ظاهِرة تُثير التّساؤل:
الاستغلال الهاضِم لِحُقوق المُبدِع في مُختلف المجالات.. كيف ولِماذا؟
كتبت: زينب علي البحراني
لأنّنا لا نعيش في السّماء السّابعة؛ فليس من الغريب أن نسمع بحوادث الاستغلال الأنانيّة بين البشر. لكنّ المُثير للتأمّل والتّساؤل هو تفاقُم حالة استغلال أفراد وجِهات أنانيّة لمواهِب المُثقّفين والمُبدعين في مُختلف المجالات، وانتهاز جُهودهم، واستنزاف قُواهم ونزف مشاعرهم استغلالاً مجّانيًا صريحًا يكاد يتحوّل إلى ظاهرةٍ واسِعة الانتشار عربيًا، الأمر الذي يوقِظ تساؤلاً مُنقِبًا عن سرّ هذه الظّاهِرة المَرَضِيّة، والنّاخِرة في لُبّ الأوساط الإبداعيّة على اختلاف أشكالها الأدبيّة والتّشكيليّة والاستعراضيّة، وعلى الصّعيدين؛ الإنسانيّ والمِهني.
حُسن النيّة
قد يكون حُسن نيّة المُبدِع ورهافة أحاسيسه بطاقة دعوة لاستغلاله أحيانًا، وهو ما أشار إليه الأديب العراقي نصرت مردان: "أعترف بأنني ككاتب وكإنسان حسن النيّة دائما بالآخرين. ولا أجيد على الإطلاق تسويق نفسي. لهذا فقد تعرضت إلى خيبات عديدة من قبل من بعض الكُتاب الذين وضعتهم في خانة الأصدقاء الأوفياء ، فكان أن طعنوني بسبب عقدة النقص التي لم يتحرّروا منها، رغم مناداتهم بشعارات الحُرية والإنسانية البرّاقة ، طعنة غدر وخسّة لا يمكن أن أنساها طوال حياتي"
ويحكي مردان عن نموذجٍ واقعيٍ من نماذِج الاستغلال التي لا يستطيع نسيانها: " بدأت الحكاية بتكليفي من قبل شاعر معروف، شغوف بأدب الرّحلات حول ترجمة أربعة بحوث ستلقى في مؤتمر خاص بأدب الرّحلات إلى اللغة التركية. وكانت البُحوث مزدحمة بالأحداث والأسْماء والمُصطلحات العربيّة واللاتينية والهوامش والمَصَادر والإحَالات، خاصّة وأن مُعظمها تعود إلى رحلات قام بها رحّالة في العهد العبّاسي والعُثماني. وقد تطلّبَت مني الترجمة جُهدا استثنائيا والمزيد من التّوتّر، لكنّني قبلت الترجمة بحكم تقديري لشخصية الشاعر، ولم أسأله عن الأتعاب، لكنه أكد لي في حديث تليفوني بأنه سيدفع لي ( حقي وزيادة)"
ويواصِل: " أنهيت الترجمة المُضنية في الوقت المُحدد، بعد الاستعانة بالقاموس العُثماني، وقاموس المجمع اللغوي التركي والقاموس التركماني، والعديد من المصادر الموسوعية الكتابية والرقمية. بعد انتهاء المهمة أرسلت له رقم الحساب المصرفي، ليرسل لي مستحقاتي نظير الترجمة. وقد سألني الشاعر المذكور عن المبلغ الذي أريده ، فقلت له: أنت إعلامي وشاعر وصحافي وتعرف جيدا قيمة الترجمة بحكم المعايشة الثقافية ، لذلك أترك لك خيار تحديد مستحقاتي كمُترجم، وأنا راض سلفا عما ستبعثه لي. ومنذ ذلك اليوم انقطع عن الاتصال بي، ومرت أشهر وذكّرته لمرة واحدة فقط بوعده الذي لم يف به..فلم استلم منه حتى الآن أي رد. وطويت هذه الصفحة بعد أن أحسست، أن حُسن النية في زماننا يكاد يكون مُرادفا للسّذاجة"
سُكوتٌ وتسامُح
من جهةٍ أخرى أشار الفنان المسرحي البحريني ياسر ناصر إلى نماذج عديدة من صورة تعرّضه للاستغلال الإبداعي كفنّان: "أعتقد أنّ الفنان المسرحي هو من أكثر الأشخاص المُرشّحين للاستغلال، وأنا شخصيا تعرضت للكثير منه طوال حياتي المسرحية. فمعظم المؤسّسات والجمعيات التي عملت معها لم تدفع لي أدنى أجر، ولا حتى أبسط المصاريف غطيت أو عوضت عنها... ناهيك عن مُناسبات وطنية و فنية كبيرة عملت مع القائمين عليها ولم يتم تقديرنا ولا مُكافئتنا أو حتّى إعطائنا حقّنا الأدبي والمعنوي. إضافة إلى استغلالنا فنيا بأن يُنسب عملي الفني وإبداعي الشّخصي إلى المسئول عن تلك المؤسسة أو المسئول عن الفعالية! وكان ردّ فعلي في كل الأحيان سلبيًا، كالسّكوت والتسامُح والاكتفاء بإخبار أقرب الناس بتلك المظلومية والمُقرّبين إلى نفسي في نفس المجال. ليس خوفا أو عجزا؛ ولكن لإيماني المطلق أن الله لا يضيع أجر عاملٍ أو حقه، طال الزمان أو قصُر"
وعن الطّريقة المُثلى للتّعامل مع تلك الجهات قال:" باعتقادي أن أفضل طريقة لردع مثل هؤلاء الجشعين والاستغلاليين هو فضحهم والتشهير بهم في الأوساط الفنية وتبيان مطامعهم واخذ الحذر من التعامل معهم، بالإضافة إلى فضحهم عبر وسائل الإعلام المُختلفة ليعرف الجميع حقيقة من يتعامل معهم من هذا النوع"
أمّا القاص السّعودي عبد الله النّصر فقد أكّد تعرّضه لأشكال مُتنوّعة من الاستغلال الفردي والمؤسّساتي أكثر من مرّة: " بالطبع لقد تعرضت لمثل ذلك، من الإخوة ومن الأهل ومن الأصدقاء ومن الزملاء ومن بعض المؤسّسات بمُختلف نياتهم جميعاً .. فهذا يُريد أن يفوز ضمن مُسابقة ما، و ذاك يُريد أن يحصل على درجة لدى مُعلمه؛ فيطلب مني إسداؤه بقصّة أو مقال أو خاطرة، يختار ما يُريده من إبداعاتي، ويُريدني التخلي عن حقي فيه، برفع اسمي من فوقها ، وتدوين اسمه عليها. وللأسف تحت مسمى الإحراج والمحافظة على الصلة وعدم القطيعة، رضختُ لأكثرهم .. وذاك أراد أن يحصل على المال الوفير لشهرة وقوة الإبداع، فتبنى كِتابي للطباعة والنشر والتوزيع، وطريقة التبني لم تعطني ككاتب أية حوافز. أما الجهة المتبنية لكونها ترى أن كتاباتي تحقق لها الشهرة، بل الأرباح الطائلة وخاصة إذا كانت تلك الكتابات جريئة وتلامس أو تتخطى للخطوط الحمراء، أو لنعطي بعض الإنصاف بقولنا بأنه تلك الجهة تفعل هذا من أجل الإبداع الحقيقي الذي يطلبه الكثير من المتذوقين، فتستغل هذا الأمر. والحل في تصوري من أجل ألا يؤدي ذلك إلى تثبيط الإبداع عند المُبدع، الإرادة الكبيرة بعدم الاستجابة ، مهما بلغ الأمر، بحكمة ما ، لأن هذا سيُفاقم الحالة ولن تنتهي"
تسليع الإبداع تِجاريًا
الشّاعر الغنائي البحريني أحمد ناجم أوضح أنّ تحوّل العمل الإبداعي إلى سِلعة بين يدي تاجر بيده مقاليد الهيمنة على حقوق المُبدِع هو أحد أهم أسباب الرّضوخ للاستغلال: " في كل مجال يوجد هناك الطيب والخبيث، ولكن في مجال الإبداع عندما يصبح الإبداع سلعة تجارية تكون تحت يد التاجر الذي قد يكون المنتج للعمل هنا تكمن المشكلة، ففي مجالي ككِتابة أغاني واجهتني هذه المُشكلة مع العديد من المنتجين في السابق، والذين أصبح لا وجود لهم الآن على خريطة الإنتاج ولله الحمد. فبعد الانتهاء من تجهيز عمل مع مطرب معين وكتابته وتسجيله تأتي المرحلة الأخيرة ألا وهي استلام الحقوق الماديّة بعد ضمان الحقوق الأبديّه بالتنازل الرّسمي لدى المَحكمة، فتجد المُنتج يقوم بمقايضة الشاعر أو المُلحن للحصول على أرخص الأسعار، و في النّهاية يستفيد ماديا أكثر من فريق العمل نفسه، وطبعا هذه المشكلة تواجه العديد من العاملين بالحقل الفني مع مافيا المنتجين التي هي الآن في طريقها للانقراض، بعد وجود الصحو الإعلامي والطرق الرسمية" ويُضيف: "الاستغلال والجشع عندما يكون في دائرة الإنتاج لعمل فني ما؛ يضيع العمل في متاهات لا حدود لها. فتظهر أحيانا بعض الأعمال دون المستوى المطلوب نظرا لتقصير المنتج في نشر العمل الذي قد يكون صرف عليه بعض الملاليم. أتمنى وجود المنتج الفنان الذي لا يستغفل طيبة الفنان الذي يقدم له العمل الفني على طبق من ذهب، ليعود النّفع في النّهاية على المنتج والفنان والمستمع بإبراز العمل الفني في أجمل صورة"
وأكّد الرّسام السّوري كمال سلمان: "الانتهازيون والمُستغلون كثر وفي كل المجالات. إنهم أشرار بنظري، ولقد واجهت عدداً كبيراً منهم. وعندما تنكشف أمورهم يصبحون عدوانيين إلى درجة مؤذية" وعن ردّ فعله إزاء سلوكهم أجاب: "أنا لا أصبر على أحد منهم؛ أواجهه حتى ولو كانت النتيجة خسارة العمل، لأنه لا جدوى من الاستمرار في ظل هكذا علاقات"
في حين شدّد الأديب العراقي د.محمد صابر عبيد على ضرورة ثقة المُبدع بقيمته وقوّته، وعدم الرّضوخ لأي ابتزاز فكري أو إبداعي مهما كان الثّمن: " ربما تعرّضتُ لمثل تلك المواقف في بداياتي؛ حيث كنت بحاجة إلى أن أكرّس اسمي الأدبي وأقدم نموذجي الإبداعي، لكنه عندما بلغت سن الرشد الثقافي والأدبي لم يعد من اللائق أن أسمح بذلك، إذ أشعر بأنني قوي جداً وبوسعي أن أتحكّم بالأشياء التي تخصّ وجودي وعملي وإبداعي، ولا يمكن أن أسمَحَ باستغلالي مَهمَا كان الثمن، فمتى يعي المُبدع أنه قوي بهذه الدّرجة ستخضع له الأرض"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق