2016/02/07

قراءة في ديوان ( وعيناها..) للشاعر محمّد جربوعة بقلم: عبد الله لالي



قراءة في ديوان ( وعيناها..)


للشاعر محمّد جربوعة
بقلم: عبد الله لالي 

جهنّم اللّفظ فنّي .. واللَّظى صوري * * فلا مفرّ لذلك الظّبي من سقري...( الأمير )

أشعر وأنا أقرأ شعر الأمير بصوت راجف في داخلي يقول :    
" هذا الجريح ..أنا "
ولعلّ كلّ مفتون بشعره يصرخ في أعماقه:
" هذا الجريح ..أنا "
محمّد جربوعة من الشعراء الذين يبعث الله على رأس كلّ مائة سنة واحدا منهم، ليجدد لهم أمر مملكة الشعر، ويعيد بعث الجمال فيها ليَسرَّ النّاظرين ..
هو شاعر وهب نفسه للشعر يحيي أمجاده ويتمم في تاريخه السّجل الذهبي، الذي ظلّت صفحاته ناقصات حتّى جاء الأمير ، وأخذ يَرْقُنُ فيه كلمات لؤلؤيّة السّناء، عَبَقِيّة الرّحيق والشذى..
في مقدّمة ديوانه ( وعيناها.. ) يضع لنا الأمير مفاتيح ثلاث لفهم شخصيّته، واكتشاف طينته الفذّة التي مزجت بها روحه إذ قال:
" لم أكن سوى ابن فلّاح أغرته البادية فأعطاها مهجته "[1] وقال في موضع آخر :
" .. وأعدني باستراحة أعود فيها إلى نداء الفلّاح البدوي.. "[2]
إنّه فلاح بدويّ ثائر ..
تركيبة ثلاثيّة عجيبة .. لا يمكن أن نحيط بأسرارها إلا إذا غصنا عميقا في شعره، وفككنا بعض تشفيراتها المحكمة  التوليف..
 ( جَذْبَةُ ) العنوان ..
وأنا تعمّدت وضع كلمة ( جَذْبَة ) بين قوسين، لأحيل بشيء من الإشارة القاصدة إلى الجذبة الصوفيّة التي تتملّك المحبّ، وتربك وجدانه ، فتراه في محراب الحبّ كأنّه هنا وليس هنا. عنوان ديوان الأمير ( وعيناها .. ) مثل كلّ عناوين دواوينه الأخرى وقصائده ، لابدّ أن تقف أمامه مطوّلا وتقلّب معانيه على شتّى وجوهها ، وكلّما لاح لك معنى من المعاني قلت: يا الله ..
ماذا بعد الواو ..؟ عيناها ..؟ وماذا تقول عيناها ..؟  أتصرّح ؟ تلمّح ؟ تشير في إغضاء وتنظر خلسة ؟  تبدي الشوق جهارا نهارا.. غير آبهة بواشٍ ..؟ تخشى سطوة الشاعر وفحولة شعره القاتلة ..؟
بلى هي تقول كلّ ذلك وأكثر.. لن نظفر بهذا الجواب إلا إذا ارتمينا في بؤرة القصيد، وأبحرنا مع النّاي الخليلي يقلّبنا على الجمر بيد الأمير كيف يشاء.. !!
والعنوان مَنْفَذُ المتن والمفضي إلى رحابه الواسعة .. أو بأسلوب النّقد الحديث، يمثّل العنوان إحدى عتبات النّص التي تشكّل نصّا مرادفا للمتن، وكذلك هي العناوين الفرعيّة، عناوين القصائد، وما يسبقها من تقديم نثريّ ، يجعلك تُسحر بالنّص وتشتاق إلى معانقة كلّ حرف فيه قبل أن تقرأه ، وهو بالتالي يُلقي بِحُزم من الأضواء الكاشفة تميط اللّثام عن بعض مشفّرات النّصوص وغوامضها.
وتحت العنوان ضبط الشاعر عنوان آخر فرعيّا نصّه ( شعر والله أعلم ) وهو عنوان مستفز ومثير ، لاسيما لمن قرأ شعر الأمير من قبل وعرف شاعريّته الفذّة ، فيتساءل في نفسه " هل يشّك فعلا الأمير إن كان ما بين دفّتي هذا السّفر العظيم هو شعر أم لا..؟ أم في هذا العنوان الفرعي رسالة مشفّرة أخرى تحتاج إلى قراءة متمعنة..؟ "
" شعر والله أعلم .."
إنّ من يقرأ هذا الطوفان الكاسح مما يسوّد على بياض الصّفحات وزرقة الفضاءات ممن يركبون موجة الشعر الحرّ ؛ فإنّه سيقف بلا شك حائرا مترددا، ويشكّ الشاعرُ نفسه - بعد رؤيته لذلك الهذيان – إن كان ما يكتبه شعرا حقّا .. أم هو يغرّد وحيدا فريدا في عالم أسطوري لا صلة له بهذا الواقع المصطنع المزيّف .. !!
ومن عناوين ديوان ( وعيناها.. ) وعتباتها الجميلة .. نسوق هذه النماذج الحيّة:
( ثمّ إنّ والدتي تكره قصائدي / خطوات ( كيدكنّ لعظيم ) في التسلّل إلى القصيدة / أحوال مغامرة تجاوزت ربع القصيدة / سؤال خطير حول قبيلة بني عذرة / اعترافات طفلة تغرق في شبر ماء.. ).
في مثل قصيدة (سؤال خطير حول قبيلة بني عذرة ) التي يقدّم لها بعتبة نصيّة مدهشة ، وقصيدة  (جرح عثمان ) وغيرها، فمن ثمّة جاءت القصائد محفوفة بزهور من الجمال الإبداعي الأخّاذ ، فلم تكن مجرّد نصوص يتيمة لا يعرف مشرقها من مغربها.. 
حوى ديوان ( وعيناها .. ) ستا وعشرين جوهرة دريّة الضياء، لا تكاد تفرق جوهرة عن أختها في الضياء، ست وثلاثون قصيدة كأنّها ست وثلاثون تاريخا في ( الحبّ )، الدّيوان في 184 صفحة طبع في ( مطبعة البدر السّاطع للطّباعة والنّشر ) عام 2013 م ، وأرّخ الشاعر لكلّ قصائده بشكل دقيق ، ما يمكن من وضعها في سياقها الزمني إذا احتاج الدّارس إلى ذلك ، وإذا نظرنا في تلك التواريخ نجد قصائد الدّيوان امتدّت ما عامي 2012 م و2013 م في فترة فعليّة لا تتجاوز ستة أشهر، كتب فيها في حقيقة الأمر من أجمل القصائد الكعبيّة، وهو بهذا لا يقدّم لقارئ الشعر جودة نوعيّة في الشعر وحسب، بل يقدّم له أيضا زخما في النتاج الشعري بنسق إبداعي يكاد يكون واحدا في جلّ قصائده..    
وفي مقدّمة الديوان يكشف لنا الشاعر أشياء كثيرة عن هويّة هذا الذي جنّن الغِيد، وأطاح بقلوب محبّي الشعر فوقعت في إسار قصائده ، ولا عجب ! فهو نفسه وقع أسيرا في مملكة الشعر وعالمه الأثيري السّاحر:
" هو الشعر ما زال يكسر قامتي منذ أن شببت.. وفي كلّ منعطف من عقود عمري كنت أحاول أن أختفي عن أنظاره.. لكنّه كان يفاجئني بوجهه في وجهي في المنعطف التّالي "
في مقدّمة ديوانه هذا أبان الشاعر عن نفسه وعن منهجه الشعريّ وعن أسلوبه النّثريّ أيضا، الذي ذكّرني بمقدّمة نزّار قبّاني لأحد دواوينه، وكذلك بمقدّمة أحمد شوقي لديوانه، إذ كشف عن قلم النّاثر الفصيح البليغ لمن لا يعرف ( الأمير ) ناثرا ، فهو صاحب قلم دفّاق وأسلوب راقٍ جدّا ورائق.. وهو الكاتب المدهش في كتابته للقصّة والرّواية بشكل يبهر فعلا، ويبزّ أكثر كتّاب القصّة والرواية شهرةً ، وإن لم يطرْ اسمه روائيّا فلأمر دبّر بليل، ممن تمكّنوا من ناصية الإعلام الثقافي في عالمنا العربي.. لكنّ الحرف البهيّ يفرض نفسه ويَسْطَعُ نوره ولو بعد حين، وقد يأتي أوان الكتابة عن قلم الناثر عند ( الأمير ) فنرى شيئا عجبا ، فكأنّما هو ذلك الخطّاط الذي يخطّ أبهى الحروف بكلتا يديه، سواء أكان  كتب بيمناه أم بسط اليسار لتتفنّن في رسم الحروف.. !
معظم قصائد الدّيوان تطوّف حول المحور الغزلي في أسمى حالاته وأطهرها، بأسلوب مشوّق، وتدفّق من المعاني الغنيّة بالفضائل والقيم الإنسانيّة العاليّة، وبطبيعة الحال في قالبها الكعبيّ الذي لا تخطئه عين القارئ أبدا ، وهذه القصائد كلّها تجعل للشعر المقام الأرفع ويحتلّ الشاعر منها ذروة التاج الملكي في قلب المرأة المفتونة بهما ( الشعر والشاعر )، ونجد في ذلك قصائد صريحة خالصة لقضيّة الشعر وفروسيّة الشاعر الذي هزّ قلوب الغيد، وعبث بمشاعرهنّ حتى ما يكدن يكتمن ذلك..
ومن تلك القصائد التي تجلى فيها هذا الموضوع بشكل كبير قصيدة { خطوات ( كيدكنّ لعظيم ) في التّسلل إلى القصيدة }.. والعنوان فيه تناص واضح مع القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " يوسف آية 28.
والقصيدة تروي قصّة امرأة تدخل صفحة شاعر على موقعه الإلكتروني أو الفايس بوك، فتقوم بمناورات حذرة ومحكمة التدبير، للتوصل إلى التواصل مع الشاعر ، الذي هو مشغول للغاية ولا يجد فرصة للدردشات الطويلة التي تهدر وقته، وتبدأ مناورتها بمجرّد إعجاب أو إشارة أو تعليق ، ثم:
" أنا من غواة الحرف
أغرق حين أقرأ شعركم
في نصف شبر من قصيد .. "
ثمّ تُناور قائلة:
" إن كان عندك بعض وقت
سوف أسأل – إن سمحت –
دقيقتين..
ولن أزيد
وعليك تنبيهي
إذا أحسست أنّي
قد تجاوزت الحدود ..."
وتتمّ محاولة الاستدراج شيئا فشيئا إلى أن تقول:
" يقال عنك ..؟
وهل هناك أميرة بالفعل ؟
أقصد:
هل أكيد ؟ ..." إلى أن تنتهي إلى غرضها الذي تخطط له فتقول في براءة ( ماكرة ):
" إن سمحت
أريد رقمك ..
وليكن طلبي الوحيد
فلربّما أحتاجه يوما
لفهم قصيدة
أو للسؤال عن الذي استعصى على فهمي..
ومنكم نستفيد .."
قصيدة من المدهشات.. أسلوب حواري ( يشبه المونلوج ) لأنّ الشاعر في هذه القصيدة لم ينبس ببنت شفة، وذلك كيدهنّ .. وإنّ كيدهنّ عظيم.. والقصيدة أعظم وأروع.. جمال ساحر ومعان رائعة في سلاسة وانسيابيّة ؛ لا يمكن أن ينفكّ عنها القارئ حتّى ينهيها، فإذا فعل وجد نفسه قد رجع يرتلها عودا على بدء..
والقصيدة الثانية هي التي بعنوان { أحوال مغامرة تجاوزت رُبعَ قصيدة }، وهي ما يصحّ أن نُطلق عليه مجازا ( قنبلة مدويّة )، إذ يُفرغ فيها الشاعر كلّ مكنونات الإعجاب والانبهار بشعره، إلى درجة أنه يجعل تجاوز رُبعَ قصيدة من غادة ( غِرّة ) يذهب بعقلها ويطيش بفؤادها.. حرام عليها أن تتجاوز ربع قصيدة ، وإنّها إن فعلت لا تتحمّل، يقول الأمير على لسانها:
" لكنّ هذا لا يشبه غيره * * هو مثل مسّ الجنّ.. مثل الساحر
لا يترك الأنثى تلملم قلبها * * بين التّردّد والقرار الحائر
أنا قد سمعت صبيّة في حيّنا * * توصي البنات بشعر هذا الجائر
وتقول: يُقرأ في القصيدة ربعها * * ما زاد فهو كرمية لمقامر
وتقول: ممنوع لكلّ رقيقة * * ولمن تذوب بكلمة ولقاصر..."
وتغامر وتقرأ أكثر من الرّبع بل قرأتها كلّها فكانت النتيجة:
" ذنبي بأنّي قد قرأت قصيدةً * * وقرأتها بتمامها للآخر[3]
حتّى تقول:
" من يومها، ضيّعت كلّ تعقّلي * * وفقدت في بحر الجنون بواخري
وتقول:
وسمعت مثل الاعتراف بداخلي: *  * (( ماذا سأفعل ؟ غلطة الشاطر ))...
جمال القصيدة يكمن في نظري في ثلاثة أشياء:
1 - المعاني القويّة ( الرّهيبة ) التي دثرتها – اللّغة البسيطة (رغم فخامة التركيب ).
2 - الأسلوب القصصي الحواري.
أمور جعلت من القصيدة درّة من الدّرر.. 
وفي قصيدة { استعداد استثنائي لحضور أمسيّة شعريّة } يظهر لنا الشاعر المرأة محتارة متوترة، خائفة تبحث في خزانة ملابسها عن أفضل ما يمكن أن تتجمّل به لحضور أمسيّته الشعريّة، وتفكّر أيضا في المكان الذي يمكن أن تجلس فيه حتّى يراها وتُلْفتَ انتباهه، ويدخل في تفاصيل مذهلة بشكل يحيّر العقل ، كيف يتأتّى لشاعر هذا الوصف الدّقيق لأحوال المرأة النفسيّة بانسيابيّة بالغة وجمال ( مروّع )، لا تكاد تجد فيها هفوة من تعبير أو زلّة في لفظ ، كأنّك – وأنت تقرأ – تنحدر مع نهر سلس دفّاق عذب الماء بارده:
" أوليس يذكر
في القصائد
أنّه
يهوى رقيّ (( الإتيكيت )) بطبعه
والخيل تسكنه
وتسري في الدّماء ؟
سأكون في تلك العشيّة
مهرة ملكيّة
تحت انهمار التّاج
يغرقها الضّياء )) ...
إلى أن يقول على لسانها:
" أحتار بين الأسود اللّيليّ
والقمحيّ
في لون الخمار
ولست أدري
أيّ لون
قد يناسب
للحذاء
ما ضرّه لو أنّه
أوحى إليّ
بما يجنّنه من الأزياء
من ألف لياءْ ..."[4]
تقرأ ولا تريد أن تتوقّف ، تترنّم بها وتشدو ولا تريد أن تسكت، ما أرى الشاعر ( الأمير ) إلا أنّه نهج في الشعر نهجا جماهيرا محبوبا يتلقّفه كلّ النّاس بلهفة وشغف ويفهمن معانيه بكلّ سهولة ويسر، لقد كان قدوته في ذلك نزار قبّاني الذي يقال أنّه جعل من الشعر خبز الجماهير اليومي، و كلا الشاعرين يخرج من حياة النّاس المألوفة خلقا آخر ، وبعثا جديدا يقرأه كلّ النّاس ويتذوّقونه ويفهمون معانيه العظيمة.. ولكنّه لا يتأتى لأيّ كان من الشعراء، حتّى وإن ظنّوا ذلك ، ووهموا بأنّهم قادرين عليه ..إنّه شيء من السّحر الحلال أشربته روح (الأمير ) ، فصاغه لنا في أحلى عبارة وأجمل لفظة، قطوف من الفنّ العالي دانية ، ولذّة للسامعين من المعاني قريبة..
" الشاعر المغرور يجعلني
لساعات
أشكّل طينتي في ذوقه
ومزاجه
هذا سلوك للإماء
وقفت تؤنّب نفسها أترى ستذهب ؟
أم تغيب ؟
ثمّ احتمت بعيونها
في حفنة الكفّين
وانهمر البكاء  "  
وفي هذه القصائد وغيرها يجعل الشاعر من نفسه مطلوبا لا طالبا[5]، على غير عادة الشعراء، فالشّاعر عادة يتغزّل بالمرأة ويطلب ودادها ورضاها، ويصف دلالها وتمنّعها منه ، لكنّ التمنّع هنا والتعالي يأتي من الشاعر، فيزيد في نار الحبّ اشتعالا لدى المرأة وشبوبا، فتسعى هي لرضاه وتطلب حبل وصاله..
وقد عدَدْتُ في ديوان ( وعيناها ) واحدا وعشرين قصيدة من أصل ستٍّ وعشرين؛ كلّها في الغزل الكعبيّ العفيف النّقيّ ( ولا يكون الشعر الكعبيّ إلّا عفيفا نقيّا )، منها سبع عشرة قصيدة يظهر فيها الشاعر مطلوبا من المرأة، أغرمت به وطاش صوابها فيه ، وما عادت تملك من أمر نفسها شيئا.. وفي ثلاث قصائد فقط ظهر فيها الشاعر طالبا للمرأة راغبا فيها لا يستطيع أن يمتنع من التغزل بها، أو قول الشعر في عيونها وهي قصائد ( حوار متوتّر بين قلبي والشاعر فيّ / لو لم أكن شاعرا / الطريق إلى اللازورد ) وفي قصيدة رابعة ظهر طالبا للشعر كأنّه امرأة حسناء ذهبت بفؤاده، وهي قصيدة ( ثمّ إنّ أمي تكره قصائدي ).
والقصائد الخمسة الأخرى في موضوعات أخرى غير الغزل مثل قصيدة ( حزن عثمان ) و( خديجة ).. وغيرها، ولكنّها رغم ذلك لا يخلو بعضها من غزل يوشّح أطرافها، ويجمّل متونها كأنّه الإكسير الذي لابدّ منه في كلّ قصيدة حيّة.
والغريب أنّه عندما يظهر ( مطلوبا ) من المرأة فإنّه يرفع من شأن الشعر والمرأة معا، ويعطي للمرأة مكانة أكثر مما لو كان طالبا لها جسدا لا روحا، ومادة لا رمزا معنويّا لرقّة الشعور البشريّ ورهافته.. ! وهذه الميزة مطردة في معظم شعر ( الأمير ) ولم أعلم أنّ أحدا من الشعراء يشبهه فيها بهذا الإطراد والاتساع ممن قرأت لهم من الشعراء قديما وحديثا.. قد يكتب شاعر قصيدة أو اثنتين يُدِلّ فيها بحظوته عند النّساء ، لكن أن تكون ميزة في شعره وهي إحدى خصائصه فهذا ما تفرّد به الأمير.. وحتّى شعراء المدرسة الكعبيّة الآخرون لم يشركوه فيها إلا في الشيء اليسير مما كتبوه ..     
مع قصيدة ( ثمّ إنّ والدتي تكره قصائدي ):
من أجمل القصائد التي كتبها حول الشعر وارتباطه به وعدم قدرته على الفكاك منه، كأنّه أكسير الحياة بالنّسبة له ؛ رائعته التي جاءت في هذا الدّيوان بعنوان ( ثمّ إنّ والدي تكره قصائدي ) وجاء في مطلعها:
تقول والدتي – الله يحفظها - :  *  *  (( ضيّعت عمرك في الأشعار يا كبدي
ألا ترى الشيب في المرآة ؟ )) قلت: بلى * * قالت: (( وعيناك بعد الموج كالزّبد...
والشعر هنا في عين الأمّ مَركب خطير صعب المرتقى، يجعل الأمّ تضع يدها على قلبها كلّما رأت ابنها يمتطي ظهره ويواجه العالم كلّه متقحّما كلّ عقبة ، ومواجها تيّارات الحياة الهوجاء بلا خوف أو وجل.. وفي عنوان القصيدة جمالية بديعة ، ومعنى مؤثر جدّا ( ثمّ إنّ والدتي تكره قصائدي ) ، الطريقة التي صاغ بها الشاعر العنوان مختلفة تماما عمّا اعتاده القارئ من عناوين مباشرة ، جاء بأسلوب كأنّه جملة مستأنفة لحديث طويل يقطع الأنفاس، وكأنّه كان يسرد قصّة حزينة عقّب عليها بقوله : ( ثمّ إنّ والدتي تكره قصائدي )، عنوان صادم يخضّ القارئ خضّا وينفضه نفضا، ويجعله يردّد في نفسه:
" سامح الله أمّك لمَ تكره الشعر ..لمَ تكره هذا الشذى ..هذا السّحر الحلال ؟ "
ولا شكّ أنّ الشعر يأخذ بلبّ صاحبه أكثر مما يأخذ بلبّ قارئه، لأنّ الشاعر يعاني المرارة والأسى في الغالب، وله نظرة مثالية حالمة تجعله كثيرا ما يصطدم بالواقع، ويسعى إلى تغييره فيناله في ذلك نصب ووصب، وقد يُحارَب ويُنبَذ أو يحاصَرُ من طرف الذين لا يؤمنون – من أعداء الشعر عموما - بأفكاره ويرون فيه خطرا يهدّد مصالحهم وامتيازاتهم.  
ومن الأبيات التي تجلِّي هذه الفكرة عنده بشكل باهر معنى وجمالا هي قوله:
ولست أجرؤ أن أقول لها: * * دون القصيدة لا أرتاح في بلدي
دون القصيدة في حزني وفضفضتي *  * لا أفتح القلب يا أمّي لأحدِ
وهنا تظهر علاقة الشّاعر بالشّعر بشكل واضح ، فليس هو عنده مجرّد ترفٍ أدبيّ أو فكري ، أو مجرّد هواية ( أو غواية ) يمارسها على هامش حياته ، بل هو جوهر حياته ، ورفيقه الذي يعزّيه في الملمّات ، ويقف إلى جانبه متحديّا كلّ الأطواق والأبواق.. !! .. شعر ينقذ حياة إنسان ويجعل لها معنى ورسالة كبرى يحيا لأجلها.
 مع قصيدة ( جرح عثمان ):
من القصائد التي هزّتني في الدّيوان هزّا عنيفا ومسّت جرحا غائرا في القلب ؛ قصيدة ( جرح عثمان ) والتي أقول أيضا أنّها من أروع ما قرأت في ذكر محنة الصّحابي الحيي ذي النّورين عثمان بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه ، وقد قدّم لهذه القصيدة البديعة بعتبة نثريّة قويّة، تُميط بعض الغُلالات التي يمكن أن تشفّر القصيدة أو تحجب بعض معانيها، و تكون كالحاشية المسبَّقة على المتن الأصلي، وقد تلطف في الولوج إلى محنة عثمان رضي الله عنه بشيء من الغزل ؛ المنْفَذُ الكعبيّ الجميل إلى كثير من قضايا الحياة:
ما بال عيناكِ هكذا لم تدمعِ ؟  * * ما بالها رغم الذي في المطلع ؟
فضعي أصابعك الجميلة واعصري * * ما قد تعسّر فيهما من أدمع
حتّى يقول:
ماذا يقول النّاس عنّا يا ترى * * ولقد رأوكِ بصورة الذّكرى معي ؟
" أرقيقةٌ مثل الزّجاج كما ادّعى * * في شعره عنها، وذات تورّع ؟
شفّافة فعلا كنظرة عابـــد ؟  * *  رقراقة مثل النّدى ؟ أم يدّعي ؟
وإذن لماذا لا تــسيل عيــونها ؟ * *  أم أنّها تخشى ابتلال البرقع ؟
كلمات تخترق الفولاذ وتفتّت الصّخر ، غادة وَرِعة تقيّة ذات برقع ، لكنّها رغم ذلك تظهر في ( صورة الذكرى ) مع الشّاعر ، وهي مع ذلك أيضا رغم الموقف الذي يهزّ والوجدان ويحزن كلّ محبٍّ ولهان لا تبكي ولا يسيل دمعها، خشية أن تبلّل برقعها.. ! أيّ مفارقات محيّرة ومدهشة هذه..؟     
ثمّ يقول فجأة وكأنّه يلتفت التفاتا بعد هذا الغزل الكعبي في بداية القصيدة:
عثمان صهر خديجة يا هذه * * صهر النّبيّ.. مرصّع لمرصّع
اليوم قمت من المنام أحسّه * * ظمآن ينزف في أنين توجّع
أبكوا رقيّة في التّراب بظلمهم * * أختي رقيّة في الثّرى، لا تجزعي
وهو هنا يتحدّث عن حادثة مقتل سيّدنا عثمان رضي الله عنه، هذه الحادثة التي كانت أعظم مأساة في التاريخ الإسلامي بعد مقتل عمر رضي الله عنه، وفُتح بعدها باب الفتنة بين المسلمين، ويذكر أَلـَمَ زوجه الكريمة بنت الكريم رقيّة بنت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قبرها وهي مبالغة في تصوير هذه المأساة ، وقد ماتت قبل سيّدنا عثمان رضي الله عنه.. ثم يصف كيفيّة مقتله وهو في مصلّاه يرتّل القرآن فيقول:
من قلبك الطّفليّ تسقط قطرة *  * في مصحف القرآن، ورد الرّكّع
ويتخيّل الشاعر مشهد خلع ذراع ثالث الخلفاء الرّاشدين وكأنّه حاضر يرى ويسمع فيقول:
خلعوا ذراع الشيخ ..أطلق آهة *  * كالنّار ما زالت تذوّب مسمعي
هذي يدٌ قد جمّعت قرآننا   *  *  هذي يمين المحسن المتبرّع
قصيدة رقيقة وحزينة جدّا في بكاء ذي النورين ثالث الخلفاء الرّاشدين ، محكمة النسج لغة ومعنى، ولا شيء فيها من البكاء التقليدي البارد بل كلّها لوعة ونار تتلظّى وألم يفتّت كبد كلّ مسلم.. 
مع قصيدة خديجة :
قصيدة أخرى مؤثّرة جدّا سالت لها دموعي رقراقة[6]، وفي مثلها فلتَسِلِ الدّموع ولتسكب العبرات ؛ قصيدة ( خديجة ) حبيبة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أوّل امرأة تلقّت الوحي عنه وآمنت به وصدّقته، قصيدة تتركك تذوب من الشوق ، يقول في مطلعها عازفا أحلى لحن:
عطر النّبيّ حبيب قلبك في إزارك *  * والطّفلة ( الزّهراء ) ترقد في يسارك
ودموع أحمد لم تزل مذعورة   *  * من يوم ( اقرأ )، لا تجفّ على خمارك
ذاك ( المسكين ) الذي أحببته  *  * ألقى الرّحال ويُتْمَ عمر في جوارك
المتعب القرشيّ أسند ظهره   * * من دون كلّ السيّدات إلى جدارك
في قلبك المكيّ يطلب غفوة  *  * عزّ النّصير وقد ( تشرّست ) المعارك 
ما هذا المدد الإلهي ؟ ! كأنّ روح القدس معه كما كان مع حسّان شاعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، كلمات كأنّها الغيم النّدي يلامس الأرض الممحلة بوابل منهمر، شيء يشبه التحليق في الأفق الأعلى، ويدسّ كلمات النّور – ريّانة – في القلب..
عطر النّبيّ حبيب قلبك في إزارك *  * والطّفلة ( الزّهراء ) ترقد في يسارك
تخيّلوا معي.. عطر محمّد أجمل وأبهى وأصفى إنسان في الكون، في إزار أجمل وأبهى وأصفى امرأة في الأرض، لؤلؤة خبأتها السّماء برهة من الزمن في طوايا الأرض، وحملت بين يديها لؤلؤة أخرى زاهرة، هي ( الزهراء ) حبيبة أبيها وأمّه .. أي امرأة يصف هذا الشاعر شفيف  القلب بتلك الكلمات المعتصرَات من الفؤاد، من أيّ قاموس جاء بها وصفّها كهذا بكلّ بساطة ، لتنتفض حيّة ريّانة تسبي القلوب وتأسر الأفئدة ..
خديجة تحمل عطرين من الجنّة، عطر النّبي وعطر الزّهراء.. وشاعر من ( عين أزال ) يعطّر شعره بذكرها ، كأنّه يسبّح ربّه ويناجيه بحبّها .. !!
ثمّ ما هذه الصورة الأخّاذة ؟ :
ودموع أحمد لم تزل مذعورة   *  * من يوم ( اقرأ )، لا تجفّ على خمارك
دموع أحمد عطر أحمد شذى أحمد .. يمتزج بخمار مَن حَيّاها ربّها بالسّلام ، من فوق سبع سموات وبعث السّلام مع مَلَك الوحي جبريل.. !
ثمّ يواصل الشاعر نسج خيوط هذه القصيدة المذهّبة في لوعة نفسٍ ورجفة فؤاد، واصفا وفاة خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
وتركته في ليلة موتية  *  * كم كان ينظر نحو وجهك في احتضارك
ودّعته بعيون كحل راحل * *  ما قلت شيئا.. كان صمتك من حوارك
ما قال شيئا، كان ينظر باكيا  *  * لعيونك الملأى بحزنك وانكسارك
وكأنّه قد قال أدري جيّدا * * لا لست محتاجا لشرحك واعتذارك ..
هنا ينبغي أن تَهْمِلَ العيون .. ينبغي لها أن تَهْمِلَ بل وتسحّ سحّا ملوّعا للمنظر المتخيّل المفتت للكبد .. أيّ الحبيبين نبكيه أكثر، الزوجة ( أمّ المؤمنين ) المحتضرة التي في عينيها دهشة الفراق وأساها، أم النبيّ اليتيم الذي يفقد للمرّة الثانية أمّه الحانية ..؟
وتمضي القصيدة في ذكر خديجة على هذا النّسق الفريد من الجمال والصّفاء .. لله درّه من شاعر فاتن حقّ له الفخر بشعره ورفع شأنه في السّماء عاليا .. !
درّة الدّيوان:
ولعلّ درّة الديوان وفريدة العقد فيه ؛ قصيدته التي أزهرت عبقة بعنوان ( ما في حدا )، وهي في مدح النّبي صلّى الله عليه وسلّم تعبّر عن أشواق الشاعر ولواعجه، وقد دخل مدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يحلم بلقائه ولقاء صحبه الكرام ، وكأنّه نسيَ نفسه ونسي زمنه وطمع في اللّقاء لا شكّ، ولكنّه يفاجأ بصبيّة خَفِرَة حييّة تصعقُ فؤادَه بقولها:
" ما في حدا "..
العنوان باللهجة الشاميّة[7] بمعنى ( لا يوجد أحد ) أو لا أحد هنا ، وهي عبارة يكاد يعرفها كلّ سكان العالم العربي، ولها صلة رحم بالفصيح مما هو في معناها لا شكّ ، وتتكرّر هذه (اللازمة) في متن القصيدة مرارا، وكأنّها السّفّود الذي ينغرز في القلب ( ما في حدا ) .. هل المدينة أقفرت وخوت على عروشها ..؟
إذا كان الفَقْدُ فَقْدَ نبيّ بوزن خاتم الأنبياء فإي نعم ..كأنّما هي أقفرت .. لاسيما إذا كان الشوق يحدوا الشاعر إلى لقياه وتكحيل العين بمرآه ..
يقدّم الشاعر لقصيدته بعتبة فنيّة من النثر البهيّ الذي لا يخلو من أنفاس الشعر وشذاه، فيقول في ختام أسطارها:
" فإن فاجأتهم الصّبيّة النّجديّة بقولها الذي يصدّع الأرواح ويشقق القامات ( ما في حدا ).. فعليهم بفانوسه المتبقّي.. يكفيهم ليقطعوا الظلام قطعتين لعيبروا.. مثل القمر.. مثل القمر.."
يقول الأمير في هذه الرّائعة:
" خلف الجدار
وخائفين
سمعتهم يتهامسون بأنّه
أرسى معالم ( قرية ضوئيّة )
وأقام صرحا
بالنّجوم ممرّدا
ورأيت من ينسلّ
ليلا نحوه يتلو الشهادة في الطريق
موحّدا..."
وما يشدّك في شعر محمّد جربوعة بصفة عامّة، وفي قصائده التي أفردها لمدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة، أنّه يأتيك بصور جديدة وتعابير فنيّة كأنّها – وهي كذلك – بنت يومها لم يسبقه إليها أحد، وقد يحتاج حكم نقديّ مثل هذا إلى استقصاء دقيق في ثنايا الشعر العربي الحديث لنطلقه، لكن على أقلّ تقدير هذا الأسلوب وهذه الصور الفاتنة في شعره ليست شائعة ولا معتادة فيما نقرأ ونسمع من شعر حديث، وإن وجد بعضها عند شاعر ما، فإنّه ليس بهذه الكثافة والغزارة التي في شعر الأمير ، وقد استحقّ بذلك إمارة الشعر الحديث عن جدارة، لا مجرّد إدّعاء أو مجرّد لقب أطلقه عليه محبّوه .. بل يقرّ بذلك كلّ من قرأ له وتتبّعه بإمعان من الشعراء والأدباء مثله ..
ولننظر في قوله:    
أرسى معالم ( قرية ضوئيّة )
وأقام صرحا
بالنّجوم ممرّدا
شيء جديد لم يَسبق لي أن قرأته ( قرية ضوئيّة ) ! ، لعلّه نوع من المحاكاة لما شاع في ثقافة الإعلام الحديث عن مصطلح ( القريّة الكونيّة) ، لكن المحاكاة قد فاقت الأصل وغلبته صدقا وقوّة تصوير .. والملفت جدّا عند الأمير ( محمّد جربوعة ) أنّه يقرن بين استعمال الألفاظ والمصطلحات الحديثة في شعره وبين مذخور ألفاظ اللّغة العرابيّة التراثيّة العميقة، التي هي أقرب ما تكون للغة القرآن وسنفصّل في ذلك عند حديثنا عن لغة الدّيوان ومعجمه اللّفظي.
يقول الشاعر في هذه القصيدة المزلزلة:
" قبل الدّخول رأيتها
كان السّواد يلفّها
نجديّة العينين
تحمل مصحفا
والثغر يخبر عنهم:
(( ما في حدا
رحلوا جميعا يا أخي
ما في حدا
ما في حدا ))...
والمرأة حاضرة دائما.. هي ( أيقونة ) الشعر عند محمّد جربوعة، ونافذته التي يطلّ منها على العالم، أليست المرأة رمز الميلاد والتجدد والخصوبة والعطاء ..؟ أليست المرأة الجناح الثاني الذي عدّل حياة البشريّة على نسق طبيعي..؟  
لكن وأسفا هي التي تتردّد على لسانها لازمة الحزن والأسى المفتّتة للقلوب والمخيّبة لأمل الشاعر ( الضوئيّ ) :
" ما في حدا .. ما في حدا "
ولذلك يقول الشاعر باكيا مُعَذَّبا مهدودا:
" كانت دموع العين
تمطر ( ربطة العنق ) الجميلة
فوق صدري ( المغربيّ )
وما ارتدى..." هنا ينبئ الشاعر عن انتمائه – من العالم الإسلامي – إلى المغرب العربي، وكأنّ هذا الانتماء عنوان حبّ مضاعف لإمام الأنبياء، حبّ تزيده بعد المسافة قوّة وشدّة، وربّما فيه إشارة إلى طبيعة الرّجل المغربي ( والذي هو هنا جزائري ) حيث لا يكون حبّه إلا قويّا جارفا..
ويرقّ اللّفظ ويشفّ إلى أن يصل إلى ذروة الوجد واللّوعة فيقول:
" خربشت شيئا في التّراب
وقلتُ لي:
(( صبرا محمّدُ
إذ فقدت محمّدا ..
إن لم تفز بالصّوت
يكفيك الصّدى )) ..
ومحمّد الأوّل هنا بطبيعة الحال هو الشاعر نفسه ( محمّد جربوعة ) ، وصدى النبيّ هو ميراث النبوّة الذي من تمسّك به فقد رأى وعاين أو كَأَنْ قدِ ..
قصيدة من الوزن الثقيل، سلاسة لفظ ومتانة تركيب ومطاوعة وزن وسموّ معنى، ومن يمكنه أن يجمع بين كلّ ذلك غير أمير الشعراء المعاصرين محمّد جربوعة..؟ !!
كتب ( الأمير ) في مدح النّبي صلّى الله عليه وسلّم قصائد كثيرة يمكن أن تشكّل ديوانا يُفرَدُ [8]لها ، وكلّ قصيدة كتبها كأنّما هي أوّلُ قصيدة يكتبها في مدح الحبيب ، بدءا بقصيدة ( قدر حبّه ) الأولى والثانية وقصيدة ( زهرة القرشي ) ومرورا بـــ ( الغيمة العاشقة ) و ( ما في حدا)، كلّ واحدة بنكهة مختلفة ومذاق ( يُطيِّر العقل ) بتعبير الأمير..   
ولو تتبّعنا كلّ قصائد الدّيوان بحثا عن مكامن الجمال، والإبداع الفريد فيها، لأتينا عليها  جميعا نحلّلها ونقلّب في صفحات معانيها الباهرة قصيدة قصيدة، فلا نذر واحدة منها، إلا ووقفنا أمامها وقفة تطول وتطول، ولكنّ  ذلك يحوجنا إلى تأليف كتاب آخر قد يوازي الدّيوان في عدد صفحاته.. ! ولكن ضربُ المثال يغني عن التقصّي والتفصيل.
في ظلال البناء الفنّي:
1-            الأسلوب القصصي الحواري
من الخصائص الفنيّة التي اعتمدها الشاعر في معظم ديوانه، وفي كثير من قصائده الأخرى الأسلوب القصصي الحواري، ففي معظم قصائد الدّيوان قصّة أو موقف قصصي، يتخلّله حوار ساخن غالبا، لأنّه يعالج الجوهر العاطفي لدى بني البشر، الأنشودة الأبديّة التي لا يزال الإنسان يرددها منذ فتح عينيه على نصفه الثاني في ظلال الجنان.. إنّه ( الحبّ ) هذا الجوهر المكنون الذي تسّفل به ناس فجعلوا منه بهيميّة مقيتة، وارتفع به آخرون فدنو من الملأ الأعلى في إخبات العابدين..
وهذا الأسلوب يحيل على تجربة الشاعر الروائيّة والتي لم تحظ – في نظري – بالعناية الكافية من قبل النّقاد والدّارسين، رغم ما توفّر فيها من سمات الإبداع القويّ والألق الفنّي الباهر ، فللأمير روايات ( المجنون / الإرهابي / غريب / خيول الشوق / ...) وقد ألقيت عليها نظرة فاحصة فوجدتها على جانب كبير من الجودة والإتقان ، ولكنّ معظم النّقاد في أرضنا كثيرا ما يعمهون .. أو يُضَلَّلون .. !!
فالشاعر يكتب بخلفيّة الروائي/ القاص ، ومن ثمّ جاءت معلّقته المعجزة ( حيزيّة )[9] والتي سنفرد لها قراءة على حدة تليق بمقام ( سموّها الرّفيع ) ، وكذلك جاءت ملحمة ( الساعر) التي يمكن أن تكون أنموذجا رائعا لتعانق الأسلوب الشعري والروائي في غير ما تكلّف، ولا ليّ لأعناق الأساليب الشعريّة.. !!
ومن تلك القصائد التي تمثّل هذا الأسلوب إن لم نقل كلّها قصائد ( قولي لها/ قولي له/ الأميرة المتحجّبة / أحوال مغامرة تجاوزت ربع قصيدة/ أسرار النّساء.. ).
وهذا الأسلوب يهزك هزا ويوقظ فيك أحاسيس كامنة ، نجده مثلا في قول الشاعر من قصيدته ( تخيّلات ):
" كأنّي الآن أسمع ما تقول *  * وأدري كيف يقتلها الرّحيل
وأعرف كيف يعصرها غيابي * * وأدرك كيف توقفها الطّلول
وأفهم كيف تحرجها الصبايا * * كسنبلة تحاصرها الحقول
تحدّثت زهرتها عنّي، وتشكو * * لقطّتها، وأدمعها تسيل
مشهد قصصيّ مؤثّر استوفى كلّ عناصر السّرد القصصي وفنيّاته ، من حدث وشخوص ووصف، وإثارة .. ولكن في قالب شعريّ يزيده قوّتها ويزيده كثافة وروعة تصوير، وهنا أتذكّر الموجة الطامية التي اكتسحت الرواية والقصّة في أيّامنا هذه ، وكيف ظهرت خاصّية فنيّة تستميل الكتّاب والقرّاء معا، وهي خاصيّة الشعريّة في السّرد الروائي والقصصي، وصارت لا تستغني عنه القصّة ولا الرواية النّاجحة ، بل كثيرا ما يدبّج به الصّحفيون وكتّاب المقالة ما يكتبونه حتّى يكون أكثر أسرا وأكثر جاذبيّة.. غير أنّ الأمير فعل عكس ذلك أدخل الأسلوب القصصي في شعره وبكثافة كبيرة ، حتى صارت معظم أشعاره تحتوي - على الأقلّ – على مشهد قصصي أو سردي.. وهذا في نظري أحد العناصر الأساسيّة التي قرّبت شعر الأمير من ذائقة الجمهور المتلقّي .. وكان جمهوره أوسع جمهور .. 
2 - الصور الفنيّة:
لو قلنا أنّ الديوان كلّه عبارة عن نسيج من الصّور الفنيّة البديعة لما أبعدنا ، قد تجد في قصائد الشعراء جملة من الصّور الفنيّة التي تنهض بقصائدهم وتطرّز جوانبها ومعانيها المختلفة، أمّا أن تتزاحم الصّور الفنيّة في القصيدة الواحدة ، حتّى تقطع الأنفاس وتصيب القارئ بالبَهَر.. فذلك آية من آيات الله وشيء يختصّ به بعض النّاس دون بعض..   
الصورة الفنيّة عند الأمير ( محمّد جربوعة ) لازمة من لوازم شعره ، وكأنّما القلم الذّهبي بيمنه يخطّ به ما يشاء، وريشة الفنّان التشكيلي بيساره يرسم بها ما يريد من عجائب الصّور.. ولا تجد في شعره صورا باهتة خفتت فيها الظلال والأنوار، فلا تستبين ملامحها، بل هي لوحات صارخة تزاحمت فيها الظلال والأضواء وحتّى يكاد كلٌّ منها يسعى على قدمين، بل إنّ ديوان ( وعيناه .. ) صار كمثل متحف فنّي لأجمل اللوحات التشكيليّة التي أنتجها عباقرة الفنّ التشكيلي في العالم، إلا أنّها هنا رسم فنّان واحد ساحر ؛ اسمه ( الأمير محمّد جربوعة ) من عين آزال ! ، حيث رضع لبان الجمال والبهاء والسناء كلّه، وعبّ منه في طفولته ما شاء له الله أن يعبّ .. !
ولا يتضح الكلام إلا بالتمثيل وإيراد الشاهد الحيّ ، ولنأخذ على ذلك أمثلة نجلّي بها ما نقول:
الصورة الأولى:
في قصيدة ( خطوات كيدكنّ لعظيم  في التسلل إلى القصيدة )؛ يصف الشاعر كيفيّة دخول إحدى المعجبات بحذر شديد إلى موقعه الإلكتروني للدّردشة معه فيقول: 
" تجيء رسالةً
( تمشي على مشط الأصابع ) .." هي رسالة في الدّردشة على صفحة تواصل أو بريد إلكتروني.. يصفها كأنّها امرأة تمشي على أصابع يديها، كناية على أنّ الرسالة تكتب بأصابع اليد على لوح مفاتيح الحاسوب أو الهاتف أو أيّه وسيلة من وسائل الأجهزة الحديثة التي اخترقت الآفاق وفاقت ابن بطوطة في رحلاته العجيبة.. !! ومن دلالة المشي على أمشاط الأصابع أيضا هو الحذر الشّديد.. وهي صورة أخّاذة بحقّ.
الصورة الثانية:
وهذه صورة موزعة على مشهدين متتاليين في قصيدته ( نسيان )[10] من أبدع ما يقول شاعر:
لا تمسحي عينيك في منديله *  * قد يهمس المنديل للأجفان
فيجنّ في ذكراه كحلّ دائم   * * وتذوب في منديله العينان
ترى كيف يهمس المنديل للأجفان..؟ وترى كيف تذوب العينان في منديله ..؟ أليس هذا شيئا مذهلا ، يبثّ في القلب الدّهشة والافتتان ..؟
الصورة الثالثة:
في قصيدته ( لو لم أكن شاعرا ) صورة مزلزلة حقّا، لا يمكن لمن يراها قراءة أو سماعا أن يمرّ عليها مرور الكرام، فإن فعل فهو من اللّئام، صورة تحبس لها أنفاسك وتقف فيها مرتلا زمنا غير يسير، يقول فيها الأمير:
أنا لم أطالب
مرّة أن تحلفي
أو أن تحطّ ( حمامة الحنّاء )
فوق المصحف..."
شيء رهيب حقّا ! يشبّه الشاعر كفّ المرأة المخضّبة بالحنّاء بحمامة الحنّاء، أي وصف بديع هذا ..؟ هل من يقرأ هذا الكلام يقف جامدا حقّا ، ألن يرقص له قلبه طربا..؟
الصورة الرّابعة:     
يقول في قصيدة ( حوار متوتّر بين قلبي والشاعر فيّ ) متحدّثا عن قلب المحبّ:
" القلب مهما نام
في عطر الصّبايا
أو تقلّب
لا يلام "[11] يختار الشاعر للقلب أن ينام في عطر الصّبايا، أيّ مشهد مذهل و( مجنن ) -بتعبير الأمير – هذا المشهد السّحري الذي ينام فيه القلب ( في عطر الصّبايا )..؟ أليس هو قلب لم يشأ أن يفترش لنفسه غير أرض الجنان ..؟
الصّورة الخامسة :
وفي القصيدة نفسها صورة أخرى لا تقلّ عنها دهشة ولا أسرا يقول فيها:
" دعني لآخر مرّة
أنهي بقايا البرق
في هذا الغمام " يشبه الشاعر اشتعال الحبّ في قلبه، بعد الأربعين ببقايا ( برق ) في غمام.. حبّ ينبعث من قلب كاد يدركه الخمول، أو هو هكذا يظنّ به .. !! ويمكن أن نشير هنا إلى أنّ الشاعر يستخدم كثيرا مظاهر الطبيعة المختلفة ، ليمنحنا صورة قويّة وفاتنة لا تتكرّر دائما وليست هي من معتاد الصّور ومألوفه..  
الصّورة السّادسة:
وهذه صورة يمكن أن نطلق عليها تسمية ( صورة متحرّكة ) أو لنقل صورة من مشهد سينمائي ساحر ، وهي مأخوذة من قصيدته ( الأميرة المتحجّبة )[12]:
"  فقفي قليلا في النّساء .. تبسّمي *  * وامشي إلي كغيمة.. لا تسرعي
فإذا بلغت العرش.. ألقي زهرة  *  * فوق الحرير وبسملي وتربّعي "
ألفاظه كأنّها ألفاظ بستاني متخصص في جني الورود وَوَضْعها في المحلّ الذي يليق بها من القلوب.. ! أو هو جوهري يتقن اختيار أنواع الزّبرجد والعقيق والعقيان..
الصّورة السّابعة:
 في قصيدته ( اعتراف ) وهي آخر قصيدة في الدّيوان يقول في آخر بيت أيضا، ليضع بصمة الختام الجميلة في ديوانه الرّائع هذا:
ولو يجوز بشرع الله، ناوية * * أبخّر الشعرَ بــ ( الجاوي ) من الحسد
بالله عليكم هل رأيتم شعرا يبخّر بـــ ( الجاوي ) من الحسد ..؟ وكأنّه شعر يخشى عليه العين كما يخشى على امرأة حسناء فاتنة.. !  
الصّور الشعريّة في ديوان ( وعيناها .. ) تزحم أبياته في كلّ فاصلة من فواصلها، وتجمّل معانيه حتى كأنّها صور تشكيليّة مُرْبِكَة فاتنة، والصور الفنيّة فيه تنقسم إلى قسمين:
الصور المعنويّة وهي أكثر الصور فيه. وهي ما دلّت على معنى مجرّد قائم في ذهن الشاعر لا يُدْرَك بالحوّاس الخمسة، وإنمّا يدرك بالفكر والإحساس. والصّور الماديّة هي ما كان منها تشبيها أو كناية أو غيرها مما يجسّد الصورة المعنويّة ويعطي لها بعدا مرئيّا أو مسموعا، فزيد ذلك في جمال التعبير وإشراقه..
3 – جماليّة التناصّ:
 وأكثره من القرآن الكريم، ولا يسوقه الشاعر متكلّفا يحشو به النّص حشوا، أو يدخله بين ثناياه فيصير النّص كأنّه خطبةَ وعظ وإرشاد ، وذلك ما عابه النّقاد في كتابات كثير من المبدعين الملتزمين ، وهم محقّون في جانب من جوانب نقدهم، فلا ينبغي الخلط بين الموعظة والنّصح، وبين النّص الأدبي الذي يبعث رسالة طبيعيّة تلقائيّة كالماء ينسرب مع النّسغ إلى جذور النّبات وسيقانه، فيسقيه ويغذّيه  ويخرج منه الزّهر والثمر..
أما عندما يضمّن الأمير شيئا من القرآن وما كان في مضمونه في نصّه الشعريّ أو جزءا من  حديث أو ما هو في معناه فإنّك لا تشعر بشيء نشاز دخل النصّ ، بل تراه لحمة واحدة لا يمكن أن تفرق بعضها عن بعض إلا باختلال النّص واضطرابه، والتناص هنا يضاعف من دلالة المعنى ويذكيه، ويزيد من جماله وجلاله.
ومن أمثلة ذلك التناص الفاتن نذكر بضعة أمثلة:
نبدأ بعنوان إحدى قصائده وهي القصيدة السّادسة كانت بعنوان ( خطوات كيدكنّ لعظيم في التّسلل إلى القصيدة )، والتناص هنا واضح جدّا يستند إلى قوله تعالى:
" فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " يوسف آية (28).
وقد رأيت أنّ سورة يوسف بآياتها الباهرة كانت محلّا للتناص عند كثير من الشعراء والأدباء والكتّاب ربّما بسبب أنّ سورة يوسف فيها قصّة هي من أحسن القصص في تاريخ الإنسانيّة، بأروع وأجمل وأبدع أسلوب.. !
وحتّى ( الأمير ) نفسه استخدم خاصيّة التناص مع قصّة يوسف في قصيدة أخرى من ديوانه وهي قصيدة ( لو لم أكن شاعرا ) وذلك في قوله:
" يا ( زليخا )
دون نسوان المدينة
في الزّمن اليوسفي ؟ "[13]
وزليخا اسم مشهور يطلق على امرأة العزيز والزّمن اليوسفي هنا يشير إلى الفتنة، فتنة النّساء، وفتنة الغربة وفتنة السّجن معا، لكنّه في الوقت ذاته يشير إلى الطّهر الإنساني والسموّ الإيماني الذي ترفّع عن السقوط في الشهوات ولم تغوه شهوة عابرة تهدم ما بينه وبين الله، ولذلك قال:
" إنّه ربيّ أحسن مثواي " على تفسير أنّ لفظ ( ربّي ) المقصود به الله تعالى.. طبعا هذا الكلام لا يُعْجِبُ كثيرا من دعاة التفسّخ والوسخ والرذيلة التي يسمونها بغير اسمها، ويُموّهون على النّاس الحقّ، فيزعمون أنّ قمّة الإبداع هي في كسر الطابوهات الثلاث ( الدّين والجنس والسّياسة )، وأكثر ما يشغلهم الجنس فيعبّون في حمأته حتّى الثمالة، ثم يغمزون الدّين من طرف خفيّ ويشنّعون على صاحب الفطرة السليمة إذا غضب لدينه، أو صرخ بملء فيه أن اكبحوا جماح غيّكم..
ومن جميل التناص أيضا في ديوان ( الأمير ) قوله من قصيدته ( قولي له ):
" أترى النّساء
كزمرة الشعراء ( في القرآن )
أيضا
شاطرات في التكلّم ..."[14] وفيه إشارة إلى قوله الله تعالى:
" وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ " سورة الشعراء  224         
فشبّه الشاعر غواية النّساء بغواية الشعراء ، وهي غواية كلام بالدّرجة الأولى، ثمّ يتلوها ما يتلوها بعد ذلك من ألم ووجع وآه وشكوى.. وأن يجمّل الشاعر أبياته بمثل هذا الاقتباس التلقائي يزيد شعره قوّة معنى وزيادة جمال وأسر..
وفي خطاب للمرأة المفتونة بشعره يقول لها ناصحا:
" لن تفهمي ( تقويم عام الشعر )
إن لم تخلعي نعليك
في باب الجمل ..."
وهو أيضا فيه استمداد واضح من قوله تعالى:
" فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى " سورة طه آية 12
الثقافة الدّينيّة وروح التدّين:
ويمكن أن نضيف إلى روح التناص مع القرآن الكريم أو الحديث، لغة الروح الدينيّة التي يبديها الشاعر بكلّ جرأة واعتزاز ، ودون شعور بعقدة النّقص أو الخوف من أصابع النّقد التي تشير بالتشنيع على كلّ من يوظّف التّدين بشكل إيجابي في نصّه الإبداعي، ونجد جلّ نصوصه ترصعها تلك الروح وذلك السّمت الدّيني البهيّ، وهذه أمثلة منتقاة من الدّيوان:
-       يُعَنوِنُ إحدى قصائده بكلّ جرأة وفخر ( الأميرة المتحجّة ) ويمتدح حجابها ويجعلها بحجابها الشّرعي من أجمل النّساء ، يقول في تلك القصيدة:
كانت تقول لهنّ لستِ جميلة * * بحجابك الشرعيّ أو بالبرقع
هي في الأخير تغار منك بشدّة * * وهنا، لعلمك.. حاولت دهرا معي.
بل لا يكتفي الشاعر بدعوة المرأة إلى الفخر بحجابها إنّما يشترط عليها البرقع أيضا ( الذي يظنّه المستغربون دليل تخلّف وقلّة ذوق ) ليزداد جمالها وسناءها، وذلك في القصيدة التي سبقت قصيدة ( الأميرة المتحجّبة ) والتي هي بعنوان ( عينا امرأة سياسيّة ) فيقول:
لا تظهري عينيك .. خافي ربّنا * * وتعبديه بآية الجلباب
ولسوف يبقى كلّ ذلك ناقصا * * لا ينفع الجلباب دون نقاب
والشاعر رغم انغماسه في التغزّل وإبداء أشواقه العاطفيّة فهو لا يخفي روحه الدينيّة الملتزمة ، ولا يرى أنّ الغزل العفيف يتنافى مع الدّين، ولذلك فهو يضع النّقاط على الحروف قائلا من قصيدته التي ذكرنا آنفا بعنوان ( عينا امرأة سياسية ):
أنا يا خطيرة، شاعرٌ متديّن * * منذ الصّبا، تربيّة الكتّاب
الشعر عندي سجدة موزونة * * ألقى بها الرّحمن يوم حسابي
كما يستعمل الشاعر كثيرا لغة الفتوى والمفتين، ومصطلحات علم الحديث بطريقة فذّة، تجعل من البيت الشعري شعلة من النّار المتوقّدة، على طريقة ذلك الشاعر الذي قال:
سل المفتي المكي هل في تزاور * * ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى* * تلاصق أكباد بهنّ جراح
وهو شعر لطيف يُستأنس به في مجال الحديث عن الحبّ والغزل، ونجد هذه الخاصيّة في شعر محمّد جربوعة بشكل لافت ومميّز وقد أفاض فيها الأمير كثيرا وجمّل بها شعره أيّما تجميل.. ! نذكر من ذلك مثلا:
قوله من قصيدة ( أسرار النّساء ):
ذاك الذي أفتى الشيوخ بمنعه * * لضعيفة، أو ذات قلب مرهق.  
القَامُوسُ اللُّغَوِيُّ فِي الدِّيوَان:
لا شكّ أن الأستاذ محمّد جربوعة رجل لغة من الطّراز الأوّل، فهو ليس ممن يُتَصيّد له الزّلات والهَنات اللّغويّة، هذا غير وارد أبدا ، وإن وُجد شيء ( مشكل ) من لغة في ديوانه أو شعره عموما، فهو قَصَدَه وعمد إليه وله فيه وجهة نظر واجتهاد خاص، وما يلفت الانتباه هو قدرته الفائقة على تطويع اللغة حتّى صارت كالعجينة بين يديه يشكّلها، ويرسم بها ما شاء من صور ومعان رائعة دون اللّجوء إلى شيء من التكلّف أو استكراه الألفاظ والتراكيب، وينساب في شعره مثل الشّلال المتحدّر هدّارا مرّة ، وهادئا رائقا مرّة ثانية..
ولغته في ديوانه هذا مشكلّة من عناصر عديدة يمدّ بها فكرته وصوره الفنيّة، ويمكن أن نحصرها في العناصر التّالية:
1        - القاموس اللّفظي المستعمل:
معظم المعجم اللّغوي لشعر( الأمير ) في هذا الدّيوان هي من الألفاظ الشائعة في لغة المدرسة والصّحافة والإعلام وعامة المثقّفين، هذا من حيث المادّة اللغويّة الصرفة ( رغم ما للأمير من باع طويل في اللّغة ) فكان هذا اختياره، وهو في هذا متأثر بالشاعر السوري الكبير نزار قبّاني والشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش، والشاعر نفسه يذكر ذلك ويعتزّ به، يقول في قصيدة ( الطريق إلى اللازورد ):
" وتشعر أنّك في كلّ بيت
إذا قرأتْ لنزار، لدرويش
أو يهمس الشعراء.." وقد صرّح الشاعر بتأثره بنزار ودرويش مرّات عديدة فيما يكتبه على صفحته بالفايس بوك. 
2       – استِخدَامُهُ للدَّارِجِ الفَصِيح:
يَشِيع في ديوان ( وعيناه .. ) استخدام الشّاعر للفصيح مما يستخدم في كلام العامّة سواء، العامي الجزائري أو بعض البلاد العربيّة وهو يقصد إلى تقريب اللّغة من القارئ العادي وإيصال الرّسالة الشعريّة له من أقرب سبيل..
ونذكر من ذلك أمثلة ونعلّق عليها:
 " لست نائمة على أذني
في طست العسل .." وفي موضع آخر من الدّيوان:
" ... و( على نيّاتي ).. أشبه النّساكا.." من قصيدة ( عن متهمة تجمع أدلّة الإثبات ).
وعنوان قصيدة من الدّيوان على هذا المنوال وهو ( اعترافات طفلة تغرق في شبر ماء )، وعبارة الغرق في شبر ما أو شبر من قصيد أو شعر ؛ استعملها الشاعر أكثر من مرّة.
وفي قصيدة ( لو لم أكن شاعرا ) يختمها بقوله " قلبي يحدّثني بأنّك متلفي " وفي قصيدة ( ما في حدا ) قوله: " لا يحسّ الجمر إلا .. وأيضا عبارة: " أشبع لي غروري "... "
بالإضافة إلى العبارات العاميّة الفصيحة هناك حشدٌ كبير من الألفاظ العاميّة الصرفة والتي وضعها الشاعر بين قوسين تنبيها لذلك، ولا شكّ أنّ الشاعر أراد أن ينكه شعره بتلك الألفاظ لأنّ لها وقعا خاصا في أذن القارئ والمستمع.. ومن تلك الألفاظ نذكر:
" كتالوجي / يصطفل/ شاطر وشاطرات/ جزدانها / فضفضي/ يحرق حريشه/ خرطت مشطي ".    
لُغَةٌ عَالِيَةٌ:
برغم استخدام الشّاعر لقاموس لفظي معتاد وسهل على المتلقيّ العادي، يفهمه المثقّف البسيط والمتخصص، وعامّة النّاس؛ إلّا أنّه رغم ذلك في الدّيوان عبارات وألفاظ من النّسق العالي الذي يتعالى بثقافة النّاس ومستواهم اللّغوي بلطافة ويسر.. ونقتطف أيضا زهرات عبقات من تلك الألفاظ والعبارات القويّة والمتينة في قاموسه اللغوي الذي أثّث به هذا الدّيوان:
كلمة شزر من قوله:
" وأطلق العين في عينيه في شزر "
وكلمة ( لبُئِيّة ) على شاكلة ( أسديّة ) في قوله:
" بلهجة لبُئِيّة " وهو اشتقاق قليل الاستعمال.
وكذلك كلمة ( فالرّبمات ) وهو اشتقاق من ربّما ليس مألوفا ولا مستعملا..
وجملة جميلة جدّا فيها كلمة الدّعج وهي قوله ( أدعجيّ النّصل )، دلالة على جمال العينين القاتل.واستعماله مرارا لمشتقات لفظ البؤبؤ ( البآبئ ، وبؤبؤ ، هاتيك، السيكتب ، تلملم ، تلجلجت، يرتعي ، مرصّع ، المترع ، المفزع ، السّلون.. ).
وطبعا في استعمال هذا القاموس اللّفظي إثراء لثقافة القارئ والمستمع المحبّ للشعر، المتابع للأمير في عطائه الدّافق، وفيه نوع من الحفاظ على العربيّة في شكلها القويّ الرّصين..  
جمال المرأة:
في ديوان ( وعيناها .. ) يظهر جمال المرأة جمالا أخّاذا ، محتشما لا يتجاوز ( الكحل ، والحنّاء والعطر ووسوسة الأساور والخلاخيل و " جذبة " الأقراط في قلب الشّاعر، وكأنّي بالشاعر حين ينشد شعره يقف عند حدّ قوله تعالى:
" وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا "[15]
ويحفل الشاعر كثيرا في قصائده بالكحل والعيون إلى درجة أنّه لا يكاد يخلو نصّ منهما، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة ( الأميرة المتحجّبة ):
وأظنّ أنّي اخترت فيك منيّتي * * وأظنّ كحلك في الدّروب مضيّعي.
وفي قصيدة ( نسيان ) يقول:
فيجنّ في ذكراه كحل نائم * * وتذوب في منديله العينان.
وعددت له أكثر من ثمانين مرّة استعمل فيها كلمة ( عين ) بكلّ مشتقاتها وصيغها، فضلا عن لوازمها من بكاء ونظر ودعج وبآبئ وغيرها مما يدلّ عليها، وهذا ما يفسّر مرّة أخرى عَنْوَنَة الدّيوان بـهذا العنوان الغارق في الإيحاء ( وعيناها..) الذي لا يُشبَع من قراءة قصائده.
ويكثر الشاعر أيضا من ذكر ما يدلّ على جمال المرأة الطبيعي السّاحر ، الذي يتفوّق على وسائل الزّينة الأخرى لاسيما العصريّة منها.. رغم أنّ الشّاعر في عصر صارت فيه أدوات الزينة تجعل من المرأة الشمطاء ( الحيزبون ) وكأنّها لوحة فنيّة معروضة في متحف (اللّوفر).. ولكنّها رغم ذلك هي لوحة فنيّة زائفة، تنماث ألوانها بأدنى اختبار لمقاييس الجمال الأصليّة..
ولذلك لا يلتفت الشاعر إلى تلك اللّوحات " الفنيّة !! " الزّائفة ولا يعيرها أدنى اهتمام ، إنّما اهتمامه منصبّ على الجمال الطبيعيّ الآسر.
وبعد..
بين أيدينا ديوان هو تحفة شعريّة ( فنيّة ) بحقّ ، لا يمكن الإحاطة بكلّ جمالياته وصوره في دراسة واحدة مهما حلّلته من جوانبه المتعدّدة ، ولذلك أنا أرفع صوتي عاليا إلى طلبة الجامعة والدّارسين أن يكون هذا الدّيوان وغيرُه من دواوين الأمير ؛ محلّ رسائل جامعيّة أكثر تفصيلا وتفتيشا عن كوامن الجمال والإبداع الثّر فيه..
وأختم بقطفتين مذهلتين للأمير في هذا الدّيوان :
القطفة الأولى:
" أنت لم تفقد عيون الطّفل
في هذي السّنين القاحلة "[16]
القطفة الثانية:
يا ليتها قالت:
((وبعد الزّهر
يبقى
من براءته العبير ))[17]. يبقى بعد الشّاعر من براءته عبير الشعر وشذاه..


[1] - مقدّمة ديوان ( وعيناها.. ) ص 5.
[2] - المرجع نفسه ص 6
[3] - الدّيوان ص 53.
[4] - الدّيوان ص 106.
[5] - لفتت انتباهي هذه الفكرة منذ زمن طويل، ثمّ غفلت عنها لسبب ما ، إلى نبّهتني إليها ثانية إحدى الأستاذات الفاضلات ..
[6] - وقد يقول قائل هنا : هذا كلام عاطفي خارج عن إطار الدّراسة والنّقد ، وأقول: لا أحفل بذلك .. أنا أبدي عاطفتي جيّاشة نابضة بالوجد إذا هزّني نصّ أدبي طربا وبثّ القشعريرة اللّذيذة في كامل أوصالي.
[7]  -  كثيرا ما يستعمل الشاعر بعض ألفاظ اللّهجة الشّامية في هذا الدّيوان، رغم أنّه جزائري، إلا أنّه عاش ما يقارب سبع عشرة سنة في بلاد الشّام ( سوريا ).
[8] - وأنا أقترح على الأمير أن يفرد قصائده التي يمدح فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بديوان خاص.
[9] - سمّاها الشاعر ( مسلسلا شعريّا )، وهي في حقيقة يمكن أن نصنّفها رواية شعريّة بامتياز. وهو نوع من الروايات الجديدة التي نشبه أيضا المسرحيّات الشعريّة التي كان يكتبها أحمد شوقي، لكن اختلفت عنها في بعض الخصائص ما جعلها منها إلى الرواية أقرب.
[10]  - الدّيوان ص 65.
[11]  - الدّيوان ص 26 .
[12] - الدّيوان ص 50
[13] - الدّيوان ص 127 / 128 .
[14] - الدّيوان ص 18.
[15] - من الآية 31 من سورة النور
[16] - الدّيوان ص 136
[17] - الدّيوان ص143

هناك تعليق واحد:

ميهوبي البجليط ويستقيل قبلك يقول...

http://www.rewity.com/forum/t341761.html#post11014636
بحرفية

ن ملتقى اهل اللغة واكاديمية الفينيق بين السار والمحزن
http://etudiant-marocain.top-forum.net/t178-topic#298
http://alameria.montadamoslim.com/t3840-topic#5727
ممكن ياتي اليوم الذي يتبرا فيه المغاربة الشرفاء من وليدات وجدة وبيادقتهم الذين اساؤوا للمغرب الشقيق
للتحميل
2shared.com/file/yJZvwyLe/_______.html

مع
مساجلات شعرية طريفة - ملتقى مشاركتي أهل اللغة لعلوم اللغة العربية بالتوازي

2shared.com/file/Tb98UkVQ/___-________.html

مع البراءة من المقولة فلسطين للفلسطينيين ولن نكون فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين