استلهام الأسطورة
وتنقيحها وبثّها داخل وجدان الواقع المعاصر في رواية "باب العبد" ل"أدهم
العبودي"
بقلم: جرجس وهيب
إلى بيت جدّي القديم..
الذي كلّما وقفت أمامه شعرت بضآلتي..
وإلى خالي الأكبر عماد هذا البيت
وأسطورته..
عصام..
كم أفتقدك..
رحمة الله عليك.
هكذا يبدأ أدهم العبودي روايته،
بإهداء عميق المعنى، جذّاب الصياغة، ثم يفتتح الرواية بثلاثة مقاطع شديدة الأهمية،
شديدة الفلسفة، متأصّلة العلاقة بجوّ أسطورته الذي سيلفّنا داخل العمل حتّى
نهايته. "من يتدثّر بحلم واه لابد وأن يرتجف من قرص البرد". "صوت
(حابي) يسري فوق كلّ البيوت يعدّد عدّودة أخيرة، غير أنّ نبرته مالها تحمل نذيراً
بالشؤم! ترى على من تعدّد يا (حابي)؟". والمقطع الثالث جملة من رواية العظيم
"الطيّب صالح" موسم الهجرة إلى الشمال يقول فيها "وإذا كنت لا
أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى".
إذن نحن أمام مدخل غامض/ ثري في ذات
الوقت، ينبئنا ولا يكشف لنا، يختلس شغفنا شيئاً فشيئاً ليغور بنا رويداً داخل متن
الحكاية، ويا لها من حكاية!
في رواية "باب العبد" لأدهم
العبودي يتمثّل المكان حاضراً بذاته، بشخوصه ومآسيه وسطوته على مصائر ساكنيه،
المكان ركيزة ينطلق منها العبودي ليسرح في أفق الأسطورة، أطلق على الرواية
"باب العبد"؛ وهو مكان يشكّل تراثاً لدى أهل مدينته الأقصر، بكامل تغلغله
في يقين سكّان الكرنك، من كونه لا يجوز المساس بمصداقيته أو تأثيره على أنماط
التفكير في الفترة التي أدخلنا فيها العبودي طواعية، وهي تبدأ من منتصف السبعينيات
لنهاية التسعينيات، تحكي عن طفل يرى الأسطورة من منظور تضادّي، بين سطوتها على
أهله، وحدسه بخرافتها الملموسة، تركيباً على المدى الذي يبلغ بأهل المكان جرّاء
عيشة مدقعة فقيرة خاوية لا ترف فيها ولا دراية بالعوالم الأخرى التي تدور من
حولها، تناصاً مع حالة من الاستنكار يبديها وجدان الطفل تجاه الموروث العقيم الذي
يربض في نفوس عشيرته، من هنا تجوب الحكاية أرجاء المكان الغافي، تدخل بنا حيناً
لطبائع أبطال، وتخرج بنا نحو قسوة مكان لا يعرف الرفق، يتسرّب السرد وصولاً لمبتغى
الكاتب على مهل، يخطف الذهن ويصنع حالة أشبه بالثمل المؤّقت، يخدّر كيان المتلقي
وحواسه فيندمج فوراً في الأحداث الآسرة.
الحكاية عن طفل يجد كلّ شيء حوله قد
بلغ أقساه، بدءاً من أبّ يرحل مع غربية متزّوجاً إيّاهاً لأجل تغيير واقع مدقع
أليم، يرحل تاركاً أمّ أفنت كلّ ما يمكن تقديمه لأبنائها، مروراً بنمط مجتمعي لا
يشفق بكادح، ومآلاً لتحوّل مثير في الأحداث لنكتشف أنّ البداية نهاية، والنهاية
بداية، ولو اختلفت الأزمان التي تربط أول بآخر، وتضفير الأسطورة المؤثّرة كعنصر
فاعل داخل متن الحدث مع محاولات رفضها بشتّى السبل، مرّة عن طريق البطل/ الراوي،
ومرّة عن طريق الفضح المباشر لدورها، فالجنّي/ صاحب باب العبد، لم يره أحد داخل
الحكاية، كلّها ثرثرات، وتأويلات، وأوهام، وخيال صرف، لا يتّسق وسطوة فكرة جنّي
الباب نفسه على العقول.
تتخالط في الحكاية رؤى الآخر لشبيهه،
كيف يرى المسلم المسيحي؟ وكيف يرى المسيحي المسلم؟ كيف يرى النقيض نقيضه؟ الأجنبي
والمصري؟ الغني والفقير؟ بل كيف يرى الابن أباه؟ في حين أنّ الأب لم ينزع مطلقاً
لرؤية الابن؟ سواء في حالة المعايشة الكادحة، أو في حالة البُعد طواعية، كلّها
تساؤلات تفجّر الشعور الكامن بالآخر، وكلّها مشاعر متضاربة/ متفاقمة الحساسية بذات
الوقت، يلقيها الكاتب باحترافية فلا يشعر القارئ لا بتصنّع ولا بتشتيت.
هي رواية تستحق، قال عنها بهاء طاهر
أفضل ما قرأه في 2012، وهي بالفعل هكذا، رواية استثنائية في زمن بات الاستثنائي
فيه ضلال ثقافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق