رحلة العودة
بقلم : حكيم محسن
ـ تهون أمامنا جميع الصعاب ويحلينا الرب عز وعلا بعزائم لا تلين وتتوقد الهمم ولا ينعكس في أعماق رؤانا سوى صور أجواء بلادنا العزيزة مهما بعدت بيننا وبينها الشقة . ومن لطائف الأقدار أن الأيام الثلاثة الأخيرة قبل موعد سفرنا بلغت ذروتها من الحرارة ووجمت بعض الأنفس الضعيفة وكاد القنوط أن يغلفها لولا أن رياح الخير
هبت من حيث لا ندري وحملت معها نسائم الرحمة .
وتوافدت سحائب ثقيلة وضخمة ضخامة الجبال وتوالت إشارات مؤنسة من البرق ولم يكن يصل إلى أسماعنا إلا صوت خافت من صوت الرعد وكأنه الهمس ليس إلا . وانشرحت صدورنا وارتبطت أرواحنا بعوالم خفية تذيب رزم التبرم والحيرة في نفوسنا وتبدلها بشحنات من الإقبال المنقطع النظير ؛ وقوي العزم فينا أكثر فأكثر وكاد الكهل أن يعود شابا وأن يصبح الطفل راشدا وتعالت أصوات الحماسة وقويت السواعد وتقلصت كتل الأغراض وانسابت أحجامها في الأيادي رخوة طيعة كأنما تصعدت في عنان السماء البعيدة فتفلتت من قبضات جاذبية الأرض وصار يدفعها أقل جهد وتدنيها أوهن إشارة .
وعند انطلاق رحلتنا داءبت قطرات المطر تواكب مسيرنا من فوق وعن يمين وعن شمال وكأنها تريد هي الأخرى أن تهمس في آذاننا بأن نحمل جميل أشواقها إلى صديقاتها من القطرات التي صارت في مواكب الجنوب .
وظلت السكينة تلازمنا وكان يراودنا إحساس لطيف فيشعرنا بأن المسافات تتقلص بصور عجيبة نكاد نبصرها أو بالأحرى كأن الأرض صارت تطوى أمامنا طيا وتدنينا من نقط الوصول وطفقنا نحدث أنفسنا بأن السفر لا يكون قطعة من العذاب دائما .
عندما أقبل المساء أناخت الباخرة ظهرها الكبير وحضنها الواسع للوافدين ولمطاياهم وحدانا وزرافات ؛ ولما سكنوا جميعا واستقر بهم المقام في زواياها المتعددة انطلقت تمخر عباب البحر تحت أنوار القمر الناعمة وكان قرصه يسحرنا وكأن الليلة ليلة بدر . بعدها استسلم أغلب المسافرين إلى النوم وخلت الممرات المطلة على البحر من الواقفين إلا من بعض محبي السهر ، ثم لم تلبث الأصوات أن خفتت وساد السكون وبات الليل متلحفا آخر لبوسه .
ولما بلغ مسامعنا صوت موظفة الإستعلامات بقربنا من ميناء مدينة الناظور المغربية سرنا نتطلع إلى نقطة الرسو لكنا لم نستطع تحديدها.. كان الوقت فجرا ولذا أذنت صوامع المساجد لأنوارها أن تتلألأ وتنافس أضواء منارة الإستقبال التي ترشد السالكين إلى البر الصحيح .
وملئت نفوسنا بالرهبة وقلوبنا بالخشوع ودمعت الأعين حينما طالعتنا ترانيم التهليل والتسبيح والإستغفار الذي يسبق الأذان ؛ وتبين للجميع دون استثناء أحد بأن أعظم ما يفتقده المهاجرون في ديارالغربة هو ذلك النداء العظيم الذي سينطلق بعد لحظات قصيرة يدعو المؤمنين إلى الإقبال نحو بيوت الله ويذكرهم بأن الصلاة خير من النوم وأنه لا عمل في الوجود أفضل من ذكر الخالق تبارك وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق