محمد نجيب مطر
كانت القصص
الغريبة تحول الليالي المظلمة الطويلة في الأماكن الخالية إلى خيالات وأفكار تسبح
في هذا الجو المريب لتضيف إلى غموضه غموضاً ورهبة، ففي أحد الليالي صادف قصة جديدة
تضاف إلى سجل القصص التي تفوق الخيال في الغرابة، فلقد كان معه في يوم الخدمة
(الحراسة) مجندان من غير المؤهلين تعليمياً، وفي ظروف غامضة اختفى أحدهم بسلاحه
الميري ومن سوء حظه أن تقع تلك الحادثة في يوم خدمته، والغريب في الأمر أن المهندس
كمال كان يحرس المنطقة الخلفية للمعسكر ناحية الحملة الميكانيكية (مكان إصلاح
وانتظار السيارات)، وهي الناحية الوحيدة التي يمكن الهرب منها لأن الجهات الأخرى
للمعسكر تشرف على حافة شديدة الانحدار ولا يمكن الخروج منها، أما الجانب الأمامي
فكان يشرف على بوابة المعسكر وهو يعج دائماً بالحراس ومستحيل أن يتمكن أي فرد من
الخروج منها في أي وقت دون الحصول على تصريح بالخروج، انقلبت الدنيا رأساً على عقب
وأصدر قائد المعسكر أمراً بحلق شعر كل أفراد المعسكر من المجندين كنوع من أنواع
العقاب النفسي، وانطلقت التحريات العسكرية تجمع المعلومات عن كل كبيرة وصغيرة في
حياة الحراس في تلك الليلة الليلاء، وبالتالي نال المهندس كمال نصيبه من التعنيف
والتبكيت، وبدأت التحقيقات والاستجوابات مع المهندس لكنه ذكر في كل أقواله أنه ظل
طوال الليل متيقظاً وأنه لم يرى أي أحد يهرب من ناحية الوادي الذي يحرسه، وأنه رأى
ذلك الشخص وهو يقترب من حدود منطقة حراسته في حوالي الثانية صباحاً، وأنه لم يره
بعد ذلك حتى علم باختفائه، وأنه لا يملك أي تفسير لاختفائه فقد كان شخصاً طيباً
وخلوقاً وبسيطاً وكان يعيش أحلى أيامه لأن قد خطب ابنة عمه منذ وقت قريب وأنه يعد
الأيام لكي تنتهي مدة خدمته العسكرية حتى يمكنه التزوج منها.
خضعت
الكتيبة كلها لإجراءات قاسية، فضياع سلاح من الكبائر في الحياة العسكرية، فما بالك
بضياع السلاح وحامله، تم عرض كل أفراد الكتيبة على الكلاب البوليسية، ولم يتم
الوصول على شئ وفسر غياب المجند بأنه سرقة لقطعة سلاح، وربما استحوذ عليها لأخذ
ثأر قديم له وخصوصاً أنه من أهل الصعيد الذين يقدس بعضهم قيم الثأر، ولم يتم
العثور على المجند في بيته أو قريته وقال أهله أنهم لا يعلمون عنه شئ.
في هذه
الأثناء أصيب المهندس كمال بمرض جلدي، فلقد كان يبيت في المعسكر لأنه ليس من أهل
القاهرة مع مجموعة من المجندين والمتطوعين من بيئات مختلفة، فكان منهم من لا يراعي
النظافة الشخصية ولا الخصوصية ، فكانوا يأخذون منشفة المهندس ويستخدمونها
ويستخدمون ماكينة الحلاقة الخاصة به وأمواسه وفرشة الحلاقة، وكان المهندس يستحي
منهم ويحاول أن يعرفهم بخطورة الأمر، وبعد مدة لاحظ المهندس بقعاً صغيرة تظهر على
فخذيه وأصيب بالحكة وأخذ يحك تلك المنطقة بشدة فتكبر تلك البقع وترتفع فوق سطح
الجلد، ويميل لونها إلى الاحمرار، وازدادت الحالة سوءاً في فترة قصيرة، أدى ذلك
المرض إلى إصابة المهندس بحالة نفسية سيئة، وبينما هو يسير على تلك الحالة رآه
الرائد شعبان الضابط المكلف في تلك الليلة، وكان يعرف المهندس بصورة شخصية وكانت
لهما مناقشات علمية وأدبية طويلة، فرآه مغتماً فسأله عن حاله فأخبره بالأمر، فاستنكر
ما حدث وألقى باللائمة عليه لتركه المجندين يستخدمون حاجياته وأدواته وسأله لماذا
لم يذهب إلى المستشفى؟ فأخبره بأنه فعل وأعطوه بعض الدهانات وقالوا له لابد أن
تغير ملابسك الداخلية ثلاث مرات يومياً وأن يتم غلي تلك الملابس قبل لبسها مرة
أخرى، فسأله هل أعطوك إجازة للقيام بذلك ؟ فأخبره بأنهم رفضوا، وأخبره أنه لا يدري
ماذا يفعل، فتجهم وجه الرائد الذي كان معروفاً برجولته وإنسانيته وتواضعه، كان
لباسه العسكري المهندم والرائحة الطيبة التي تفوح منه دائماً، تعطيك مثالاً رائعاً
على العسكرية الطيبة بما فيها من تعامل إنساني وديني وخلقي .
كان الرائد
شعبان ينحدر من أصول عريقة وطبقة راقية وكان من الوجوه المشرفة للعسكرية المصرية
قمة في الانضباط العسكرية بلا قسوة ولا تعنيف، كان تعامله الإنساني يمثل رقياً
أخلاقياً لا نظير له، حتى أنه عندما كان يصدر حكماً على أي فرد بسبب ارتكابه
مخالفة عسكرية كان المجندين يتقبلونها برضا لأنه كان يقنعهم بالخطأ ويعترفون به،
كان الجنود ينتظرون يوم نوبته بفارغ الصبر، فقد كان يشرف بنفسه على طهي الطعام
بصورة ممتازة، ويتم تقديم الطعام للجنود في أطباق نظيفة على مائدة عليها مفارش و
آنية رشيقة بها بعض الزهور، وكان يتم وضع الصابون ذو الرائحة الجميلة التي تدل على
غلو ثمنه في الحمامات بعد تنظيفها وتعقيمها ثم رشها بالروائح الطيبة، وكان يشرف
بنفسه على تلك الترتيبات، ويأمر المجندين بالذهاب إلى الحمامات وأخذ حماماً ساخنا
بعد نهاية يوم العمل العسكري، كان الجنود يجلسون في الاستراحة يحتسون الشاي
ويشاهدون التلفزيون وهو معهم يجتذب معهم أطراف الحديث في بشاشة واحترام، وكانت
علاقة هذا الرائد بالجنود ممتازة يلجأون إليه في مشاكلهم فيقوم بحلها طالما أن
النظام العسكري يسمح بها.
أخبر الرائد
شعبان المهندس بأن يذهب لتغيير ملابسه استعداداً للخروج إلى بيته وأنه سيعطيه
إجازة 48 ساعة وهذا في حدود سلطاته على أن يجددها له عند العودة، شكر المهندس
للرائد صنيعه، وهرول مسرعاً ولبس على عجل، وعاد إلى الرائد ليجد التصريح في
انتظاره وسيارة عسكرية توصله إلى محطة الحافلات.
وبعد وصول
المهندس إلى بيته تكفلت أمه بكل ما يحتاجه من ملابس نظيفة يتم غليها، وبدأت الأمور
في التحسن بصورة لم يكن يتوقعها، فلقد بدأت البقع الجلدية في الانحسار وفي خلال
الثماني والأربعين ساعة تحسنت الحالة النفسية للمهندس، وبعدها سافر المهندس إلى
وحدته العسكرية في الصباح الباكر، فعلم أن اليوم هو ميعاد اختبار نهاية الدورة
التدريبية، فدخل الامتحان وأداه على خير ما يرام، وفجأة دخل قائد المعسكر وسأل عن
اسم من فاز بالترتيب الأول في الاختبار فأخبروه أن المهندس كمال فسأله القائد عن
شهادته وهنأه بالفوز بالمركز الأول.
هنا استغل
الرائد شعبان الذي كان يرافقه وأخبره في صوت خفيض عن المرض الذي ألم به، فسأله
العقيد هل يكفيك أسبوعاً للعلاج ؟ فكاد المهندس أن يطير من الفرح وقال له يكفيني فقط
أربعة أيام، فابتسم القائد وأمر بإعطائه أسبوعاً كاملاً لكي يعالج ويطمئن على
حالته وأخبره إن كان في حاجة للعلاج في المستشفى العسكري يمكنه أن يتدخل فشكره
المهندس وقال له في امتنان أن أمه في البيت ستشرف على علاجه وأدى التحية بعسكرية
بكل حماس .
بعد قضاء
الإجازة واستمرار العلاج اختفى المرض تماماً من جسد المهندس، وقبل عودته قام
المهندس باستئجار غرفة في حي المعصرة لكي يكون قريباً من وحدته بأجرة متواضعة لكي
يؤمن نفسه ضد العدوى مرة أخرى.
عاد المهندس
كمال من إجازته فوجد الدنيا مقلوبة رأساً على عقب، فلقد ظهرت تطورات لم تكن في
الحسبان في قضية الجندي الهارب، كان للرائد شعبان الفضل في إجلاء غموض تلك القضية،
فلقد كان في يوم نوبته يشرف بنفسه على تسليم السلاح للخدمات (الحراسة) وأثناء
تسليم السلاح كان على كل مجند أن يفحص سلاحه قبل استلامه، وحدث أن اعترض أحد
الأفراد على قطعة السلاح التي أعطوها له وقال أن بها عيباً وأنه يجب تسجيل العيب
قبل استلام السلاح حتى لا يعاقب عليه، أخذ الرائد شعبان السلاح من المجند وأخذ
يفحص المنطقة التي عينها المجند فوجد شرخاً خفيفاً في أسفل البندقية وأمعن النظر
فوجد نقاطاً من الصدأ وعندما تأملها شك أنها بقايا دماء، نظر إلى رقم السلاح وبحث
في السجلات فوجد بأن ذلك السلاح كان مع أفراد الحراسة في نفس اليوم الذي اختفي فيه
المجند الهارب.
شك العميد
شعبان أن في الأمر جريمة، تم إبلاغ الشرطة العسكرية فأخذت المجند الذي كان معه ذلك
السلاح واستجوبته فأنكر أي معرفة بهذا الشرخ وبعد بعض التهديد والوعيد ووعد بالعفو
إن قال الحقيقة اعترف المجند بأنه قتل زميله بذلك السلاح بضربه على رأسه بمؤخرة
البندقية من الخلف عدة مرات ثم سحبه ودفنه بسلاحه طمعاً في دبلة الخطوبة التي كانت
معه لبيعها لأنه كان يعاني من أزمة مالية، انتهت التحقيقات وتمت إحالة الجندي
للمحاكمة العسكرية التي حكمت عليه بالإعدام رمياً بالرصاص على أن تحضر عملية
الإعدام وفود من الكتائب في تلك المنطقة العسكرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق