سلبية العلاقة بين المرأة و الرجل من خلال قصة (امرأتان
و حلم) للأديبة هيام مصطفى قبلان
عايده بدر
من مدخل غير معتاد في السرد وظفت مبدعتنا شخوص قصتها بحبكة رائعة فهي الساردة أحيانا و هي جزء من العمل السردي أحيانا و هي المعلقة حين تتخذ موقفا من سير الحدث و المفككة لأحوال الأبطال المتقلبة بتقلب الاحداث
لدينا هنا أكثر من امرأة ، إذن القصة كلها موجهة للمرأة تحكي عنها و عن واقعها ترصد وقائع حياتية تعيشها و لرجل هنا يلعب دورا ثانويا يبدو كما لو كان بعيدا حيث تظهر لنا نتائج تفاعله مع المرأة لكن من بعيد
" خلال عودتي من عمان الى المعبر الأردني وحتى وصولي للمعبر الاسرائيلي ، مسافة تأخذني بصحوة لحظات من التهيّؤ والترقّب ،، من اخراج جواز سفري ، وتفتيش أوراقي الثبوتية وحاجياتي ، القاء نظرة أخيرة على القرى الريفية التي يمرّ بقربها الباص ، محمّلا بالحقائب المدجّجة بالحب والحنين والهدايا ، ببقايا من رائحة علقت فوق الثياب ، أماكن تخطر بالبال ،، مقهى بأنواره الخافتة وطعم القهوة الليلية والشاي بالنعناع،عينان تدمعان ،،ومن وراء النافذة طفل يمدّ يده الملطخة بوحل الشتاء وبشعره الأشعث " دينار يا باشا ، دينار يا مدام"..يسقط الظلّ على الزجاج ، أتنحنح ومن النافذة أناوله ما تيسّر ليسد به رمقه ، تسير الحافلة وأترك جزءا مني هناك ،، يتورّد وجهي والركاب يجلسون بأماكنهم بصمت "
تبدأ القصة بوصف عام للمكان بما يحمل من تناقضات فرضتها ظروف المكان كونه معبر يعني يلتقي فيه أهل الشرق بأهل الغرب و تدور كثير من قصص تتحملها ساعات الانتظار الطويلة التي لا يمل الجنود على هذا المعبر من استغلالها لإطالة الوقت و زرع اليأس و الوجع في نفوس العابرين و المنتظرين للعبور
ماذا يحمل لنا لمكان ؟ تحديد للمكان و هذا وحده كفيل برسم صورة قوية للمكان , في الخلف هناك قرى ريفية يمر بها الباص فلنا أن نتصور طبيعة هذه القرى ،، هناك نافذة يطل منها طفل شعث ملطخ الثياب يمد يديه يسأل الناس ،، هناك مقهى خافتة أضواءه ،، طعم قهوته و شيه يبدو من الصورة المرسومة بعناية ،، فهل تعرفنا الآن على طبيعة هذه القرى الفقيرة ؟ بعد قليل سنلتقي أكثر بوصف مفصل لتلك القرى و سنقف حينها على ما تمر به عين المسافر من وجع لا ينتهي بالعبور بل هو امتداد بين جسر وجع أوله ووجع آخره .. حتى الآن القاصة تلعب دور الساردة و بعينيها نرى هذا المشهد
" همس لامرأتين تجلسان في المقعد الخلفي
-أتيت لأنهي اجراءات الطلاق
-أين زوجك؟
-هجرني ،،تركني وسافر
-عندك أولاد في عمان؟
-لا لم أنجب ،، أحمد الله
-الأولاد زينة الدنيا
-هو لا يريد ،، أعرف صديقة من جمالها ينادونها ( بدر البدور) ، تزوجت من طبيب يكبرها بعشرين عاما ، تركها ولحق بغيرها ، لم يتم طلاق صديقتي الى الآن ، لا هي معلّقة ولا مطلقه
-وأين تسكن صديقتك؟
- في عمان مع ولديها
-وأنت من أين في بلادنا؟
-من مدينة الناصرة....
أنثى تجرجر أذيال ثوبها ، بائسة تدسّ بجيب معطفها أوراق ذابلة لرحلة شاقة .
-أيه يا زمن ،، هذا حال النساء في الزواج والطلاق
-صدقت ،،أزور عمان كل شهر وأعود فارغة اليدين ، أعود أدراجي وأحمل ملوحة الجرح ، وأنتحب على العمر الضائع
-سنتحدث عن خمسين موضوعا بينما نصل الجسر وحتى نمرّ من المعبر ،، أخخخ منهم الرجال ...."
هذه الحوارية الدائرة بين مرأتين لا تزل قاصتنا هنا ساردة فحسب تستمع عفوا لهذه لحوارية التي تنطلق منها عشرات الحكايا لنساء على مختلف المشارب و الرجل هنا فاعل بعيد نرسم صورته من خلال هذه الومضات في الأحاديث
لدينا سبع نساء لا امرأتان فقط و لننظر معا كيف يكون الأمر و كيف علاقة المرأة بالرجل تكاد ترسمها القصص هنا
لدينا امرأتان تتهامسان بالحكايا أو هكذا بدا لهما أن لا أحد يستمع لحديثهما بينما الحديث مسموع و إلا ما كان لفت انتباه الساردة و مؤكد لفت انتباه آخرين فكروا فيه برؤى مختلفة :
- المرأة الأولى هجرها زوجها و سافر ، لم تنجب ، علاقتها مع الرجل سلبية
- المرأة الثانية صديقة للمرأة الأولى غير موجودة هنا تستحضرها كمثال عن علاقة سلبية أخرى مع الرجل " من جمالها ينادونها ( بدر البدور) ، تزوجت من طبيب يكبرها بعشرين عاما ، تركها ولحق بغيرها ، لم يتم طلاق صديقتي الى الآن ، لا هي معلّقة ولا مطلقه ، تسكن في عمان مع ولديها "
- المرأة الثالثة هي رفيقة الحوار و التي لم نعرف عنها أي تفاصيل سوى أنها تسكن مدينة الناصرة
- بعيدا عن الحوار تدخل امرأة رابعة هذا المشهد بوصف بملبسها لدليل على حالتها البائسة واليائسة في ذات الوقت " تجرجر أذيال ثوبها " و هذا يمنحنا صورة امرأة عادية المظهر و ربما متوسطة العمر لا تحمل من الأناقة شيئا مما يجعلها امرأةمتوسطة في كل شيء تشبه كثيرا نساء في بلاد الشرق .." تدس بجيب معطفها أوراق ذابلة لرحلة شاقة " هي أيضا وحيدة لا رفيق لها تحمل أوراقها الذبلة كربيع عمرها الذابل و رحلة شاقة ليست فقط رحلتها عبر معبر البلاد و لكن لربما كانت رحلتها عبر الحياة ذاتها
أثناء عبور هذه المرأة من أمامنا الحديث ما زال يدور بين المرأتين تتحسران فيه على زمن جعل هكذا حال الزواج و الطلاق و الحسرة على أيام العمر المالحة تهدرها الأيام هباء ،، ينتهي هذا المقطع بحكم صدر ضد الرجال و أفعالهم التي تدفع النساء لمثل هذه المواقف
- ثم لدينا امرأتان يتمثلان في صوت مطربتين استعانت بهما القاصة و سيأتي الحديث عنهما في وقته .....!
- و أخيرا لدينا المرأة القاصة / الساردة / صاحبة الحلم و نازفة الكلمات هنا و نلاحظ الساردة هنا فقط مستمعة تنقل إلينا أحاديث و قصص تطوف حولها حية تشهدها أو مسموعة تتنقلها ألسنة المرأتين و ليس هناك تدخل من الساردة في القصة حتى الآن
" اضحك في سري ،، لو كنت أعرفهما لتورّطت بالحديث ،، النساء هنّ النساء يحببن الرجل ويحلمن ببيت وأطفال ، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه ،تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه ،، يشتهيها قبل افراغ شهوته ، يتأبط رجولته ولا يفكر الاّ بما بين فخذيه، تضحكان من بؤسهما ،، يتعالى في الباص صوت فيروز " وطني " وجوليا بطرس " وين مسافر"، أغمض عينيّ ، لم أنم ليلة البارحة ، أدندن " وين مسافر ، أوعى تسافر .." .. المسافة طويلة لنصل معبر وادي الأردن ،،القرى الأردنية على الجانبين ،منازل سطوحها من اسمنت وصفيح ، نوافذها مطلية باللون الأزرق والأخضر ، رجل يجلس في المقعد الأمامي يوقظني شخيره من ترتيب أحداث قصتي الجديدة ،، وعجوز يسعل ، يبدو أن برد عمان واجتياح الطيران الاسرائيلي على غزة ، خلق جوا من الرعب في نفوس العائدين الى حيفا والجليل ، خشيت أن يكون المعبر مقفلا ولا نمرّ ."
يظهر صوت الساردة هنا لتأخذ دورها في القص ،، تضحك في سرها ليس على ما سمعت لكن سخرية بقدرة تجمع و تفرق بين النوعين و كيف يرى كل منهما الآخر ،، مقارنة عفوية مرت بخاطر القاصة هنا و سريعة المشاهد المتلاحقة حولها :
المرأة تحلم بالرجل ،، الرجل هو البيت / الرجل هو الأطفال / الرجل هو الآمان و الليل الدافىء و صوت الحياة يدق رأسها / الرجل هو لتعب اللذيذ المرهق الرائع المؤلم المداوي لكل جروحها أو هكذا تتصور النساء دائما ما سيقدمه لها الرجل
الرجل يحلم بالمرأة نعم لكن أي امرأة تلك التي يحلم بها ؟ المرأة عنده - كما ترى القاصة - هي التي تشاركه فراشه ،تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه ،، يشتهيها قبل افراغ شهوته ، يتأبط رجولته ولا يفكر الاّ بما بين فخذيه ،، أين بقية الحلم كما تراه النساء ؟ يتضح لنا أن الحلم لا يكون مشتركا بينهما .
كل ينظر إلى زاويته التي تشكل حلمه
تمر بنا امرأتان لكن مرور سريع عابر كخلفية للقصة : صوتان اختارت القاصة أن يكونا صوتا إمرأة أيضا صوت فيروز " وطني " وجوليا بطرس " وين مسافر ؟
صوت الوطن فيروز تنادي وطني و المرأة وطن / بيت / انتماء ,,, وين مسافر أوعى تسافر ؟ و كأنها تنادي لا تبتعد لا تهجر و تباعد في المسافات بيننا فهنا وطن هنا بيت هنا امرأة
بعض غفوة كانت تتمناها القاصة ربما لتعيد ترتيب القصة لتي ستكتبها لكن شخير رجل هنا و سعال عجوز هناك يحزمن المر لصالح الاستيقاظ و نظرة من النافذة لتصف شكل القرى التي تحدثنا عنها أول القصة بنوافذها الصفيحية الملونة بألوان قاتمة بين الأزرق و الأخضر ربما لتقيها حر الشمس نهارا و لا تظهر بوضوح حين تهم طائرات العدوان بالتحليق القريب فوق أسطحها أو قصف القرى في غزة نتصور هنا أي حياة يحياها الناس هناك مهددين باستمرار بفقد الحياة .
"وصلنا ،، التفتيش على ما يرام الحقائب مبعثرة ، يفرغون فرحة الأطفال من ألعابهم ، والأسرار من مخابئها ،، وأسئلة ليس لها علاقة بالفن ولا بالشعر ،، من يعرفني عند الحواجز ، الشرطي يبحث عن شيء ما ، لم أنظر الى عينيه ، مللت ،، اريد العبور بسلام للجهة الأخرى والعودة الى بلدي ، خطوتان للبوابة الأخيرة ،، " ياه "،، تنفّست الصعداء ،، أدفن في عمق القلب من ليالي عمان رائحة الأصدقاءالطيبة والمحبة ، قهوة " جفرا" وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب ، شيء ما بداخلي يكبر يذكّرني أنني أنثى وعليّ أن لا أحلم كثيرا كباقي النساء وهنّ يبحثن عن حضن ومأوى ،، المرأتان تواصلان الثرثرة .. أريد اكمال الحلم ،، يد السائق تنهرني : "وصلنا سيدتي ،، الحمد لله على السلامة"...
أشفقت على حلمي وجود رجل فيه ،، فوق كل الاحتمالات "...!
" وصلنا ،، " هل لنا أن نتخيل كيف نسمعها بكل ما تحمل من تعب و ارهاق و ألم و وجع ممتدون عبر المعبر و ما فيه و ما عليه ،، هذا الوصف المؤلم لعمليات التفتيش و هذ التعبير الرئع " يفرغون فرحة الأطفال من ألعابهم والأسرار من مخابئها " هذا بعض مما يواجه العابرون و تصبح فكرة عبور لبوابة هنا حلم آخر ربماا هو الأهم الآن في نفس القاصة فعلى بعد خطوتان تدخل للحياة من خلال البوابة الأخيرة
و حين تقول " وصلنا " بهذا العمق يمكننا أن ندرك و لو قليلا من معاناة أهلنا داخل الحدود و كيف تكون آلامهم و أحزانهم ليست مجرد آلام تذهب بل هي جزء لا يتجزء من حياتهم اليومية
حين الوصول للبوابة الأخيرة ينتفض شيئ داخل القاصة يخرجها من عباءة العمل لتعود لذاتها هي هي " الأنثى " لكنها رغم ذلك لا تريد أن تفكر مثل النساء و تحلم حلمهن ، هي تشفق على الحلم الذي تريده لكنها تخشى منه ، تخاف منه لأنها تدرك مسبقا أن الحلم عند المرأة الشرقية موؤودة روحه و مهيضة أجنحته منذ ولادته ، تدرك أن لا رجل شرقي سيأتيها فوق كل الاحتمالات .... و بختمة كهذه نعود لسيرتنا الأولى عن تبني القصة بصورة واضحة لقضايا المرأة و خاصة من خلال علاقتها بالرجل .
لعلنا قبل أن نختم نتساءل أين الرجل في هذه القصة ؟ أين هذا الذي اتخذنا منه موقفا تبنته القاصة ؟ إذا عدنا بنظرة سريعة للقصة سنجد كما أشرت في البداية إلى أن الرجل هنا يمثل الطرف السلبي البعيد ليس فقط من خلال دوره الذي يلعبه في حياة النساء محل الدراسة في القصة هنا لكن من خلال الأدوار التي لعبها الرجال الذين ظهروا هنا فلدينا هنا سبعة رجال يمثلون في المجمل المقابل لنماذج النساء التي وردت هنا و لكننا سنلاحظ بوضوح ما يمثله النموذج الذكري هنا من صانع للألم و هادم لحلم المرأة في تأسيس حياة / بيت / وطن هم :
- الرجل زوج للمرأة الأولى التي هجرها و طلقها و سافر, هنا يمكننا أن نلقي بلمحة سريعة عن قضية السفر و هجرة الأوطان
و لربما تأتي الأغنيات التي اختارتها القاصة " وطني " و" وين مسافر " لتلقي بلمحة ضوء غير مركزة على هذه القضية المهمة
- الرجل الثاني زوج الصديقة التي تركها معلقة و بحث عن غيرها رغم جمالها الشديد و رغم فارق العمر لصالحها هي بفرق عشرين عاما
- الرجل الثالث الجالس في المقعد الأمامي للقاصة و هو هنا مصدر ازعاج لها بصوت " شخيره " الذي يوقظها و فزع الحلم من عينيها
- الرجل الرابع بعيد هناك يسعل بصوته فيكاد يتحد مع الآخر صاحب الشخير في كونهما مصدرا للألم
- الرجل الخامس و هو الشرطي يعبث في الحقائب يثير المواجع و يخنق ضحكات الأطفال هو أيضا مصدر ليس للإزعاج و حسب بل أيضا للأالم والتعب
- الرجل السادس و هو السائق و على يديه ينتهي أمل القاصة في أخذ قطفة سريعة من الحلم الذي كانت تريده بشدة بعد أن قام بنهرها بقوله " وصلنا سيدتي "
- الرجل السابع هو رجل الحلم الذي لم يأت بعد ،تتمنى حضوره و تخشى حضوره في نفس الوقت لأنها تدرك أنه ليس هناك رجل فوق كل الاحتمالات .
تنتهي القصة بالوصول لأرض الواقع و نزع الحلم من عين طالما حلمت أن يكون لها هذا الحلم الأنثوي ، لكن على أرض الواقع التي نحيا عليها هل سيكون للحلم البرىء مكان ؟
و أي هواء سيتنفس و غبار الاحتلالات يملأ السماء وأيّ وأد سيقتت عليه في ظل مجتمعات لا تنتبه لصوت يمثل نصف عددها إن لم يكن أكثر ؟ أين المرأة و أين الرجل ؟
عايده بدر
من مدخل غير معتاد في السرد وظفت مبدعتنا شخوص قصتها بحبكة رائعة فهي الساردة أحيانا و هي جزء من العمل السردي أحيانا و هي المعلقة حين تتخذ موقفا من سير الحدث و المفككة لأحوال الأبطال المتقلبة بتقلب الاحداث
لدينا هنا أكثر من امرأة ، إذن القصة كلها موجهة للمرأة تحكي عنها و عن واقعها ترصد وقائع حياتية تعيشها و لرجل هنا يلعب دورا ثانويا يبدو كما لو كان بعيدا حيث تظهر لنا نتائج تفاعله مع المرأة لكن من بعيد
" خلال عودتي من عمان الى المعبر الأردني وحتى وصولي للمعبر الاسرائيلي ، مسافة تأخذني بصحوة لحظات من التهيّؤ والترقّب ،، من اخراج جواز سفري ، وتفتيش أوراقي الثبوتية وحاجياتي ، القاء نظرة أخيرة على القرى الريفية التي يمرّ بقربها الباص ، محمّلا بالحقائب المدجّجة بالحب والحنين والهدايا ، ببقايا من رائحة علقت فوق الثياب ، أماكن تخطر بالبال ،، مقهى بأنواره الخافتة وطعم القهوة الليلية والشاي بالنعناع،عينان تدمعان ،،ومن وراء النافذة طفل يمدّ يده الملطخة بوحل الشتاء وبشعره الأشعث " دينار يا باشا ، دينار يا مدام"..يسقط الظلّ على الزجاج ، أتنحنح ومن النافذة أناوله ما تيسّر ليسد به رمقه ، تسير الحافلة وأترك جزءا مني هناك ،، يتورّد وجهي والركاب يجلسون بأماكنهم بصمت "
تبدأ القصة بوصف عام للمكان بما يحمل من تناقضات فرضتها ظروف المكان كونه معبر يعني يلتقي فيه أهل الشرق بأهل الغرب و تدور كثير من قصص تتحملها ساعات الانتظار الطويلة التي لا يمل الجنود على هذا المعبر من استغلالها لإطالة الوقت و زرع اليأس و الوجع في نفوس العابرين و المنتظرين للعبور
ماذا يحمل لنا لمكان ؟ تحديد للمكان و هذا وحده كفيل برسم صورة قوية للمكان , في الخلف هناك قرى ريفية يمر بها الباص فلنا أن نتصور طبيعة هذه القرى ،، هناك نافذة يطل منها طفل شعث ملطخ الثياب يمد يديه يسأل الناس ،، هناك مقهى خافتة أضواءه ،، طعم قهوته و شيه يبدو من الصورة المرسومة بعناية ،، فهل تعرفنا الآن على طبيعة هذه القرى الفقيرة ؟ بعد قليل سنلتقي أكثر بوصف مفصل لتلك القرى و سنقف حينها على ما تمر به عين المسافر من وجع لا ينتهي بالعبور بل هو امتداد بين جسر وجع أوله ووجع آخره .. حتى الآن القاصة تلعب دور الساردة و بعينيها نرى هذا المشهد
" همس لامرأتين تجلسان في المقعد الخلفي
-أتيت لأنهي اجراءات الطلاق
-أين زوجك؟
-هجرني ،،تركني وسافر
-عندك أولاد في عمان؟
-لا لم أنجب ،، أحمد الله
-الأولاد زينة الدنيا
-هو لا يريد ،، أعرف صديقة من جمالها ينادونها ( بدر البدور) ، تزوجت من طبيب يكبرها بعشرين عاما ، تركها ولحق بغيرها ، لم يتم طلاق صديقتي الى الآن ، لا هي معلّقة ولا مطلقه
-وأين تسكن صديقتك؟
- في عمان مع ولديها
-وأنت من أين في بلادنا؟
-من مدينة الناصرة....
أنثى تجرجر أذيال ثوبها ، بائسة تدسّ بجيب معطفها أوراق ذابلة لرحلة شاقة .
-أيه يا زمن ،، هذا حال النساء في الزواج والطلاق
-صدقت ،،أزور عمان كل شهر وأعود فارغة اليدين ، أعود أدراجي وأحمل ملوحة الجرح ، وأنتحب على العمر الضائع
-سنتحدث عن خمسين موضوعا بينما نصل الجسر وحتى نمرّ من المعبر ،، أخخخ منهم الرجال ...."
هذه الحوارية الدائرة بين مرأتين لا تزل قاصتنا هنا ساردة فحسب تستمع عفوا لهذه لحوارية التي تنطلق منها عشرات الحكايا لنساء على مختلف المشارب و الرجل هنا فاعل بعيد نرسم صورته من خلال هذه الومضات في الأحاديث
لدينا سبع نساء لا امرأتان فقط و لننظر معا كيف يكون الأمر و كيف علاقة المرأة بالرجل تكاد ترسمها القصص هنا
لدينا امرأتان تتهامسان بالحكايا أو هكذا بدا لهما أن لا أحد يستمع لحديثهما بينما الحديث مسموع و إلا ما كان لفت انتباه الساردة و مؤكد لفت انتباه آخرين فكروا فيه برؤى مختلفة :
- المرأة الأولى هجرها زوجها و سافر ، لم تنجب ، علاقتها مع الرجل سلبية
- المرأة الثانية صديقة للمرأة الأولى غير موجودة هنا تستحضرها كمثال عن علاقة سلبية أخرى مع الرجل " من جمالها ينادونها ( بدر البدور) ، تزوجت من طبيب يكبرها بعشرين عاما ، تركها ولحق بغيرها ، لم يتم طلاق صديقتي الى الآن ، لا هي معلّقة ولا مطلقه ، تسكن في عمان مع ولديها "
- المرأة الثالثة هي رفيقة الحوار و التي لم نعرف عنها أي تفاصيل سوى أنها تسكن مدينة الناصرة
- بعيدا عن الحوار تدخل امرأة رابعة هذا المشهد بوصف بملبسها لدليل على حالتها البائسة واليائسة في ذات الوقت " تجرجر أذيال ثوبها " و هذا يمنحنا صورة امرأة عادية المظهر و ربما متوسطة العمر لا تحمل من الأناقة شيئا مما يجعلها امرأةمتوسطة في كل شيء تشبه كثيرا نساء في بلاد الشرق .." تدس بجيب معطفها أوراق ذابلة لرحلة شاقة " هي أيضا وحيدة لا رفيق لها تحمل أوراقها الذبلة كربيع عمرها الذابل و رحلة شاقة ليست فقط رحلتها عبر معبر البلاد و لكن لربما كانت رحلتها عبر الحياة ذاتها
أثناء عبور هذه المرأة من أمامنا الحديث ما زال يدور بين المرأتين تتحسران فيه على زمن جعل هكذا حال الزواج و الطلاق و الحسرة على أيام العمر المالحة تهدرها الأيام هباء ،، ينتهي هذا المقطع بحكم صدر ضد الرجال و أفعالهم التي تدفع النساء لمثل هذه المواقف
- ثم لدينا امرأتان يتمثلان في صوت مطربتين استعانت بهما القاصة و سيأتي الحديث عنهما في وقته .....!
- و أخيرا لدينا المرأة القاصة / الساردة / صاحبة الحلم و نازفة الكلمات هنا و نلاحظ الساردة هنا فقط مستمعة تنقل إلينا أحاديث و قصص تطوف حولها حية تشهدها أو مسموعة تتنقلها ألسنة المرأتين و ليس هناك تدخل من الساردة في القصة حتى الآن
" اضحك في سري ،، لو كنت أعرفهما لتورّطت بالحديث ،، النساء هنّ النساء يحببن الرجل ويحلمن ببيت وأطفال ، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه ،تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه ،، يشتهيها قبل افراغ شهوته ، يتأبط رجولته ولا يفكر الاّ بما بين فخذيه، تضحكان من بؤسهما ،، يتعالى في الباص صوت فيروز " وطني " وجوليا بطرس " وين مسافر"، أغمض عينيّ ، لم أنم ليلة البارحة ، أدندن " وين مسافر ، أوعى تسافر .." .. المسافة طويلة لنصل معبر وادي الأردن ،،القرى الأردنية على الجانبين ،منازل سطوحها من اسمنت وصفيح ، نوافذها مطلية باللون الأزرق والأخضر ، رجل يجلس في المقعد الأمامي يوقظني شخيره من ترتيب أحداث قصتي الجديدة ،، وعجوز يسعل ، يبدو أن برد عمان واجتياح الطيران الاسرائيلي على غزة ، خلق جوا من الرعب في نفوس العائدين الى حيفا والجليل ، خشيت أن يكون المعبر مقفلا ولا نمرّ ."
يظهر صوت الساردة هنا لتأخذ دورها في القص ،، تضحك في سرها ليس على ما سمعت لكن سخرية بقدرة تجمع و تفرق بين النوعين و كيف يرى كل منهما الآخر ،، مقارنة عفوية مرت بخاطر القاصة هنا و سريعة المشاهد المتلاحقة حولها :
المرأة تحلم بالرجل ،، الرجل هو البيت / الرجل هو الأطفال / الرجل هو الآمان و الليل الدافىء و صوت الحياة يدق رأسها / الرجل هو لتعب اللذيذ المرهق الرائع المؤلم المداوي لكل جروحها أو هكذا تتصور النساء دائما ما سيقدمه لها الرجل
الرجل يحلم بالمرأة نعم لكن أي امرأة تلك التي يحلم بها ؟ المرأة عنده - كما ترى القاصة - هي التي تشاركه فراشه ،تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه ،، يشتهيها قبل افراغ شهوته ، يتأبط رجولته ولا يفكر الاّ بما بين فخذيه ،، أين بقية الحلم كما تراه النساء ؟ يتضح لنا أن الحلم لا يكون مشتركا بينهما .
كل ينظر إلى زاويته التي تشكل حلمه
تمر بنا امرأتان لكن مرور سريع عابر كخلفية للقصة : صوتان اختارت القاصة أن يكونا صوتا إمرأة أيضا صوت فيروز " وطني " وجوليا بطرس " وين مسافر ؟
صوت الوطن فيروز تنادي وطني و المرأة وطن / بيت / انتماء ,,, وين مسافر أوعى تسافر ؟ و كأنها تنادي لا تبتعد لا تهجر و تباعد في المسافات بيننا فهنا وطن هنا بيت هنا امرأة
بعض غفوة كانت تتمناها القاصة ربما لتعيد ترتيب القصة لتي ستكتبها لكن شخير رجل هنا و سعال عجوز هناك يحزمن المر لصالح الاستيقاظ و نظرة من النافذة لتصف شكل القرى التي تحدثنا عنها أول القصة بنوافذها الصفيحية الملونة بألوان قاتمة بين الأزرق و الأخضر ربما لتقيها حر الشمس نهارا و لا تظهر بوضوح حين تهم طائرات العدوان بالتحليق القريب فوق أسطحها أو قصف القرى في غزة نتصور هنا أي حياة يحياها الناس هناك مهددين باستمرار بفقد الحياة .
"وصلنا ،، التفتيش على ما يرام الحقائب مبعثرة ، يفرغون فرحة الأطفال من ألعابهم ، والأسرار من مخابئها ،، وأسئلة ليس لها علاقة بالفن ولا بالشعر ،، من يعرفني عند الحواجز ، الشرطي يبحث عن شيء ما ، لم أنظر الى عينيه ، مللت ،، اريد العبور بسلام للجهة الأخرى والعودة الى بلدي ، خطوتان للبوابة الأخيرة ،، " ياه "،، تنفّست الصعداء ،، أدفن في عمق القلب من ليالي عمان رائحة الأصدقاءالطيبة والمحبة ، قهوة " جفرا" وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب ، شيء ما بداخلي يكبر يذكّرني أنني أنثى وعليّ أن لا أحلم كثيرا كباقي النساء وهنّ يبحثن عن حضن ومأوى ،، المرأتان تواصلان الثرثرة .. أريد اكمال الحلم ،، يد السائق تنهرني : "وصلنا سيدتي ،، الحمد لله على السلامة"...
أشفقت على حلمي وجود رجل فيه ،، فوق كل الاحتمالات "...!
" وصلنا ،، " هل لنا أن نتخيل كيف نسمعها بكل ما تحمل من تعب و ارهاق و ألم و وجع ممتدون عبر المعبر و ما فيه و ما عليه ،، هذا الوصف المؤلم لعمليات التفتيش و هذ التعبير الرئع " يفرغون فرحة الأطفال من ألعابهم والأسرار من مخابئها " هذا بعض مما يواجه العابرون و تصبح فكرة عبور لبوابة هنا حلم آخر ربماا هو الأهم الآن في نفس القاصة فعلى بعد خطوتان تدخل للحياة من خلال البوابة الأخيرة
و حين تقول " وصلنا " بهذا العمق يمكننا أن ندرك و لو قليلا من معاناة أهلنا داخل الحدود و كيف تكون آلامهم و أحزانهم ليست مجرد آلام تذهب بل هي جزء لا يتجزء من حياتهم اليومية
حين الوصول للبوابة الأخيرة ينتفض شيئ داخل القاصة يخرجها من عباءة العمل لتعود لذاتها هي هي " الأنثى " لكنها رغم ذلك لا تريد أن تفكر مثل النساء و تحلم حلمهن ، هي تشفق على الحلم الذي تريده لكنها تخشى منه ، تخاف منه لأنها تدرك مسبقا أن الحلم عند المرأة الشرقية موؤودة روحه و مهيضة أجنحته منذ ولادته ، تدرك أن لا رجل شرقي سيأتيها فوق كل الاحتمالات .... و بختمة كهذه نعود لسيرتنا الأولى عن تبني القصة بصورة واضحة لقضايا المرأة و خاصة من خلال علاقتها بالرجل .
لعلنا قبل أن نختم نتساءل أين الرجل في هذه القصة ؟ أين هذا الذي اتخذنا منه موقفا تبنته القاصة ؟ إذا عدنا بنظرة سريعة للقصة سنجد كما أشرت في البداية إلى أن الرجل هنا يمثل الطرف السلبي البعيد ليس فقط من خلال دوره الذي يلعبه في حياة النساء محل الدراسة في القصة هنا لكن من خلال الأدوار التي لعبها الرجال الذين ظهروا هنا فلدينا هنا سبعة رجال يمثلون في المجمل المقابل لنماذج النساء التي وردت هنا و لكننا سنلاحظ بوضوح ما يمثله النموذج الذكري هنا من صانع للألم و هادم لحلم المرأة في تأسيس حياة / بيت / وطن هم :
- الرجل زوج للمرأة الأولى التي هجرها و طلقها و سافر, هنا يمكننا أن نلقي بلمحة سريعة عن قضية السفر و هجرة الأوطان
و لربما تأتي الأغنيات التي اختارتها القاصة " وطني " و" وين مسافر " لتلقي بلمحة ضوء غير مركزة على هذه القضية المهمة
- الرجل الثاني زوج الصديقة التي تركها معلقة و بحث عن غيرها رغم جمالها الشديد و رغم فارق العمر لصالحها هي بفرق عشرين عاما
- الرجل الثالث الجالس في المقعد الأمامي للقاصة و هو هنا مصدر ازعاج لها بصوت " شخيره " الذي يوقظها و فزع الحلم من عينيها
- الرجل الرابع بعيد هناك يسعل بصوته فيكاد يتحد مع الآخر صاحب الشخير في كونهما مصدرا للألم
- الرجل الخامس و هو الشرطي يعبث في الحقائب يثير المواجع و يخنق ضحكات الأطفال هو أيضا مصدر ليس للإزعاج و حسب بل أيضا للأالم والتعب
- الرجل السادس و هو السائق و على يديه ينتهي أمل القاصة في أخذ قطفة سريعة من الحلم الذي كانت تريده بشدة بعد أن قام بنهرها بقوله " وصلنا سيدتي "
- الرجل السابع هو رجل الحلم الذي لم يأت بعد ،تتمنى حضوره و تخشى حضوره في نفس الوقت لأنها تدرك أنه ليس هناك رجل فوق كل الاحتمالات .
تنتهي القصة بالوصول لأرض الواقع و نزع الحلم من عين طالما حلمت أن يكون لها هذا الحلم الأنثوي ، لكن على أرض الواقع التي نحيا عليها هل سيكون للحلم البرىء مكان ؟
و أي هواء سيتنفس و غبار الاحتلالات يملأ السماء وأيّ وأد سيقتت عليه في ظل مجتمعات لا تنتبه لصوت يمثل نصف عددها إن لم يكن أكثر ؟ أين المرأة و أين الرجل ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق