خلال عودتي من عمان الى المعبر الأردني وحتى وصولي للمعبر الاسرائيلي ، مسافة تأخذني بصحوة لحظات من التهيّؤ والترقّب ،، من اخراج جواز سفري ، وتفتيش أوراقي الثبوتية وحاجياتي ، القاء نظرة أخيرة على القرى الريفية التي يمرّ بقربها الباص ، محمّلا بالحقائب المدجّجة بالحب والحنين والهدايا ، ببقايا من رائحة علقت فوق الثياب ، أماكن تخطر بالبال ،، مقهى بأنواره الخافتة وطعم القهوة الليلية والشاي بالنعناع،عينان تدمعان ،،ومن وراء النافذة طفل يمدّ يده الملطخة بوحل الشتاء وبشعره الأشعث " دينار يا باشا ، دينار يا مدام"..يسقط الظلّ على الزجاج ، أتنحنح ومن النافذة أناوله ما تيسّر ليسد به رمقه ، تسير الحافلة وأترك جزءا مني هناك ،، يتورّد وجهي والركاب يجلسون بأماكنهم بصمت .
همس لامرأتين تجلسان في المقعد الخلفي
-أتيت لأنهي اجراءات الطلاق
-أين زوجك؟
-هجرني ،،تركني وسافر
-عندك أولاد في عمان؟
-لا لم أنجب ،، أحمد الله
-الأولاد زينة الدنيا
-هو لا يريد ،، أعرف صديقة من جمالها ينادونها ( بدر البدور) ، تزوجت من طبيب يكبرها بعشرين عاما ، تركها ولحق بغيرها ، لم يتم طلاق صديقتي الى الآن ، لا هي معلّقة ولا مطلقه
-وأين تسكن صديقتك؟
- في عمان مع ولديها
-وأنت من أين في بلادنا؟
-من مدينة الناصرة....
أنثى تجرجر أذيال ثوبها ، بائسة تدسّ بجيب معطفها أوراق ذابلة لرحلة شاقة .
-أيه يا زمن ،، هذا حال النساء في الزواج والطلاق
-صدقت ،،أزور عمان كل شهر وأعود فارغة اليدين ، أعود أدراجي وأحمل ملوحة الجرح ، وأنتحب على العمر الضائع .
-سنتحدث عن خمسين موضوعا بينما نصل الجسر وحتى نمرّ من المعبر ،، أخخخ منهم الرجال ....
اضحك في سري ،، لو كنت أعرفهما لتورّطت بالحديث ،، النساء هنّ النساء يحببن الرجل ويحلمن ببيت وأطفال ، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه ،تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه ،، يشتهيها قبل افراغ شهوته ، يتأبط رجولته ولا يفكر الاّ بما بين فخذيه، تضحكان من بؤسهما ،، يتعالى في الباص صوت فيروز " وطني " وجوليا بطرس " وين مسافر"، أغمض عينيّ ، لم أنم ليلة البارحة ، أدندن " وين مسافر ، أوعى تسافر .." .. المسافة طويلة لنصل معبر وادي الأردن ،،القرى الأردنية على الجانبين ،منازل سطوحها من اسمنت وصفيح ، نوافذها مطلية باللون الأزرق والأخضر ، رجل يجلس في المقعد الأمامي يوقظني شخيره من ترتيب أحداث قصتي الجديدة ،، وعجوز يسعل ، يبدو أن برد عمان واجتياح الطيران الاسرائيلي على غزة ، خلق جوا من الرعب في نفوس العائدين الى حيفا والجليل ، خشيت أن يكون المعبر مقفلا ولا نمرّ .
وصلنا ،، التفتيش على ما يرام الحقائب مبعثرة ، يفرغون فرحة الأطفال من ألعابهم ، والأسرار من مخابئها ،، وأسئلة ليس لها علاقة بالفن ولا بالشعر ،، من يعرفني عند الحواجز ، الشرطي يبحث عن شيء ما ، لم أنظر الى عينيه ، مللت ،، اريد العبور بسلام للجهة الأخرى والعودة الى بلدي ، خطوتان للبوابة الأخيرة ،، " ياه "،، تنفّست الصعداء ،، أدفن في عمق القلب من ليالي عمان رائحة الأصدقاءالطيبة والمحبة ، قهوة " جفرا" وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب ، شيء ما بداخلي يكبر يذكّرني أنني أنثى وعليّ أن لا أحلم كثيرا كباقي النساء وهنّ يبحثن عن حضن ومأوى ،، المرأتان تواصلان الثرثرة .. أريد اكمال الحلم ،، يد السائق تنهرني : "وصلنا سيدتي ،، الحمد لله على السلامة"...
أشفقت على حلمي وجود رجل فيه ،، فوق كل الاحتمالات ...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق