2013/01/04

المختلف..!! بقلم : محمود أحمد على


المختلف..!!
القصة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة اتحاد كتاب مصر فرع الإسكندرية لهذا العام

بقلم : محمود أحمد على
رحنا  نتراص كقوالب الطوب أو مثل الأسماك داخل علبة السردين _ أقصد داخل الميكروباص الحديدي المتآكل بشدة  كأجسادنا _ وكلما دخل علينا راكب جديد ، أجد الركاب يتهامسون في غيظ شديد :
- يا مسهل يارب ..
- هوِّن يا مهِّون ..
- باقي كده كام راكب يا جماعة ..؟!
تمنيت لو أن شيئاً ما يحملني حملاً ويسقطني فوق السرير؛لشدة سيرى طيلة اليوم بحثاً عن عمل .. أي عمل .. المهم أن أجد ( قوت ) يومي الذي من خلاله أستطيع الزواج من " وطنية " حبيبة قلبي ، التي يطمع فيها كل شباب القرية بل والقرى المجاورة ، لم يكفهم هذا بل هم يتصارعون عليها كما تتصارع الذئاب على الفريسة ، ليس حباً فيها ولكن حباً وطمعاً فيما تملكه من أموال وأفدنة زراعية قد ورثتها عن والدها ، وراح يبعثرها في حرية شبه مطلقة زوج أمها ، ذلك الرجل الذي أجلسوه رغماً عنا على كرسي العمودية ، فراح يخرب في البلد كيفما يشاء ، والذي صنع شبكة جيدة الصنع للإيقاع بأمها فور موت زوجها ، وقد نجح  بجدارة ، وفاز بالزواج منها وبما ورثته عن زوجها ، ولولا طيبة أمها وتمسكها الشديد بي ، وعلمها بحبي ومدى إخلاصي لابنتها " وطنية " منذ الصغر ، ولولا حديثها الدائم والمستمر لزوجها عنى من أجل أن تلطف الجو فيما بيننا، لما صبر علىَّ طيلة هذا الوقت في البحث عن عمل ؛ فهو رجل مادي يقدس الجنيه بل يفضله على أبيه ، وهذا ما يتردد على أفواه رجال ونساء بل وأطفال القرية والقرى المجاورة .
- نادوا على السواق .. العربية كملت ..
قالها فرحاً أحد الركاب ، وراحت عيوننا بدورها تفتش هنا وهناك عن السائق ، الذي جاء يتبختر على مهل ، وهو يأخذ أنفاساً متتالية من سيجارته . عجباً إنه قريب الشبه بعمدة قريتنا ذاك الحاكم بأمره ..وقف أمامنا .. راح يحدق في وجوهنا ، وهو ممسك بباب الميكروباص ، ثم قال في قرف شديد :
- مالكم فيه إيه ..؟!!
أجابه أحدنا :
- الميكروباص كمل ..
- ومين قالك إن الميكروباص كمل ..
-  زي ما انت شايف ما فيش كرسي فاضي ، الكراسي كلها كومبليت ..
- والله إنت اللي مش شايف ..
ثم راحت عيناه تحدقان في عيوننا وقال :
- أنى حركَّب الضعف يا افندية .. واللي مش عاجبه يتفضل ينزل .. الباب يفوت بدل الجمل جملين ..
- بس الضعف ده حتركبه فين يا أسطي ..؟!!
- لو حصلت حاقعد كل واحد على رجل التانى ..
صمت برهة ثم عاد يقول :
-  قلتوا إيه ..؟!!
- رحنا نحدق في بعضنا البعض في صمت واستسلام ..
- قلت أنا مش عاجبنى ..
قالها الشاب الجالس بجواري في قوة وغيظ ..غاضباً مد يده يفتح باب الميكروباص
- هو فيه إيه ..؟!!
قالها السائق في ثقة وسخرية ، ومن خلفه أجابه الشاب بنفس لهجته :
- فيه إن الحال ده مش عاجبنى..
في تعجب من أمره ، قال السائق ، وهو يهرش كرشه :
- يعنى إيه ..؟!!
- يعنى أنا مش عبد عشان أسمع في استسلام أوامر سيدي ..
في سرعة غاضبة راح السائق يقول مستفسراً :
- يعنى مش حتركب ..؟!!
- لأ ..
قلت من خلفه :
- ده آخر ميكروباص في الموقف و ........
قاطعني الشاب المختلف في قوة وعناد :
- مش مهم ..
ومن خلفي قال أحد الركاب :
- احنا في الشتاء والجو برد والساعة دلوقتى واحدة بعد نص الليل ، وباين على الحتة إنها حتمطر و ......
قاطعه هو الآخَر في حدة وثقة :
- برضه لأ .. حتى لو اضطرتني الظروف إني آخد الطريق زحف على إيدى ورجلي  ..
- هاء .. هاء .. هاء .. هاء
ضحك صاحب الميكروباص ضحكات كثيرة متتالية ، تلك الضحكات التي جعلت(كرشه)الممتد أمامه يعلو ويهبط كما الأرجوحة،ثم قال ساخراً:
- عايز تفهمني إنك حتمشى المسافة دي كلها على رجلك و...............
قاطعه الشاب في ثقة :
- أيوه ..
- وفى ساعة زى دي ..!!
- أيوه ..
- طب وريني جمال خطوتك ..
وقبل أن يتحرك هذا الشاب المختلف ، أوقفته كلمات أحدنا  :
- اركب وانت اللي حتقعد على رجلي مش أنا ..
تبسم الشاب في وجهه ساخراً ثم قال :
- الفكرة مش في كده خالص .. الفكرة في إننا استسلمنا واستسهلنا كلمة نعم .. أو حاضر ، وبكده حنفضل على طول نقولها بشكل أو بآخر،أنا مش تلميذ في الفصل عشان أوطى راسي وأقول حاضر يا أستاذ،السلام عليكم أشوفكم على خير .
قالها الشاب في ثقة ، ثم راح يحدق في وجوهنا وانصرف في تحد صارخ ،في ضيق وقرف شديدين رأيت صاحب السيارة يحدق في الشاب المختلف حتى غاب عن الأنظار تماماُ . التفت إلينا السائق وراح يقول في خبث وثقة  :
- ياللا خلى ديابة الجبل تتعشى بلحمه،والكلاب تحلى بعضمه ..
قلت هامساً مستفسراً من الرجل الجالس بجواري :
- صحيح الكلام اللي بيقوله الأسطى ده ..؟!!
- أيوه صحيح تقدر تقول عليه من دلوقتى الله يرحمه ..
- يستاهل هو اللي جابه لنفسه ، يعنى كان لازم يطلع فيها ويقول الكلام الكبير ده اللي هو مش قده ، خليه يستلم بقى ..
رويداً ..رويداً ..رحنا نتراص داخل علبة السردين التي امتلأت عن آخرها بضعف العدد .
عدنا ننادى على السائق مرة ثانية ، فجاء على مهل وقبل أن يغلق باب سيارته ،راح يلقى علينا نظرة طويلة متفحصة وهو مبتسم ابتسامة المنتصر ، ثم قال في أمر كالواثق من نفسه :
- الأجرة زادت من تمانيه جنيه بقت بعشرة جنيه ..
عدنا نحدق في وجوه بعضنا البعض ، دون أن يتفوه أحدنا بكلمة واحدة ، خرج أحدنا عن صمته وقال :
- من إمتى الكلام ده يا أسطي ..؟!!
- من دلوقتى ..
- طب واللي مش معاه ..
- يتفضل ينزل زي الجمل اللي نزل ..
ومن خلفه قال ثان :
- طب خليها تسعة جنيه يا أسطي ..
- عشره جنيه .. واللي مش عاجبه ينزل ..
عدنا نحدق في وجوهنا الممصوصة ، يلفنا صمت دفين ثُم خرجت أصواتنا متوحدة في خضوع واستسلام :
- ماشى يا اسطي ..
قال السائق وهو يغلق باب الميكروباص :
- ناس ما تختشيش صحيح .. ناس ما بتجيش غير بالعين الحمرة ..
ثم نفخ في وجوهنا دخان سيجارته ، وأتبعها بضحكة عالية .
عاد وفتح الباب بعد غلقه ، وراح يقول في ثقة ، وهو يحدق في وجوهنا :
- أه نسيت أقول العشرة جنيه أجرة الفتوة اللي نزل ده هتتقسم عليكم ..
قالها السائق آمراً ..
عدنا نحدق في وجوه بعضنا  في عجز ، دون أن يتفوه أحدنا بكلمة ..
- قلتوا إيه ..؟!!
خرج عليه صوت أحدنا :
- واحنا ذنبنا إيه يا أسطي ..؟!!
رد فى ثقة وكبرياء :
- السيئة تعم والحسنة تخص ..هاء .. هاء .. هاء .. هاء - قلتوا إيه ..؟!!
أعادها علينا السائق ثانية ..
قلنا في توحد وتناغم :
- موافقين ..
انطلق الميكروباص ..
وأغلقت نوافذه كلها من جراء البرد الشديد ..
وتعالت أصوات شخير الركاب ..
وراحت رأسي تتحرك يمنة ويسرة ، لعلى ألمح طيف هذا الشاب المختلف ،  وجدتني أسائل نفسي في حيرة شديدة :
- لماذا تهتم به هكذا ..؟!!
- ربما كان صوتي الذي تمنيت أن يخرج منى فخشيت أن أخرجه
- ترى هل سيصل في أمان وسلام ..؟!!
- .........................................
أخرستني مفاجأة السؤال ..صمت برهة ثم رحت أقول :
- وكيف يصل والطريق _  كما أرى _ مقطوع .. مقطوع تماماً ، ليس به ( صريخ ابن يومين ) حتى أعمدة الإنارة غير موجودة ، ومنذ خروج الميكروباص لم تر عينى قط سيارة تسير بجوارنا،أو حتى تسير عكس الاتجاه..فكيف يصل ..؟!! وما زاد ( وغطَّى ) هذه الأمطار التي لم تتوقف لحظة واحدة منذ خروجنا من الموقف بخمس أو عشر دقائق تقريباً ، رأسي كاد أن ينفجر دون الوصول إلى إجابة .
خوفي الشديد عليه جعل النوم يخاصم جفوني، وكلما قررت أن أوقظ أحد الركاب ؛ لأتحدث إليه عن هذا الشاب المختلف  يمنعني صوت شخيره المرتفع ، فأتراجع على الفور ، وأعود لأحدث نفسي في همس وخوف ..
- عملتها ..
قالها السائق ولم يسمعه غيري ..
قلت مستفسراً وهو يهدئ من سرعة الميكروباص :
- فيه حاجهة يا أسطي ..؟!!
- الفردة اللي على الشمال من قدام هوت .. ولازم أغيرها  صحي النايمين دول على طول عشان يساعدونا ..
- ياللا يا خويا منك له ..
قالها السائق في غضب ، فاستيقظ الجميع رغماً عنهم ..
نزلنا جميعاً دون إرادتنا ..
منا من أخرج ( الإستبن ) من مكانه ،ومنا من راح يساعد السائق في (حل الفردة ) ومجموعة منا راحت ترفع السيارة عن الأرض قليلاً حتى يركب( الفردة ) الجديدة ، لعدم وجود ( كريك ) يرفع به السيارة ،أما أنا فرحت أحدق في اللا شئ،أدخل عيني في الظلام الدامس لعلى أعثر عليه عندئذ أستحلفه بالله أن يركب معنا منعني الظلام من رؤيته ، أو حتى على ما تبقى منه ،عاد وتحرك الميكروباص مرة ثانية ، ووجدت السائق يسير هذه المرة في بطء شديد لعدم وجود ( إستبن ) آخر ، كما قال لنا مسبقاً ، قلت وأنا أجفف ماء المطر من فوق ثوبي تارة  وتارة أخرى أحدق في وجوه الجالسين من حولي :
إنه ذنب الشاب المختلف ، الذي فرطنا فيه بسهولة .. نعم فرطنا فيه بسهولة ..
- الأجرة .. الأجرة
راح يرددها السائق علينا ، قلت مستفسراً في ضيق :
- إحنا وصلنا ..؟!!
- لأ .. إحنا في نصف الطريق ..
- طب لما نوصل بالسلامة إن شاء الله ..
- أنا باقول صحيهم دلوقتى..وخليهم يلموا الأجرة دلوقتى حالاً،واللا تحبوا أنزلكم في وسط الطريق،خلى الديابة والكلاب تنهش لحمكم ..؟!!
- لأ .. لأ يا أسطي حنلم الأجرة من بعض حالاً ..
قالها الركاب في صوت واحد ، رغم أنهم كانوا شبه نائمين ،تناول السائق _ من أحدنا مجموع الأجرة ، والذي قام متطوعاً بجمعها _ وراح يعدها على مهل، وما إن انتهي من عدها على أكمل وجه ، إلا وعاد يعدها مرة ثانية من جديد بصوت مسموع ، وسرعان ما صرخ فينا قائلاً :
- الأجرة دي ناقصة الجدع اللي نزل ..
رحنا نتلفت نحو بعضنا البعض في مذلة دون أن يفتح أحدنا فمه ، ويخرج كلمة واحدة ..
- فين أجرة اللي نزل ..؟!!
 - بس يا أسطي .................
قالها أحدنا الذي منعه خوفه من أن يكمل جملته لنهايتها ..
- ولا بسبس .. ولا نونو .. أنا باقول قسموا أجرة الأمُّور اللي نزل بينكم وبين بعض ، إنتوا سامعيني طبعاً ..؟!!
- طبعاً .. طبعاً يا أسطي ..
وسرعان ما راحت تتعالى أصواتنا؛لتحتج على بعضنا البعض:
- أنا مش معايا ..
- ولا أنا ..
- وإحنا ذنبنا إيه ..؟!
- هاء .. هاء .. هاء .. هاء
السائق ما إن سمع ورآنا على هذا الحال حتى ظل يضحك .. يضحك علينا بشدة .. 
- أيوه كدة ..
قالها السائق وهو يضع ( فلوس الأجرة ) كاملة _ كما أمر _ داخل جيبه بعد أن قام بعدها مرات عدة في تلذذ شديد ..
- خ .. خ .. خ .. خ .. خ .. خ ..
في توحد وتناغم مستمر عادت أصوات شخيرهم ترتفع من جديد..  
 - حمد الله على السلامة ..
قالها السائق في سخرية ..استيقظ الجميع ..نزلنا تباعاً كالسكارى الحيارى ..بعيون أجهدها الحزن والألم والشوق إلى الحرية ، رحنا نحدق في وجه الشاب المختلف ، الذي وصل قبلنا ، وانتظَرنَا .
- ازاي وصل ..؟!!
- وإمتي وصل ..؟!!
- ..................
- ..................
أسئلة كثيرة .. كثيرة جداً رحنا نطلقها في الهواء ، دون الوصول إلى أية إجابة .

            mahmoudstory40@yahoo.com

هناك تعليق واحد:

مروه زهران يقول...


قصة رائعة جداااا .. وفيها معانى حلوة ومؤلمة أووى