خيري عبدالعزيز
استقبلت ابن العم الكبير -دكتور
الجامعة- مرحبا.. قال فيما يسترخي على المقعد مرهقا:
- خمس ساعات من السفر.. موعد القضية
أجبرني على ترك مصالحي في العاصمة.. هذا ما أناله من الأخوة الفاسدين..
قلت من فوري:
- الصلح خير يا دكتور..
أشاح بوجهه مقاطعا:
- أريد قدحا كبيرا من الشاي..
نهضت لألبي طلب ابن العم, وأنا عاقد
العزم على مصالحته على أخيه الأستاذ.. أمسكني فيما يردف ضاحكا:
- لي طقوس خاصة مع الشاي..
مبتسما قلت:
- تفضل..
- اغسل القدح جيدا.. ويا حبذا لو كان
جديدا لم يستعمل.. وأحضره مشكورا إلي مع الشاي والسكر والماء الساخن .. فلي معيار
من الشاي والسكر أقدره بيدي..
أومأت برأسي ذاعنا, وشرعت في تنفيذ
أوامره.. أعطيته الماء الساخن والشاي والسكر وقدحا كبيرا فارغا أخرجته من غلافه
أمامه؛ فهز رأسه مستحسنا..
عاير الشاي والسكر بيده, وأفرغ الماء
الساخن في القدح, وأخذ يحرك الملعقة
الصغيرة في مهل وتأني, وهو يراقب القدح في صمت
واهتمام, وبدا وكأنه يمارس طقوسا ما.. أخيرا وجدت الفرصة مواتية لأدخل في لب
الموضوع, فقلت مستبشرا من تلذذه:
- يا دكتور لا طائل من العداء والجري
في طرقات المحاكم بينك وبين أخيك الأستاذ..
رمقني وهو يتجرع جرعة كبيرة من
القدح, ويشير إلى البراد:
- ضع البراد على الموقد فلي رغبة في
كوب آخر..
وضعت البراد على الموقد, وأحضرت
المزيد من الشاي والسكر لأن القدح الأول كان قد التهم نصف الشاي ونصف السكر, وما
كدت أجلس حتى أنهى جرعته الأخيرة, وغمز بطرف عينه لأحضر الماء الساخن..
وفيما يتناول قدحه الثاني قلت سريعا
لأخرج من هذه الدائرة المفرغة:
- نريد الصلح بينك وبين أخيك يا
دكتور..
بدا أن الدكتور لم يسمعني, وهو ينظر
للقدح الذي يفقد محتواه في سرعة مع كل رشفة, مما جعلني أتوتر, ثم قال وهو يمصمص
شفتيه ويهز رأسه معجبا:
- شاي مدهش.. ما نوع هذا الشاي؟..
قلت وأنا أكتم غيظي:
- شاي التموين..
انتفض وكاد يقف على قدميه:
- معقول..
حاولت جذبه إلى الموضوع الرئيسي الذي
يفلت من قبضتي, كما ينفلت الماء من بين الأصابع:
- نرجع لموضوعنا.. الصلح يا دكتور ..
الصلح مع أخيك الأستاذ.. الناس في البلد ليس لهم حديث سوى العداء المستفحل
بينكما.. ألا يكفي أن كلاكما ترك مصالحه في العاصمة من أجل القضية.. تنازل عنها يا
دكتور من أجل خاطري ..
اكفهر وجه الدكتور وصاح في وجهي:
- أتنازل ؟!!.. أقسم أن أدخله
السجن.. عندي من المستندات ما يجعله يقضي بقية حياته خلف القضبان.. ها أنت قد عكرت
مزاجي بذكره..
ثم استطرد وهو يشير إلي القدح
الفارغ:
- ضع ماء على الموقد..
لم أعر مطلبه انتباها, وعقدت العزم
على ألا أفقد طرف الخيط, وقلت في شيء من الرقة:
- أنا ابن عمكما الأصغر.. ولا يرضيني
أن يصل الأمر بينكما إلى هذا الحد.. معقول يا دكتور؟!!.. أنت الكبير..
قاطعني غاضبا:
- أرح نفسك ما بيننا لن ينصلح.. أحضر
فقط الماء الساخن..
- سأحضر لك ما تشاء .. ولكن دعنا نضع
حدا لهذه المهزلة..
ثم أردفت بعد تردد, وأنا أرى وجهه
يزداد اكفهرارا:
- أريدك أن تذهب إليه بصفتك الأكبر
سنا و..
انتفض الدكتور واقفا كمن لدغته حيه:
- أجننت.. أنا أذهب إليه.. ما هذا
التخريف..
حاولت التشبث به, وهو يغادرني غاضبا,
بينما يردد:
- مجنون..مجنون ..
* * *
في المساء جاءني الأستاذ, فقلت من
فوري وأن أستبشر خيرا بهدءوه:
- يا أستاذنا أريد أن..
أشار بيده معترضا حديثي:
- أريد قدحا كبيرا من الشاي.. لقد
أرهقني السفر جدا..
نجحت ذكرى الشاي في اضطراب أعصابي
على الفور, وشعرت بفكي ينطبقان في عصبية.. في حين أردف هو قائلا:
- لي طقوس خاصة مع الشاي ..
شعرت بدماء الغضب تضرب في رأسي, فقلت
من بين أسناني:
- تريد قدحا جديدا.. تعاير الشاي
والسكر بيدك.. وتريد ماء ساخنا باستمرار على الموقد ..
قاطعني مبهورا:
- حقا.. من أخبرك؟!!..
أجبت حانقا فيما أتجه إلى المطبخ:
- هذه فراسة يا أستاذ..
أحضرت الأدوات في صمت, وأنا أكبح
زمام نفسي أن تنفجر, وعقدت العزم على الصمت.. وليفصل القضاء بينهما..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق