مصحف بكل الألوان للروائي محمد عمران
بقلم: السيد
نجم
أعترف أنني بدأت أقرأ هذه الرواية "مصحف أحمر"
للروائي اليمنى "محمد عمران، بسر عنوانها!
ليكن، فالعنوان "عتبة النص" كما يرصده المصطلح
النقدي، بينما بدا الغلاف وقد كتب العنوان "مصحف أحمر" بعرض الصفحة، تلك
الصفحة المشغولة بنافذة سوداء اللون، عربية الطراز أو الإطار الخارجي لها، تحيط النافذة
بفتاة جميلة، بدت نظرتها باسمة محايدة، بينما القرط وعقد الرقبة حبات معقودة معا
تكسو الصدر.. إلا أننا لا ندرى، إن كانت تلك الفتاة المحاطة بالنافذة، تطل علينا أم
نحن الطالين إليها.. خصوصا أنها تجيء من السماء، فخلفية الفتاة سماء زرقاء أو هي
هالة سموية، كما مريم العذراء!
لعلها "سمبرية" أم "حنظلة"، وهى التي
تبدأ معه الرواية مسافرا إلى العراق لدراسة الطب، وبعد سنوات قليلة عرفته أمه شخصا
آخر. لقد عاد إليها ليطلب منها أن تعلن توبتها؟! ويصفها بالمنحرفة والخاطئة، دون
جريرة ارتكبتها. فلما سألته:
"أليست الجنة تحت أقدام الأمهات؟"
قال: "بلى"
عقب بأنه ليس من يقول ذلك.."هوا لله الذي خلقنا
جميعا". فطلبت منه أن يتركها ِوشأنها، رد بتحد: "سأتحمل وذرك يوم
القيامة!" (ص310-311)
.. ربما هي صورة "سمبرية" زوجة
"تعبة"، أو عشيقته، وهو الذي تزوجها على سنة الحب، بين الخمائل وإلى
جوار صوت مياه الشلال، وفى مياهه التحما ومارسا الحب. هو "تعبة" إذن.. اليساري،
عضو الجبهة الوطنية، الذي زرع نطفته ثم هرب عاريا، ففي اليوم والساعة نفسها هرب من
رجال يطاردونه، رجال الطاغية والسلطة. وعاش حوالي عقدين يحارب من أجل الوحدة اليمنية
(بين عدن وصنعاء)، حتى أصيب فى قدمه وناله العرج بعد أن كاد يفقد حياته.
فلما أخبرت ولدها وهما فى طريقهما إلى المطار قبل سفره:
"يجب أن نصل إلى المطار مبكرين.. هناك من ينتظرنا!".. تحير
"حنظلة" وخمن إن كان من الأصدقاء أم جده "عطوى"، أم زوجة جده.
كان ردها: "لن تستطيع تخمين من يكون!"
فلما حان مقدم المنتظر، قالت "سمبرية" للقادم
بشعرة الشائب وقد عبر الأربعين سنة من عمره، وان بدا أكبر سنا:
"هذا هو حنظلة ابنك!"
لقد كانت المرة الأولى التي فيها يلتقيان، منذ يوم
ولادته! (من ص16 و20)
.. لعل الصورة ل"سمبرية" صديقة
"خمينة" تلك الفتاة الجميلة وان كانت قصيرة القوام، والتي لاقت من أم
"سمبرية" الكثير من العنت والرفض، على الرغم من أنها هي نفسها، من وفرت
لهما بيتا فى صنعاء، بعد أن هدم الشيخ الطاغية بيتهما فى القرية.. فقد كشفت الأم
سر غياب ابنتها، فقد كانت "خمينة" ترتب اللقاء الخفي مع
"تعبة"، وهو المطارد.. وهى التي قتلت أو أغتيلت بعد أن اكتشفوا دورها
المناهض للسلطة، والمتعاون مع الثوار.
يوم اللقاء الأول مع "تعبة" سألتها
"سمبرية" فى لهفة: "من أين تعرفين تبعة"؟".. و"كيف
أبلغك أنه سيأتي؟".. "هل أنت جبهوية؟"
ردت "خمينة": "كل الأحرار جبهيون؟"
ص212
.. قد تكون تلك الفتاة المطلة من النافذة هي
"سمبرية" ابنة الجد "عطوى". الذي عاد بعد اللقاء الأول الذي
وفرته "خمينة".. بعد إطلاقه من سجنه الأول والإفراج عنه. كان الاستقبال
حارا من الابنة وأمها وزوجة الجد الصغيرة. سألوه عن حكايات السجن، وكيف أطلقوا
سراحه، بل وكيف عرف عنوان البيت الجديد؟ فما كان منه إلا الحديث عن سطوة السجان! ولا
يعرف إجابة لأية أسئلة، لم يكن يعرف أين هو.. ولا كيف تم إطلاق سراحه؟
لكنه أراد أن يعرف سر الحمل بحنظلة، وأخبرته
"سمبرية" صراحة، خصوصا أن بطنها بدأت تبرز، فلم يغضب. فلما عبرت عن تضيق
أمها لها، طمأنها وقال لابنته: "تحملي حبها وحرصها عليك" ص224
لم تتغير ملامحه غاضبا، إلا بعد أن عرف عن بيتهم فى القرية
"حصن عرفطة"، وقد تم هدمه، مثل بيوت كثيرة استولى الشيخ (الاقطاعى ربيب
السلطة) على الأرض، وقد تحايل على الجميع، بعد أن جرف السيل الوادي وخرب زراعتهم،
وانتهى بأن استولى الشيخ على الأرض، ثم هدم كل بيوت الفلاحين!
قالت له زوجته الصغيرة: "لم يعد لنا فى القرية سقفا
يظللنا"
قال لها: "دار شيخنا صفى ثأره القديم مع حصن
عرقطة".
وقرر قراره.. "سأرحل من غد إلى القرية.. كي أعمل
على أن يكون لنا سقف يظللنا هناك" ص225
وتابعت "سمبرية" سردها ورسائلها إلى ولدها،
حتى كانت السنة 2006م، وكانت رسالتها الأخيرة إلى ولدها "حنظلة"، ذكرته
فيها بكل ما فعله معها، كما ذكرته بما كان منه عندما رجوته أن يسافرا معا إلى عدن
لمقابلة الأب "تبعة"، فوقف غاضبا:
"أنت أمي.. لكن ذلك الإنسان لا أحب أن أسمع
اسمه"
"لكنه أبوك!"
"أبى كل من يحب الله.. لا تتحدثي معي مرة أخرى فى
هذا الموضوع!" ص308
بعد تلك السنوات من سفره لدراسة الطب، جاء من يخبر
"سمبرية" بأن اسم "حنظلة" (ابنها) ورد ضمن أسماء وصور عرضتها
القنوات الفضائية لمطلوبين من قبل عدة دوائر استخبراتية، ورصدوا جوائز مالية لمن
يدلى بمعلومات عنه، بعد عملية تفجير إحدى السفارات هناك فى دولة بعيدة! ص311
*******
يبدو أن كثيرا من الأمر يلزم انجازه قبل قراءة هذه الرواية،
وإلا لماذا بحثت عن معنى كلمة "مصحف" والدلالة اللغوية للكلمة، قبل
البحث عن الدلالة الفنية في الرواية؟
هل لأن عنوان الرواية مثيرا "مصحف احمر" فى
ذاته، خصوصا أن الشائع من دلالة الكلمة أن المصحف هو مجمل القرآن الكريم فى
كتابه؟!
أم لأن كلمة "أحمر" التي ارتبطت بكلمة المصحف،
وهو لون الدم (وغالبا ما يوظف فى هذه الدلالة..) إذن أي دم أريق وتسربل بين طيات
هذه الرواية؟
المُصْحَفُ: مجموعٌ من الصُّحُف في مجلَّد؛
وغلب استعماله في القرآن الكريم. والجمع: مَصاحِفُ.. (المعجم الوسيط)
.. صحَّفَ يصحِّف، تصحيفًا،
فهو مُصحِّف، والمفعول مُصحَّف.
• صحَّف الكَلمةَ، كتبها أو قرأها على
غير صحَّتها لاشتباهٍ في الحروف، حرّفها عن وضعها "صحَّف الصِّحافيّ الخبرَ:
حرَّفه".. المعجم: اللغة العربية المعاصر
يبدو أن الروائي "محمد عمران" صحف الكلم
وقرأها عن عمد، وعلى غير اشتباه فى الحروف.
لقد ارتبط المصحف الأحمر بوجود الجد وبرفقته أينما كان
أو ذهب. هذا هو شهر أغسطس، حيث وداع حنظلة لجده قبل الرحيل إلى العراق، هناك فى
القرية. وفى الغرفة الجنوبية يتصفح "المصحف الأحمر الكبير".. ليقرأ منه:
"وقال داود لسليمان ابنه.. تشدد وتشجع واعمل.. لن الإله
الهي معك.." ص12
"طوبى للبطن التي حملتك.. إلا أنه قال: بل طوبى لمن
يسمعون كلمة الله.." ص12
"وقال رب انى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم
أكن بدعائك ربى شقيا" ص12
ليس المصحف بدلالة الكتاب القرآني، بل مجمل الكتب
المقدسة الثلاثة. وها هو فى بداية العمل الروائي مكتملا، بينما الجد شيد دارا
جديدة فى القرية، وتحدى الشيخ.
لكن ما حدث أن اختفى الجد فى ربيع2003م (عام الغزو
الامريكى للعراق)، وكانت محاولات البحث عنه، حتى استطاعت "سمبرية" ابنته
وزوجته الصغيرة، التوسط عند من هو أقوى من شيخهم، وبتفتيش بيته عثروا على المصحف الأحمر،
ولم يعثروا على الجد!
لكنه كان مبتورا، ليس هو مصحف الجد الأحمر.. فقد بتر
العهد القديم من المصحف، كما تم تمزيق بعض أناجيل العهد الجديد. ومن جديد بدأت
الابنة تحرى الحقيقة حتى تخفت فى زى الرجال، واقتحمت الحجرة الداخلية بالمسجد خلسة
(حجرة الأكفان)، وهناك وجدت أكفان ومقتنيات شخصية، منها "لحفة الجد
عطوى".. لعله مات أو قتل، بل هو كذلك.
**********
تعد
"اليمن" من البلدان العربية المثيرة للفضول في كل جوانبها، نظرا للمسار التاريخي
الطويل لأهلها، وكونها محط حضارة عريقة ذكرها القرآن الكريم دون بقية مناطق وبلدان
شبه الجزيرة العربية.. ولحجم ما تثيره الآن من أحداث، ومنذ أكثر من خمسين سنة
تقريبا. لعل أكثرها إثارة تلك المعارك السياسية والحربية التي اشتعلت بسر انفصال
الجنوب عن الشمال.
وكما كل
البلدان العربية هناك مسافة ما بين "النخبة" المثقفة والسلطة من جانب،
ومن رجل الشارع على الجانب الآخر. لعل المثقف والمبدع النبيه وحده هو من يسعى لحل
تلك المعضلة.
وربما
"محمد عمران" بروايته تلك "مصحف أحمر"، قدم محاولة للحل!
عبر فيها
عن بلاده العريقة خلال فترة زمنية تتسم بكافة أوجه صراع الشعوب.. الصراع من أجل
الغد الأفضل الذي فيه يتجاوز معوقات السلطة الغاشمة والتخلف الاجتماعي. وهو ما جاء
فى تلك الرواية برصد "التجربة الحربية" لجيل كامل من شباب ورجالات اليمن
من أجل الوحدة بين شطري اليمن.. وهو ما عبرت عنه شخصية "تعبة" الأب فى
الرواية.
بينما جاءت
شخصية الجد "عطوى" لتعبر عن مواجهة الاستبداد الغاشم والنظم الاجتماعية الإقطاعية
الملمح والثقافة.. وقاوم الجد دفاعا عن سقف بيت يعيش فيه على أرضه، وان سجن
لمرتين، لم يهمد ولم يتنازل حتى مات أو قتل.
فلما كان
الابن "حنظلة" ومعناه:
اسم علم مذكر عربي، مؤنث تأنيثاً مجازياً.
وهو نبات ثمرُه مرّ، وقد يكون ساماً، ويستعمل في الطب، ويضرب المثل في مرارته.
وحنظلة بن صفوان نبي عربي بعثه الله إلى أصحاب الرس. والرس: بئر غارت فهلك القوم .
المعجم: معاني
الاسماء
هو
المستقبل، ألم يسافر إلى العراق كي يصبح طبيبا يشفى الناس من العلل؟!
لكنه لما
عاد من العراق بعد ثلاث سنوات من غزو الولايات المتحدة الأميركية (رأس بلدان
العالم) طمعا فى خيرات البلد العربي، عاد "حنظلة" آخر، بثقافة ورؤية
أخرى، أشد قسوة من ثقافة سكان جبال اليمن وأكثر عنفا.. لم يخل الموقف من مقاومة.
تلك المقاومة التي تبتها الأم "سمبرية"، مقاومة فكرية وعاطفية، لعل
ولدها/ الحلم يعود إلى ثوابه، ولم تستطع أن تعبر له عن كرهها له، بل ما زالت تسعى
لأن تجمع الشمل.. بينها وبين ابنها، بين الابن وأبيه، هذا الأب المقيم فى عدن
(الجنوب).
إن ملامح
القص المقاوم والدلالة المقاومية، تبدو جلية فى هذه الرواية من خلال:
: أسماء
بعض الشخصيات، مثل الجد "عطوى": هو المنسوب إلى العَطِيَّة-
من يُعطى بدون مقابل، والهبة. ألم يكن صاحب "المصحف الأحمر" كتاب
الأديان الثلاثة، ألم يسجن من أجل أسرته وأهل قريته!
: الشخصيات
الثلاث الرئيسية (الجد- الأب- الابن) وكل منهم يمثل جيلا ومشكلة ومحاولة
للمقاومة.. حتى وان اختلفنا فكريا وعمليا مع "الابن".. لكنها تجربة جيل
كامل وفى كل أرجاء الوطن العربي، جيل يسأل ويتوسل بطريقة للخلاص.. إن "الآخر العدواني"
فظ وقاس بينما "الأنا" العربية واعية بذاتها وهويتها.
(أنظر
تعريف كاتب المقال لأدب المقاومة: "أدب المقاومة هو الأدب المعبر عن الجماعة
الواعية بهويتها، الساعية إلى حريتها، فى مواجهة الآخر العدواني.. من أجل الخلاص الجماعي")
: نمط
"التوثيق" الذي وظفه الروائي.. تعد تلك الرواية ضمن منتج أدب المقاومة العربي
فى اليمن (ولعلها الأولى) نظرا لحرص الروائي على الرصد التاريخي (رصد الشهر والسنة
الحدث وربما اليوم أيضا.. الربط التأريخى بحدث ما وان بدا للشخصية المتخيلة، إلا أنه
الحدث الذي عاشته اليمن فى يومه وفى سنته.. الشكل الروائي الذي استخدمه
"عمران"، شكل الرسائل والبوح الذاتي، ونهضت به الأم "سمبرية" فكانت
الأم لكل الشباب والمرأة اليمنية كلها.. اقتباس الآيات والفقرات الدالة من
"القرآن" و"التوراة" و"الإنجيل" بنصها.
: سمة
الانتماء بكل خصائصها تتجلى مع الكفاح المسلح من أجل البلاد.. المقاومة من أجل
البيت ودار العائلة.. حتى المقاومة مع تلك القيم والعادات والتقاليد الخاصة بجموع
اليمنيين ورصدها، مثل مشهد فحص عذرية "مسبرية" على قسوته، تلك التي
أوجزت رفض أوضاع كل نساء وفتيات اليمن.. بل بدا الانتماء جليا مع سطور رصد البيئة
اليمنية (الخاصة جدا) بجبالها، ووديانها، وأشجارها، وشلالاتها.. بكل ما على أرضها!
وقد رصده الروائي بحب وجمال فني آخذ.
: بينما
كانت قيمة الحرية والوعي بالهوية، هي المحرك الخفي/ الظاهر، وراء مجمل الأحداث وفى
رأس كل الشخصيات.. وما كان الابن "حنظلة" إلا الحالم بتلك الحرية، وما
كان الأب المختفي "تعبة" إلا من أجل الحرية، وكذلك الجد
"عطوى". وكلهم يملأهم عطر الهوية اليمنية.
: وان بدت
بعض مظاهر العنف (المسلح والاجتماعي)، لم يكن العنف هدفا فى ذاته.. بل من أجل هدف
أسمى. جانب منه لكشف "الآخر العدواني" وجانب آخر من أجل
"الحرية".. وكله تحت مظلة "الخلاص الجماعي" من أجل اليمن وأهله.
وبعد
يستحق هذا
العمل الروائي المزيد من البحث، ويستحق صاحبه الحفاوة، خصوصا أن تلك الرواية هي
العمل الروائي الأول له.
******
Ab_negm@yahoo.com
هناك تعليق واحد:
مقال رائع جدا جدا من فتره طويله مقرئتش مقال رائع كده
إرسال تعليق