2014/01/08

قصة قصيرة وقراءة نقدية القصة للأديبة الكويتية : تسنيم الحبيب القراءة للدكتور / مصطفى عطية جمعة



قصة قصيرة وقراءة نقدية  القصة للأديبة الكويتية : تسنيم الحبيب
القراءة للدكتور / مصطفى عطية جمعة
                                        
القصة : بعنوان : على قارعة النبذ .. للقاصة : تسنيم الحبيب
" ها قد أتممت كل شيء "  ترد عليه ببحة يعرفها
" كل شيء؟ "  يومئ دون صوت ، يحمل الحقيبة الأخيرة على ظهره ، يركنها قرب المدخل  مع صناديقه الحزينة، يستوثق من أوراقه ، جواز سفره ، يطوف بعينيه في كل الزوايا ، كل أرجاء بيته / وطنه .. يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل !
" تبدو مختلفا بالبنطال " تمرر إليه ملاحظتها ، اعتاد الجميع رؤيته بـ ثوبه التقليدي الأبيض الفضفاض ..
يحدث نفسه ، " كل شيء يختلف ، كل شيء يتغير .. وأبقى أنا دوما ..كما أنا "
ثلاثة عقود توالت عليه ، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك ، يستمطر الأماني فتحجم عنه ، تصرخ به الأشياء :
" لستَ مثلهم ، اختلافك ظاهر ، جلي ، لن يفيدك أن تنغمس بلونهم ، فلونك الفاقع يصنمك في  نقطتك ..و لا سواها "
ثلاثة عقود ، مالذي تغير فيه ؟ لاشيء سوى تنامي مساحات الغضب الذي بدأ يأكله ، فيحيل رضاه إلى سخط ، وغبطته إلى حسد ، اتخذ قرار الرحيل هذا ليهرب منهم ، من اختلافه ، من نفسه التي باتت غريبة عنه.
يهبط عدة دركات ، يجلس على مائدة الفطور ، يلاقي أخاه الأوسط الذي تفوح من ثيابه الجديدة رائحة الحياة ، يلمح الرداء الأبيض ينام براحة على ساعده ، يمرر لأمهما كلمات تمنى كل يوم أن يمررها : " لن أعود باكرا ، يبدو أن محاضرات كلية الطب أبدية !"
تبتسم :  " الله يوفقك و أشوفك دكتور "  تنزف ابتسامته هو..
قبل عقد أو أكثر ، حلم كثيرا بهذه الحياة النابضة ، بهذا الرداء الأبيض ،  بـ أروقعة الجامعة التي لم يرها إلا لإيصال أخته حين تتعطل سيارتها ، تبدو اليوم أكثر نأيا !
يأخذ رشفة من كوب الحليب المنكه بالهال والقرفة ، قضمة من البيض المخفوق بالخضار ، سيحن إلى هذا الطعم بالتأكيد ، ينتبه إلى أخيه يمد كفه:
" تذهب سالما وترجع غانما "
يقولها بعفوية ، هل تراه يدرك أبعادها ؟
تشده ابنة أخيه من ياقة القميص ، يحملها ، تكاد الدمعة الحبيسة تفضحه ، سيشتاق لكفيها الصغيرتين في منفاه ، لو تمكن من العودة ، لو تمكن...سيحضر لها الهدايا التي تمنى أن يهديها دوما ، وعاقه عنها الراتب الأهزل .
يدوي بوق السيارة ، يحتضن أمه في محاولة لترميم الألم القديم ، يخرج من الباب ، يصيح به زوج أمه :
" هيا يا بني ، ستتأخر عن الطائرة "
يجلس قربه في سيارة العائلة التي ما انتمى لها يوما رغم تجانس الدم ، يمعن في أسر دمعته ، لوعته ، تلفه أوشحة الجفاف ..
تبتعد السيارة ، تذوب الصور ، بيته ، الطريق الطويل ، وجوه أخوته من أمه ، تغرس المرارة مخالبها في لحم ذكرياته :
" أنت ولدنا ..و لكن ! لا أستطيع أن أربط ابنتي بمصيرك المجهول "
مصيره مجهول فعلا ، غائم ، كملامحه التي يتوارى عنها والتي تتحداه في مرآة السيارة ، يسند رأسه على زجاج النافذة ، يغيب مع التواشيح الحانية المتدفقة من المذياع :
إلهي ..إلهي باسمك الأعظم وأسراره
إلهي..إلهي رد غريب الدار لدياره..
يحرقه الحنين ، تتوقف السيارة ، يهبط من علياء الوجع إلى ضجيج الواقع ، يخبز من الوجوه الباسمة زاد الرحيل .
النداء الأخير يرتفع ليصمه ، تغسله دمعته العنيدة ، يفرش روحه ، ويصلي في أرض الوطن صلاة الوداع.

القراءة النقدية : د. مصطفى عطية
    تلتقط هذه القصة لحظة زمنية فارقة في حياة البطل / الشخصية الرئيسة في القصة ، فزمنها السردي يدور في حدود ساعتين أو أقل ، حيث يغادر البطل منزل الأسرة ، وأيضا وطنه ، مستقلا الطائرة ، هاربا من واقع أليم عاشه ، فقد تخطى الثلاثين ، ولم يحقق أيا من أحلامه ، لم يتزوج ، لم يدخل الجامعة ويصبح دكتورا ، الإحباط يلازمه ، في حين نجد شخصية أخيه الناجحة الذي دخل كلية الطب ، وارتدى المعطف الأبيض ، أما هو فإن الجامعة لم يعرفها إلا عندما يوصل أخته إليها ، إذا تعطلت سيارتها .
     البطل الذي لم يتطرق السرد لاسمه ، وهذا متعمد في رأيي ، لأنه يعبر عن حالة الكثير من الشباب ، الذين أضاعوا سنوات شبابهم ، ولم يحقق شيئا يذكر في الجانب العملي / الوظيفي ، العلمي / إنهاء الجامعة ، الشخصي / الظفر بحبيبة العمر . ، الذي نفهم من سياق القصة أنها على صلة قرابة من البطل ،  فقد قال والد حبيبته له : لا أستطيع أن أربط مصير ابنتي بمصيرك المجهول .
     وتأتي نهاية القصة ، بوصوله إلى المطار ، دون أن نعلم الجهة التي سيسافر إليها ، وسبب سفره ، وإنما يصلي صلاة الوداع على أرض الوطن.
    هذه القصة مكتوبة ببلاغة عالية ، فيمكن أن نسمّي أسلوب كاتبها بالبلاغة خادمة الحدث الدرامي ، فالجملة مكثفة الدلالة ، محملة بالمشاعر ، ناقلة للحدث، مثل قوله : " يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل " ، فلفظة المصلوبة تحمل في ثناياها الألم ( إشارة لصلب المسيح ) ، وكونه ذكر المرآة فهو دال على أنها تذكره بسنين عمره المرتسمة على وجهه ، كذلك قوله : "ثلاثة عقود توالت عليه ، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك " ، فالنقطة الجدباء إشارة إلى عقم سني عمره ، التي لم ينجز فيها شيئا ذا بال .
    أرى أن القصة كانت تحتاج إلى المزيد من التعميق للشخصية المجهولة كثيرا للمتلقي ، فلم نعلم أسباب فشله في دخوله الجامعة ، وإلى سبب رحيله خارج الوطن ، ولا علاقته بحبيبته ، وأبعاد هذه العلاقة ، ولا أسباب جدب حياته بشكل عام ، خصوصا أنه يعيش أجواء عائلية مستقرة ، وكل من حوله يحبه، وهو متعلق بابنة أخيه الطفلة ، وهذا دليل على حبه للأطفال ، ورغبته في حياة أسرية مثمرة .
     لاشك أن القاصة تمتلك موهبة واضحة تتمثل في التقاط اللحظة القصصية المعبرة عن أزمة الشخصية ، وهذه اللحظة جمع فيها المكان والزمان والإنسان، لتأتي القصة دالة على الحدث والأزمة والرؤية .

ليست هناك تعليقات: