي اختلط بعبير عرقه وسألته :
ــ
هل أجدتُ مثلك قيادة الحشد ؟
أومأ
بالرأس مبتسما وردَّ إليها قبلة الميدان .
يوم
لا يضاهيه يوم قبله ولا بعده ..
قابلهما البيت من بعيد مغتما، والبيوت تستقبل أصحابها
حينما يعودون إليها بعد غياب بالفرحة أو بغيرها . ولما دخلاه اكتشفا أن أياد خفية
قد عبثت بأشجار الحديقة وجمعت معظم الثمر. كاد قلب دنيا زاد أن يتوقف ، ولأول مرة يراها تنهنه من شدة البكاء.. خمسة
أعوام مرت علي زواجهما ولم يرها مرة واحدة
تبكي .كأن عزيزا عليها فقدته للتو .
جلسا تحت شجرة
التفاح ينظر كل منهما للآخر نظرة شجن .
قالت له :
ــ حبيبي هل هذا نذير شؤم ؟
أجاب بصوت لايكاد يسمعه :
ــ كنت اتوقع أن يحدث شيئ من هذا .. كنت أتوقع أن يطالنا
ماطال الاخرين ..
ثم أخذ وجهها بين يديه وأمطرها بقبلاته وقال مواسيا:
ــ حبيبتي التي أحبها .. هوني عليك الأمر ..نحن قادمان
الآن من ميداننا السعيد فلا ندع شيئا يقتل فينا بهجة هذا اليوم الذي انتظرناه
طويلا .
ثم دخلا إل
النوم يتبعهما ظل الميدان .
_______________________
حسن النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق