قراءة نقدية في المجموعة القصصية '' بيت لاتفتح نوافذه'' للكاتب المغربي هشام بن الشاوي
محمد محقق (المغرب)
هذه المجموعة القصصية عبارة عن مشاهد ولقطات من حياة إنسان يعاني حالة التفرد والوحدة، ويبدأ الحكي بـ (أشعلت المصباح ....) في قصة : "خطأ تمارسنا هذه الحياة"، مما يدل على أن البطل كان يمشي في العتمة؛ ليس في الأمر سر لأن صُحبته امرأة، وفي مثل هذه المواقف غالبا ما يلاحق الإنسان بالعيون وبنظرات منها الازدراء، منها الاستغراب ومنها الغبطة.. كل حسب مستواه وخلفياته الثقافية والإيديولوجية.
كان أول ما أثار عيني الزائرة بيت كُتب على الجدران. السارد أعطى للمرأة تسمية يمنحها إياها المجتمع إلا أن هذه العاهرة تختلف عن الأخريات، على الأقل أثار انتباهها ما كتب، وبهذا يستحضر بعدها الإنساني للأشياء، حيث تتساءل عن سر البيت الشعري الذي رسم على الجدران، وهو في ذات الوقت مرسوم في قلب ووجدان هذا الشاعر الشاب، الذي يتحدث عن أقرانه وعن طيشهم وعن طريقة تعاملهم مع الأشياء، في حين يعيش قهرا.. فلا نديم ولا سكن ولا وطن؛ إنها الغربة الكسيحة التي تستولي على الكيان فتدمره، وفي غضون الحاجة والفقر يرى أن شاعريته لا جدوى منها ولا خير يرجى من ورائها. كانت النتيجة التي خرج بها السارد استحضار جمهورية أفلاطون وعالمه الطوباوي الذي أخرج منه الشعراء، أخرج أفلاطون الشعراء لأنهم لا يستقرون على حال، ولأن معظم أشعارهم تتغنى بذواتهم الخاصة. في غضون الحاجة يصبح الحلم مستحيلا، ويشيخ الإنسان قبل الأوان تماما كما حدث لهذا الشاب الذي لا يستمتع بأجمل مرحلة من عمره... يتوحد السارد والكاتب في ضمير الحكي (أنا)، ونكون بصدد رؤية من الخلف، فالسارد ملم بكل الأحداث بل يخوض فيها بشكل تلقائي وهو العارف المتمكن.
تدور الأحداث حول شاعر يعيش فقرا وعزلة بحي فقير ومن مؤشرات ذلك (أول امرأة تدخل جحري )، أيضا (فهي الوحيدة في هذا الحي المقبرة )، مؤشرات تبين أن هذا الشاعر يعيش فقرا ماديا يعززه فقر معنوي تجسد في وحدة وحرمان، مع سبق إصرار وترصد استطاعت امرأة أن تفوز بهذا الشاعر وهي التي كانت تتصيده بنظرات من فوق السطح، وهي الوحيدة التي كانت تولي أهمية لما يكتب من أشعار،(وأنا أكتب حماقاتي وهي تنشر الغسيل).. مشهد رومانسي وإن كان غارقا في الفقر والحاجة.
لهذا النص دلالات اجتماعية بالدرجة الأولى حيث يعكس ظروف بعض الفنانين المهمشين، الذين يعانون من عدم التواصل مع الآخر، نظرة مجتمعية تركز على الماديات ولا تهتم بعالم الكتابة الذي يعتبر حمقا في رأي البعض ومضيعة للوقت، النص يعكس أيضا الفراغ الوجداني الذي يعانيه الإنسان الفقير، الفراغ المترتب عن ضيق ذات اليد، مما يجعل صاحبه ينزوي ويعانق الوحدة والسويعات المسروقة تحت جنح الظلام من هنا نصل إلى زمن الحكي.. حيث دارت معظم الأحداث ليلا، وقد واكب هذا الزمن الحالة النفسية للبطل المتخوف والذي يقدم على عمل غير شرعي مسروق في سويعات مظلمة تخفي البؤس والضجر وقد تخفي الوحدة ولو لفترة قصيرة من الزمن.
يعود الكاتب مرة أخرى للحديث عن هموم الشاعر وعلى لسان السارد طبعا. كان هذا الشاعر يتوهم أن الشاعرية ستخول له النجومية وسيكون لافتا للأنظار، وستلتف حوله العذارى والنساء وأنه سيختار أجملهن لأنه يمتلك سلطة معرفية فنية، لكن شيئا من هذا لم يحدث، فالعالم يؤمن بالماديات ويبخس المعرفة ومالكيها. يطرح الكاتب الرومانسية باعتبارها شعورا نبيلا تجاه الإنسان وباعتبارها تستند مرجعيا إلى فلسفة مثالية ووجودية بالدرجة الأولى، فالرومانسية أصبحت لغة متقادمة وعوضتها لغة المادة الكاسحة، فكل الأشياء دخلت "الكونجلتور" حتى العواطف، والدفء الوحيد هو المال ومشتقاته.. لم يعد الحضن دافئا، لم تعد الكلمات الصادقة تضمد الجراحات. في غضون العالم الرقمي أصبح كل شيء بالأرقام، فكلمة "ستطاردني" التي وظفها الكاتب تبين أنه كان مغرورا نوعا ما. كان يعتقد أن للشاعر مكانة في المجتمع، وأن النساء سيتهافتن عليه لأنه ينشد الكلام الموزون المقفى، لكن تبين له العكس، وهذه النقطة أثارها العديد من الباحثين ليخلصوا في النهاية إلى أن الشعراء بصفة عامة يدرجون ضمن الشريحة الاجتماعية المنهكة ماديا، وهكذا يمكن أن نجيب عن طموح هذا الإنسان.. حين أكون شاعرا سأعرف حقيقة المجتمع وطمعه وجشعه ومثالية أفكاري وأحلامي، ثم يعرج بك السارد إلى موضوع آخر من خلال قصته التي تعتبر الدعارة أقدم مهنة عرفتها البشرية، تتواجد في كل المجتمعات مهما علا شأنها ومهما ارتقت، والدعارة تتبلور بتبلور المجتمعات وتتطور بتطور المجتمعات أيضا، والنص الذي بين أيدينا يصور مشهدا دراميا يحدث كل يوم مع شرائح المجتمع المهمشة التي تدفع الكرامة ثمنا للخبز واللقمة، جاء على لسان السارد : (لم أكن أكره جارتي لذاتها ...) بمعنى أن البطل لم يكن
يكره الجارة كإنسانة وإنما يمقت سلوكاتها وترددها على أفرشة مختلفة. وستتاح الفرصة لهذا البطل وسيعرف الدافع لتعاطي الدعارة، إنها الحاجة ورعاية الأيتام : (الخبز مر ورعاية الأيتام أمر)، وتتحرك الإنسانية بداخل الجار/ الطالب الشاب ويدفع ثمن كتبه لهذه المرأة التي يكره سلوكاتها. النص يعالج ظاهرة اجتماعية خطيرة استفحلت في دول العالم الثالث، بل أصبحت حرفة لدى شريحة كبيرة في المجتمع، ونرى الكاتب يتعاطف ضمنيا مع أبطاله. لقد انشطر قلب الجار إلى قطعتين.. قلب كليم يبكي جراحاته الشخصية وحاجته الماسة إلى أنيس وقلب يبكي وضعية هذه المرأة التي تهان ومن غير ثمن، ومن أبعاد هذا النص الالتفات إلى الأوضاع المأساوية التي تعرفها شريحة مهمشة تهدد المجتمع بالأمراض والأوبئة.. أمراض نفسية وعضوية تخلق تصدعات للمجتمع.
دراسة القوى الفاعلة :
يقصد بالقوى الفاعلة كل ما يساهم في تنامي الأحداث وبلورتها، وقد تكون القوة الفاعلة جمادا أو حيوانا أو مؤسسات أو قيما وأنساقا فكرية. فما هي أهم القوى الفاعلة في هذا النص السردي ؟
1-الشخوص :انطلاقا من أن النص يدخل ضمن السيرذاتي، حيث أنا السارد والكاتب واحدة، انطلاقا من ذلك سنبدأ بالكاتب والذي يتوارى خلف ضمير الأنا: (يرتعش جسدي.. يتناهى إلى مسامعي...). لعبت هذه الشخصية المبأرة دورا مهما في تنامي الأحداث، وقد ظهرت في الصورة بكل عقدها ومركبات النقص التي ترتبت جراء سلوكات يحاسب عليها المجتمع.
- الجار عبد الله: كهل متدين تعكس ملامحه صفاء دواخله. هذه الشخصية ظهرت في الصورة بشكل لافت للنظر، خاصة بذكر زوجته الفاتنة المحجوبة.
- إبراهيم : وحسب السارد يتصف بالنذالة، ولا يؤتمن.
- أستاذ التربية الإسلامية : هذه الشخصية لم توضع في الصورة اللائقة بها : (كان حليق الذقن، سكيرا ).
- فقيه الكتاب : هو الآخر أتى في صورة غير مشرفة : (ليس ذنبي إن تحرش بك جنسيا فقيه الكتّاب)، وهذه الشخصية كان دورها خطيرا في صنع مركبات النقص التي يعانيها البطل.
- وهناك بعض الشخصيات ذكرت من غير أسماء كأخت الجار عبد الله وزوجته، وهذا لا يعني أن الكاتب لم يجد أسماء، ولكن لتعمم الصورة وتنطبق الحالة على الكثير من النساء دون تحديد .
2-الأماكن : المسجد، البيت، السطح أماكن ساهمت في بلورة الأحدات وتناميها وبينت التفاوت في التفكير والمعتقدات، وأبانت عن التناقض الحاصل بين الشخصيات.
3-الجمادات : الحافلة، الهاتف، الكرسي المتحرك أدوات ساهمت في تغيير مجرى الأحداث بحيث كان الكرسي مثلا سببا في انحراف الأم الأخلاقي.
4-القيم والأنساق الفكرية :يؤثث النص مجموعة من القيم والأنساق الفكرية جعلته يسقط أحيانا في تناقض المبادئ والرؤى ومن بين هذه القيم :الفسق والتحرش الجنسي/ الإيمان والتعبد وصفاء الدواخل/الحب والعشق/ التهور واللامسؤولية/ الشعور بالدونية.. وكما نلاحظ فهي متناقضة مع بعضها لتبين بتباينها انشطار المجتمع وعدم انسجامه وتوافقه، وهو منظور واقعي رسم الواقع ولم يعتمد المنظور المثالي للمجتمعات.
من خلال تتبعنا للقوى الفاعلة تبين لنا أن رؤية السارد كانت مصاحبة، وذلك من خلال تعليقه على بعض السلوكات مثلا :تحاصرني بنظرات مخدرة تمطر دهشة واشتهاء/
تستعيد لذة تلصصها الخفي بطرف عينها/ هل تشاجرت معه لأنه نجح في الامتحان؟/
ليس ذنبي إن تحرش بك جنسيا فقيه الكتاب.
تستعيد لذة تلصصها الخفي بطرف عينها/ هل تشاجرت معه لأنه نجح في الامتحان؟/
ليس ذنبي إن تحرش بك جنسيا فقيه الكتاب.
وكما لاحظنا لا يمكن لسارد عادي أن يعرف هذه الأحداث، فهي معلومات دقيقة وردت عن قرب السارد من الأحداث، بل أكثر من ذلك هو مشارك فيها ويخوض غمارها، ثم يبحر بنا عبر القصة التي حملت عنوان المجموعة القصصية : "بيت لا تفتح نوافذه...".
الخطاطة السردية:
1-وضعية البداية: تبدو البداية عادية جدا حيث يستسلم البطل لرشاش الماء البارد في وقت تزامن مع آذان الصلاة الوسطى، ليتم التحاقه برفاقه حيث يتسامرون في خلوة سرية ويضحكون. في هذه الأثناء يتلقى البطل رسالة من أخت الجار عبد الله، وهذه العلاقة يتكتم عليها البطل ولا يريد أن يعرفها أحد.
2-العنصر المخل : وهو قوة تقلب وضعية البداية وتُدْخل تغييرا على حالة الشخصية الأساسية، وهو يحكى دائما بمساعدة أفعال وتصرفات تحدث تشويقا أو حزنا أو قلقا، وغالبا ما يتم التمهيد له بظرف أو مشير زمني أومكاني، وفي النص كان العنصر المخل هو عزم محبوبة البطل على الزواج بالأرمل : (لقد قررت أن أتزوج ذلك الأرمل رغم معارضة الأسرة... لقد تعبت من الاستيقاظ باكرا كل يوم، وتعبت من مضايقات العمل والمواصلات)، وهذا العنصر المخل سيساعد على تغيير مجرى الأحداث.
3-وضعية الوسط : وهي عبارة عن مجموعة من الأحداث تشكل عقدة النص أو أزمة النص، وتسمح بالانتقال من وضعية البداية إلى وضعية النهاية، وتنتج عن العنصر المخل فتضع الشخصية الأساس في وضعية صعبة من الاختبارات والعوائق، وتجبرها على كل المحاولات والوسائل.
ووضعية الوسط في هذا النص تتمثل في مجموعة أحداث منها : الصراع الحاد بين البطل وإبراهيم (مثلك لا يؤتمن يا فيلسوف جماعة الحشاشين)، وطلبه منه ألا يطرق بابه مرة أخرى/ التجريح بإبراهيم وبشخصه مع النبش في ماضيه وماضي أمه، وتسطير عقده بشكل مقيت أساء إليه نفسيا.
4-عنصر الانفراج :ويتمثل على المستوى النفسي في عملية التفريغ التي سيعرفها البطل، وذلك وفق عملية استرجاع امتحان الشرطة وأسئلة الضابط التي أحرجته وجعلته يخرج كسير النفس.
5-وضعية النهاية :وهي وضعية لم تحسم في الأحداث، ولم تضع النهاية السعيدة كالنهايات التقليدية في السرد الكلاسيكي. كانت النهاية تجديدا للمأساة وتعميقا للجراحات (من هول الصدمة لم أتخيل أمي...).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق