قصة قصيرة وقراءة نقدية القصة
للأديبة الكويتية : تسنيم الحبيب
القراءة للدكتور / مصطفى عطية جمعة
القصة : بعنوان : على قارعة النبذ .. للقاصة : تسنيم الحبيب
" ها قد أتممت كل شيء " ترد عليه ببحة يعرفها
" كل شيء؟ "
يومئ دون صوت ، يحمل الحقيبة الأخيرة على ظهره ، يركنها قرب المدخل مع
صناديقه الحزينة، يستوثق من أوراقه ، جواز سفره ، يطوف بعينيه في كل الزوايا ، كل
أرجاء بيته / وطنه .. يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل !
" تبدو مختلفا بالبنطال " تمرر
إليه ملاحظتها ، اعتاد الجميع رؤيته بـ ثوبه التقليدي الأبيض الفضفاض ..
يحدث
نفسه ، " كل شيء يختلف ، كل شيء يتغير .. وأبقى أنا دوما ..كما أنا "
ثلاثة
عقود توالت عليه ، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك ، يستمطر الأماني فتحجم عنه ،
تصرخ به الأشياء :
" لستَ مثلهم ، اختلافك ظاهر
، جلي ، لن يفيدك أن تنغمس بلونهم ، فلونك الفاقع يصنمك في نقطتك ..و لا
سواها "
ثلاثة
عقود ، مالذي تغير فيه ؟ لاشيء سوى تنامي مساحات الغضب
الذي بدأ يأكله ، فيحيل رضاه إلى سخط ، وغبطته إلى حسد ، اتخذ قرار الرحيل هذا
ليهرب منهم ، من اختلافه ، من نفسه التي باتت غريبة عنه.
يهبط
عدة دركات ، يجلس على مائدة الفطور ، يلاقي أخاه الأوسط الذي تفوح من ثيابه
الجديدة رائحة الحياة ، يلمح الرداء الأبيض ينام براحة على ساعده ، يمرر لأمهما
كلمات تمنى كل يوم أن يمررها : " لن أعود باكرا ، يبدو أن محاضرات كلية الطب
أبدية !"
تبتسم
: "
الله يوفقك و أشوفك دكتور " تنزف
ابتسامته هو..
قبل
عقد أو أكثر ، حلم كثيرا بهذه الحياة النابضة ، بهذا الرداء الأبيض ، بـ
أروقعة الجامعة التي لم يرها إلا لإيصال أخته حين تتعطل سيارتها ، تبدو اليوم أكثر
نأيا !
يأخذ
رشفة من كوب الحليب المنكه بالهال والقرفة ، قضمة من البيض المخفوق بالخضار ، سيحن
إلى هذا الطعم بالتأكيد ، ينتبه إلى أخيه يمد كفه:
" تذهب سالما وترجع غانما
"
يقولها
بعفوية ، هل تراه يدرك أبعادها ؟
تشده
ابنة أخيه من ياقة القميص ، يحملها ، تكاد الدمعة الحبيسة تفضحه ، سيشتاق لكفيها
الصغيرتين في منفاه ، لو تمكن من العودة ، لو تمكن...سيحضر لها الهدايا التي تمنى
أن يهديها دوما ، وعاقه عنها الراتب الأهزل .
يدوي
بوق السيارة ، يحتضن أمه في محاولة لترميم الألم القديم ، يخرج من الباب ، يصيح به
زوج أمه :
"
هيا يا بني ، ستتأخر عن الطائرة "
يجلس
قربه في سيارة العائلة التي ما انتمى لها يوما رغم تجانس الدم ، يمعن في أسر دمعته
، لوعته ، تلفه أوشحة الجفاف ..
تبتعد
السيارة ، تذوب الصور ، بيته ، الطريق الطويل ، وجوه أخوته من أمه ، تغرس المرارة
مخالبها في لحم ذكرياته :
" أنت ولدنا ..و لكن ! لا
أستطيع أن أربط ابنتي بمصيرك المجهول "
مصيره
مجهول فعلا ، غائم ، كملامحه التي يتوارى عنها والتي تتحداه في مرآة السيارة ،
يسند رأسه على زجاج النافذة ، يغيب مع التواشيح الحانية المتدفقة من المذياع :
إلهي
..إلهي باسمك الأعظم وأسراره
إلهي..إلهي
رد غريب الدار لدياره..
يحرقه
الحنين ، تتوقف السيارة ، يهبط من علياء الوجع إلى ضجيج الواقع ، يخبز من الوجوه
الباسمة زاد الرحيل .
النداء
الأخير يرتفع ليصمه ، تغسله دمعته العنيدة ، يفرش روحه ، ويصلي في أرض الوطن صلاة
الوداع.
القراءة النقدية
: د. مصطفى عطية
تلتقط هذه القصة لحظة زمنية فارقة في حياة البطل / الشخصية الرئيسة في القصة
، فزمنها السردي يدور في حدود ساعتين أو أقل ، حيث يغادر البطل منزل الأسرة ، وأيضا
وطنه ، مستقلا الطائرة ، هاربا من واقع أليم عاشه ، فقد تخطى الثلاثين ، ولم يحقق أيا
من أحلامه ، لم يتزوج ، لم يدخل الجامعة ويصبح دكتورا ، الإحباط يلازمه ، في حين نجد
شخصية أخيه الناجحة الذي دخل كلية الطب ، وارتدى المعطف الأبيض ، أما هو فإن الجامعة
لم يعرفها إلا عندما يوصل أخته إليها ، إذا تعطلت سيارتها .
البطل الذي لم يتطرق السرد لاسمه ، وهذا متعمد في رأيي ، لأنه يعبر عن حالة
الكثير من الشباب ، الذين أضاعوا سنوات شبابهم ، ولم يحقق شيئا يذكر في الجانب العملي
/ الوظيفي ، العلمي / إنهاء الجامعة ، الشخصي / الظفر بحبيبة العمر . ، الذي نفهم من
سياق القصة أنها على صلة قرابة من البطل ،
فقد قال والد حبيبته له : لا أستطيع أن أربط مصير ابنتي بمصيرك المجهول .
وتأتي نهاية القصة ، بوصوله إلى المطار ، دون أن نعلم الجهة التي سيسافر إليها
، وسبب سفره ، وإنما يصلي صلاة الوداع على أرض الوطن.
هذه القصة مكتوبة ببلاغة عالية ، فيمكن أن نسمّي أسلوب كاتبها بالبلاغة خادمة
الحدث الدرامي ، فالجملة مكثفة الدلالة ، محملة بالمشاعر ، ناقلة للحدث، مثل قوله
: "
يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل " ، فلفظة المصلوبة تحمل
في ثناياها الألم ( إشارة لصلب المسيح ) ، وكونه ذكر المرآة فهو دال على أنها
تذكره بسنين عمره المرتسمة على وجهه ، كذلك قوله : "ثلاثة عقود توالت
عليه ، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك " ، فالنقطة الجدباء
إشارة إلى عقم سني عمره ، التي لم ينجز فيها شيئا ذا بال .
أرى أن القصة كانت تحتاج إلى المزيد من التعميق
للشخصية المجهولة كثيرا للمتلقي ، فلم نعلم أسباب فشله في دخوله الجامعة ، وإلى سبب
رحيله خارج الوطن ، ولا علاقته بحبيبته ، وأبعاد هذه العلاقة ، ولا أسباب جدب حياته
بشكل عام ، خصوصا أنه يعيش أجواء عائلية مستقرة ، وكل من حوله يحبه، وهو متعلق بابنة
أخيه الطفلة ، وهذا دليل على حبه للأطفال ، ورغبته في حياة أسرية مثمرة .
لاشك أن القاصة تمتلك موهبة واضحة تتمثل في التقاط
اللحظة القصصية المعبرة عن أزمة الشخصية ، وهذه اللحظة جمع فيها المكان والزمان والإنسان،
لتأتي القصة دالة على الحدث والأزمة والرؤية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق