2011/11/21

"اِحتِراقُ المَدِينَة " عز الدين جلاوجـي-الجزائر

اِحتِراقُ المَدِينَة
عز الدين جلاوجـي-الجزائر

التهمَتْ مَدينَتي حَبيبَتي تُفَّاحةً..
لاَ تَقربي هذهِ الشَّجرة
كَانت التُفّاحةُ حمْراء..
كَنهدِ عَذراء..
تَلذّذتْ مَدينَتي حَبيبتي طعمَ التُفّاحةِ الحَمراء..
تمطَّطتْ..
تثاءَبتْ..
مدّتْ كلَّ عُروقها..
قفزتْ مَزهوَّةً..
غدا الطَّعمُ الحلوُ حامضاً..
سقطتْ أسْنانُ حَبيبتي..
لم تَسقطْ كلُّها..
تَهاوتْ مِن سُفوحها..
بَقيتْ جُذوعُها تَتسربلُ مُلاءة السُّوس..
تَساقطَ شعرُها..
انْفجرَ وجهُها كبالونٍ مُنتفخ..
سالتْ مياهه
انْكمشَ الجِلد..
غَدتْ عجوزاً شمْطاء..
مدينَتي لنْ أنكحَك.. أأستبدلُ الَّذي هو أَدنى بالَّذي هو خَير؟
وانْدلعت النَّارُ في جسمِ حَبيبتي..
يالَهَوْل الفاجِعة !
النَّارُ تنِّينٌ مُتوحّشٌ يَلتهمُ كلَّ شيء..
الجُدرانُ تَتهاوى..
الأَشْجارُ تحترِق..
الدُّخانُ يمدُّ أصابعَهُ المعْروقةَ يخنقُ كلَّ شيْء..
وتَجري وسطَ الشَّوارعِ كالمعْتوه..
تتقطَّعُ أنفاسُك..
يَغسلُكَ العرقُ..
تُوقِف النَّاسَ..
تَسألهم..
تُلحُّ في السُّؤال..
يمضونَ كالقِططِ المُشرّدةِ..
كالنِّعال..
تَدخلُ ساحةَ فَسيحة..
كلُّهم كانوا هُناك..
يَنسجونَ على نَوْل الضحك..
ليلاً أسودَ قاتماً..
يملأهُ الذباب..
وضجيجُ الصفَّاراتِ والبالُونات..
وصياحُ الحواة..
تخضُّ رأسَك..
تفركُ شعرَك..
تفركُ عينَيْك..
تحدّقُ في كلِّ الاتِّجاهات..
لا شيءَ تغيَّر..
تحاصرُك ألسنةُ النِّيرانِ..
يحاصرُك ظَلامُ الدُّخان..
تَعدو..
تبتلعُ المَسافات..
يَبتلعُكَ اليأسُ والقلَقُ..
تلمحُ عيناكَ سِرباً مِن حمائمِ المَدينة..
تَلتقي عَيناكَ بأعيُنِهم..
تَرى فيها الخوفَ غِسليناً وزَقّوما..
تحتَ برنسِ شَيخٍ كانوا يحْتمون..
تأمّلتَ الشَّيخ..
لا شيءَ فيه..
إلاّ عيناهُ في محجَريْهما تَدوران..
إلاّ تحدٍّ وكِبرياء..
تسألُه بحيْرة:
- ما بالُ المدينَة سيِّدي ؟
قالتْ شفتاهُ اليابِسَتان..
وفي بؤبؤيْه دَمعتان:
- مدينتُنا يا وَلدي ضاجعَها هُولاَكُو على الأرضِ الخَلاء
واغتالَ مِن أُفقها بدراً كان يُبدِّدُ الظَّلماء
واجتثَّ شَرايينَها مِن سِدرةِ المُنتهى
مدينتُنا يا وَلدي أسْلمتْ شمُوسَها للدُّود والفنَاء
فَهَا مدينتُنا يا وَلدي
لا تُنجبُ غيرَ البُلهاء.
وينزفُ جرحُ الحيْرة مِن أحْداقي ! فأَسألُه:
وطريقُ النَّجاء ؟
يُشرْنِقهُ الحُزنُ واليَأْس مِن أخمْص قدمَيه إلى قمَّة الرَّأس..
يَبتَلعُ ريقَهُ بصُعوبة..
يتأمَّل المدينةَ المُلتهبة..
يضمُّ جناحَيه على الحمائمِ البيْضاء..
يتأمَّلني..
يقولُ:
- لا تشغلْ بالكَ بالهلْكى..
خذْ أوراقَك الصَّفراء..
وصخرتَك الملْساء..
وجُبَّتك البيْضاء..
وارحلْ..
اِرحلْ..
ما عادَ لكَ بقَاء..
ما عادَ لكَ بقاء.
وحملْتُ أتْعابي..
يشيِّعني الحزْنُ في عيونِ الفِراخ..
وتَبكي فِراقي الأوراقُ الخضراءُ الَّتي مازالتْ تصارعُ اللَّهب والدُّخان..
توسَّطتُ الهضَبة..
نظرتُ إلى قمَّة الجبَل..
لمحتُ المغارةَ تقْبعُ في سُكون..
التفتُّ خَلفي..
رأيتُ المدينَة تشتعِل..
يكادُ الدُّخانُ يحجبُها عنِ الأبْصار..
انحدرتْ مِن عينيَّ دَمعتان..
سقطَتا في الأرْض..
فمادتْ تحتَ رِجليَّ..
وترامتْ إلى أنْفي رائحةُ الشِّيح والزَّعتر.
مِن سحابةٍ راعِدة..
دوَّى في الفضاءِ الفَسيح..
صوتٌ فَصيح:
- أبدَ الآبِدينَ كنَّا نَبني بالجَماجم الصُّروح..
نرُدُّ عنِ الأوراقِ الخضْراء..
عنِ البراعمِ السَّمراء..
عنْ أسرابِ الحمائِم البيْضاء..
عنْ جموعِ الفِراخ..
غزوَ العفاريتِ والشَّياطين
زحفَ اللَّيلِ..
همسَ الجنِّ والصُّراخ.
مسحَ دُموعَه..
تأمَّلَ المدِينَة..
كلُّ شيءٍ يختنِقُ في قَبضة الدُّخان..
إلاَّ مِئذنةً يَتيمة..
تُعانقُ بِرأسِها السَّماء..
يغرزُ الدُّخانُ مخالبَه في حِجارتِها..
لكنَّه يَنزلق..
لِيعودَ إلى سَفحها..
وتَتذكّرُ الحمَائمَ البيْضاء..
والأوراقَ الخضْراء..
والفِراخ..
والبراعمَ السَّمراء
وحِضنَ الشَّيخ الرَّؤوم.
رميتَ أوراقَك الصَّفراء..
وصخرتكَ الملْساء..
وجُبّتَك البيْضاء..
وعُدتَ..
ما كنتَ تُبالي بالنَّار ولا بالدُّخان..
ولا بجثثِ الهلْكى والأمْوات..
قصدتَ مجلسَ الشَّيخ الوَقور
وجدتَه مُلقىً على الأرضِ..
يُصارعُ الموتَ بقلبٍ جَسور..
مددْتَ إليهِ اليديْن..
أشرقَتْ على وَجههِ ابْتسامة..
تحرَّكتْ شفتاهُ وَقال:
- نمضِي كما مَضوا..
فامْضِ كما مَضَينا..
دَعني أَنام نوْمتي الأخِيرة..
هُنا.. وَسط.. وَسط.. وَسط هذي الـ..المَدينة.
وكشفَ الشَّيخُ بُرنسَه..
عن سِرب الحَمام..
والأوْراق..
والفِراخ..
والبَراعم..
وأومأَ برأسِه، وقد كاد يخونُه الكلام:
- اُنجُ بها قدْ ربحَ البيْعُ أيُّها الهُمام.
حملتَها جميعا..
ضمَمتها إلى صدْرك..
غطَّيتها بيديْك..
غدتِ الشَّوارعُ الواسعةُ أزقَّةً ضيِّقة..
امتلأَتْ بِركاً وأوْحالا..
الأرضُ تتشقَّق فاغرةً فاها..
البِناياتُ تتَهاوى..
وليسَ إلاَّ النَّار تتَثعْبنُ في كلِّ مكان
غَزا الدُّخانُ منخريْك..
انطلقتَ تَعدو..
تبحثُ عن منفذٍ للهروب..
زُقاقٌ يصبُّ في زقاقٍ..
كلُّ الأزقَّة متاهةٌ لا تَنتهي..
الدُّخانُ يسرقُ النُّور مِن عينيْك..
العرقُ يتفجَّر مِن كلِّ أنحاءِ جسَدك..
لا شيءَ حولكَ..
أمامكَ هذا الظَّلامُ تتاراً..
تسربلَ بالفؤوسِ وبالحِراب..
وخلفكَ كلُّ النُّجوم فَقدنَ العُيون..
فقدْنَ الصَّواب..
لاشيْء حولَك..
غيرُ هذا السَّراب..
وهذي النَّار تُعشش..
في أوردةِ الأرضِ اليَباب..
لا شيءَ حولَك..
مذبوحةٌ حناجرُ العنادِل..
مقطوعةٌ ألسنةُ الشَّحارير..
مشنوقةٌ عروقُ هذا التُّراب..
واسعةٌ شقوقُ هذهِ الأرْض..
تبتلعُ الزَّهر والقَوْزَحَ ..
والنَّسائمَ العِذاب..
مرَّت أربَعون
وأربعُون مرَّت..
تمرُّ أربَعون..
بَعدها أربَعون..
ومازالتْ تَعوي الذِّئاب..
تُصفِّر الرِّيح
تُسْفي الرَّمادَ والتُّراب..
تغطِّي جنَّة شدّادَ ..
وكلَّ رَواب..
وأنْتَ وحْدك..
سَرقوا منْك النَّبض..
سَرقوا منْك الأسْماء..
وكلَّ الألْقاب..
سَرقوا مِنك سَعف النَّخيل..
سَرقوا مِنك نجومَ اللَّيل..
سَرقوا بَلْقِيسَ..
دفءَ الفُؤاد..
يا للخَراب !..
سَرقوا مِن عينيْك زرقاءَ اليَمامة..
ومِن لِسانِك اللُّعاب..
سرِقوا كلَّ شيءٍ..
وأنتَ يانفحةً مِن عيْن النَّبي..
يا زخَّةَ الشَّوْق في قَلب الصِّحاب..
تَمضي وَحدك..
تمارِسُ العِشقَ والاحتِراق..
تعانقُ الاغتِراب..
من الأزرقِ يأتيكَ الجوهَر..
تأتيكَ العيْن..
والسَّنا والكِتاب..
تمْضي نحوَ الصَّلد..
تُضاجع بِكراً..
تُفجِّر عطراً..
تُزيلُ غِشاوةَ الاكتِئاب..
رَفعتُ رَأسي للسَّماء..
رغمَ الإجهادِ والإعْياء..
دفعتُ بالحَمائِم البيْضاء..
إلى قمَّة الفَضاء..
جثوتُ على رُكبتيَّ..
داهمَني الإعْياء..
سقطتُ أرضاً..
فوقَ البَراعمِ السَّمراء
والأوراقِ الخضْراء..
تشكّلتْ سحبٌ كَثيفة..
هطلَ الغيثُ غَزيراً..
أشرقتِ الشَّمسُ على أطلالِ المَدينة..
وأشرقتْ من تضاريس رُفاتِكَ..
براعمٌ سمْراء..
أوراقٌ خضْراء..
زهْراتٌ بيْضاء..
وفي الأفقِ حلَّقتْ أسرابُ الحمائمِ البيْضاء..
طُوبَى لك..
سكتَ الذُّباب..
تعالَتْ تَراتيلُ الرَّباب.

هوامش:

هذه كلمات اجتهدت في نحتها
الدّيناغول: كلمة نحتها من كلمتي: ديناصُور وغُول.
القوزح: كلمة نحتها من كلمتي: قوس قزح.
وتوتات: الهمس تآمراً، كالوتاوت بمعنى الوسوسة.
قرزير: كلمة نحتها من كلمتي: قرد وخنزير.

ليست هناك تعليقات: