عبد الحميد مـهـري وجهوده الفكرية من خلال جريدة«المنار»الجزائرية
-جامعة عنابة-الجزائر
كتب المفكر والمجاهد الكبير الأستاذ عبد الحميد
مهري(3
أبريل1926 - 30
يناير2012م)-عليه رحمة الله-مجموعة من المقالات المتميزة بجريدة«المنار»الجزائرية
العريقة، وهي واحدة من الجرائد الجزائرية المتميزة جداً،التي ساهمت
مساهمة فعالة في بث الوعي الوطني وروح الثورة ضد الاستعمار الفرنسي،وقد أنشأها
الأستاذ محمود بوزوزو،و برز العدد
الأول منها بتاريخ: الجمعة 21 جمادي الثانية 1370 هـ - 29 مارس 1951 م ،وتوقفت عن الصدور في يوم
الجمعة26 ربيع الثاني 1373 هـ-الموافق لأول يناير1954م(العدد
الواحد والخمسون).
وقد كتب بجانب اسم الجريدة،جريدة سياسية ثقافية دينية حرة،نصف شهرية
مؤقتاً.
ويتضح
للمطلع على فهرست جريدة«المنار» أن الموضوع الذي كان يستحوذ
قدراً كبيراً من اهتماماتها،و يشغل حيزاً واسعاً من صفحات الجريدة هو موضوع الحركة الوطنية على مستوى المغرب العربي،حيث نلفي عدداً كبيراً من المقالات
تركز على الحركات التحررية في دول المغرب العربي،وأغلب المقالات تنتقد بشجاعة
نادرة في ذلك الزمن ممارسات الاستدمار الفرنسي وجرائمه ضد سكان المغرب العربي،كما
نلفي في الكثير من المقالات دعوات واضحة لإعلان ثورة شاملة في المغرب العربي
للتحرر من مظالم الاستعمار الفرنسي.
وهذا ما جعل الكثير من الدارسين والمؤرخين يذهبون
إلى أن الجريدة الوحيدة التي نظمت استفتاء حول اقتراب اندلاع ثورة التحرير المظفرة
هي جريدة«المنار» الجزائرية لصاحبها محمود بوزوزو-رحمه الله-،و نستشهد في هذا
الصدد بقول الأستاذ
بشير كاشه الفرحي: «...هذه الثورة العظيمة التي سجلت أكبر انتصار على أعظم قوة عسكرية
في العالم(فرنسا المدعومة بالحلف الأطلسي
والعالم الغربي كله)،سبقتها ثورة ثقافية تبارت فيها الأقلام
وتصارعت فيها الأفكار لاستنهاض همم جميع فئات الشعب وتجنيدها للمطالبة بحق تقرير
المصير والاستقلال.ولتحقيق هذا المطلب الجماهيري نظمت جريدة«المنار»الوطنية
استفتاء هو الأول من نوعه في الجزائر لسبر آراء النخبة المثقفة حول الأمر العظيم
الذي ستقدم عليه الحركة الوطنية المتمثل في اقتراب موعد الإعلان عن الثورة المسلحة
لتحرير الوطن من الاحتلال الفرنسي،الذي طال أمده في بلادنا ولا ينسحب منها إلا عن
طريق الكفاح بالثورة المسلحة، والأسئلة هي:
1-هل تعتقدون إمكانية الاتحاد في
الجزائر؟
2-على أي أساس؟
3-ما هي الوسائل لتحقيقه؟
أجاب على هذه الأسئلة واحد
وثمانون(81)كاتباً جزائرياً بمقالات مطولة وهم من فئات:المعلمين والأساتذة،شعراء وأدباء
وسياسيين وطلبة جامعيين».
طُبعت جريدة«المنار»
ضمن سلسلة التراث الأولى،وصدرت عن منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
بالرغاية،الجزائر سنة:1982م.
كما انتقى الأستاذ الباحث بشير كاشه الفرحي من جريدة«المنار» الكثير من المقالات التي تتصل بتاريخ الحركة
الوطنية الجزائرية،وصدرت في طبعة خاصة عن وزارة المجاهدين،منشورات المركز الوطني
للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر1954م،بمناسبة الذكرى
ال55لاندلاع الثورة الجزائرية،تحت عنوان:«صفحات مشرقة من تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية(1951-1953م)-جريدة المنار نموذجاً-».
ومن
يطلع على المقال الافتتاحي الأول يتبين له نهج الجريدة وأهدافها،حيث كتب الأستاذ
محمود بوزوزو ما يلي: « أيها
القارئ الكريم
كانت في النفس أمنية قديمة ترمي إلى خدمة الرأي العام
الجزائري في نطاق واسع، ولكن حالت دون تحقيقها حوائل صرفت الهمة إلى خدمة الأمة في
ميدان خاص.
وكانت هذه الأمنية تحوم حول إصدار مجلة تشمل جميع ميادين
الحياة الجزائرية، بحيث يجد فيها العالم ما يزيده إيمانا بالحقائق العلمية،
والسياسي ما ينبه حاسته السياسية، والأديب ما يذكي قريحته، والشاعر ما يلهم
عبقريته، والفنان ما يشجعه، والتلميذ ما يزيده شغفا بالدرس، والمرأة ما يقوي
شعورها بمسؤوليتها، والمتدين ما ينعش روحانيته، والشباب ما يزيد همته علواً.
وما زالت
الأمنية تلح في البروز للوجود حتى يسر الله تحقيقها، وها هي اليوم تبرز في ثوب
جريدة، ريثما تتيسر الأسباب للمجلة المرجوة.
وقد سميتها«المنار»تفاؤلا ورجاء أن يؤتيها الله نورا من لدنه، تنقشع به الظلمات الحالكة التي
تخيم على أمتنا في جميع الميادين، وسيرسل«المنار»أشعته تطارد الظلام أينما حل، وتنير السبل للسائرين، أنى كانت وجهتهم،
السياسة، أو الثقافة، أو الدين ، أو الحرية.
فالمنار جريدة
سياسية، ثقافية، دينية، حرة.
-المنار: جريدة سياسية،وللسياسة رسالة،وهي السير
بالمجتمع إلى إقامة أسمى نظام يكفل لجميع أفراده ذكوراً وإناثاً الأمن والهناء،و
حفظ الكرامة،و نمو المواهب بحرية تامة،و العمل في ظل الطمأنينة.
-المنار:جريدة ثقافية،وللثقافة رسالة،وهي السير بالفكر
البشري إلى إدراك حقائق الأشياء،والأحياء،واستغلالها لفائدة الإنسان.
-المنار:جريدة دينية،وللدين رسالة،وهي السير بالبشرية
إلى تحقيق معاني الرحمة والحب،وتسخير الحقائق الأرضية للحقائق السماوية.
-المنار:جريدة حرة،وللحرية معنى وهو عدم التقيد بإرادة
أحد،وعدم الخضوع لجبروت أحد،والسير بالاختيار المطلق مع الوقوف عند حدود الله
وحرمة الغير.
-المنار:يرى أن رسالة الصحافة هي خدمة الحق وتنوير
الأفكار وإنعاش الضمائر ورفع مستواها،وتوجيهها إلى الخير، والمنار يؤكد استناداً
على الحقائق الجغرافية والتاريخية والجنسية أن الجزائر جزء لا يتجزأ من المغرب
العربي الذي هو جزء طبيعي من العالم العربي والإسلامي»(ينظر:محمود
بوزوزو،المنار وأهدافه، الجمعة 21 جمادي الثانية 1370 هــــ - 29 مارس 1951 م، منشورات
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالرغاية،الجزائر سنة:1982م،ص:01 ).
وبالنسبة إلى الأسباب التي دفعت الأستاذ محمود
بوزوزو إلى إنشاء جريدة«المنار»،فقد كشف عنها في المقدمة التي
كتبها في جنيف بتاريخ:1جمادى الأولى1402هـ-الموافق ل25فبراير1982م،حينما قررت
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالرغاية إعادة طبع جميع الأعداد التي صدرت من الجريدة
في مجلد خاص، فالفكرة ترجع إلى عام:1950م،عندما عرض عليه مجموعة من أصدقائه الذين
ينتمون إلى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية إصدار جريدة وطنية غير متحزبة تكفل
لها حقوق الطبع والتوزيع مع استقلال التحرير بشرط بث الروح الوطنية في عموم
البلاد.
يقول
الأستاذ محمود بوزوزو عن ظروف نشأتها ومختلف المصاعب والعوائق التي واجهتها:«وهكذا نشأت جريدة«المنار»...
ومبادئها مبسوطة في العدد الأول منها،وأهمها نبذ التعصب القائل(من
ليس معي فهو ضدي)والاعتراف لكل ذي فضل بفضله عبر التاريخ
الوطني.ومن مبادئها تحاشي إثارة الخلافات بين أبناء الوطن والسعي لجمع
الكلمة في سبيل التحرر من الاستعمار،والدعوة إلى الوحدة المغربية،بما أن أقطار
المغرب الثلاثة كانت تحت نير استعمار واحد.والإيمان بالوحدة المغربية هو الذي
دعانا إلى العناية بقضية المغرب الأقصى والوقوف إلى جانب ملكه المرحوم محمد الخامس
حين حاولت سلطات الحماية الفرنسية الضغط عليه لتحمله على التوقيع على ظهير منافٍ
لكرامة المغرب الأقصى وسيادة ملكه.فكانت عنايتنا هذه المتجلية في الأعداد الأولى
من الجريدة سبباً في منع(المنار)من دخول المغرب الأقصى،غير أنها كانت تتسلل إليه بطرق خفية...وإيماننا
بالوحدة المغربية هو الذي دعانا إلى الإعلان بأن قضية المغرب واحدة وكفاحه واحد في
مقال افتتاحي كان سبباً في استنطاق الشرطة الاستعمارية لنا.وكان الباعث على كتابته
أن زعيماً لقطر شقيق ادعى أن قطره لن يحصل على استقلاله إذا ربط كفاحه بكفاح القطر
المجاور الشقيق الجزائر،لأن الحماية في نظره أخف حملاً وأقرب زوالاً من الاستعمار
المطبق في الجزائر.وكان المقال الذي كتبناه سبباً في منع توزيع الجريدة في القطر
التونسي.
أما فيما يخص القضية الجزائرية فكانت العناية
متجهة إلى المساهمة الحثيثة في نشر الوعي الوطني وإحياء الشخصية الجزائرية
بمقوماتها وأهمها الدين الإسلامي.والسعي إلى توحيد الصفوف كما هو مشاهد في عدد من
المقالات،وكما يشهد به الاستفتاء العام الذي أثار اهتماماً كبيراً في الأوساط
المختلفة وتطلعاً إلى الوحدة المنشودة وأملاً في تحقيقها...ولا يفوتنا أن نذكر ما
لاقيناه من المتاعب في الطباعة،وهو أمر لا يعلمه إلا الله وأصحاب المطبعة،إذ لم
تكن في هذه المطبعة آلات حديثة،إنما هي حروف منفصلة يركب الطابع الكلمات بوضع حرف
إلى جانب حرف حتى يملأ السطر وفي ذلك من البطء ما فيه، فإذا ركب خمسة سطور أو ستة
رفعها بأصابع يديه ليضعها على لوحة الطباعة،وأحياناً تسقط من بين أصابعه
فتتفكك،ويعيد تركيبها من جديد الأمر الذي لا يخفى على القارئ الكريم ما فيه من الإبطاء في طبع الجريدة ووصولها إلى
القراء...وإذا أضفنا إلى هذا صعوبة الحصول
على الورق أدرك القارئ مدى عسر الظروف التي كان يجري فيها هذا الكفاح»(ينظر:مقدمة
الأستاذ محمود بوزوزو،منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالرغاية،الجزائر
سنة:1982م،ص:03-04 ).
ويتوجه الأستاذ محمود بوزوزو في
ختام مقدمته بالشكر الكبير إلى الأستاذ محمد محفوظي الذي ساهم مساهمة كبيرة في الطبع
والتمويل والتوزيع والتحرير، ويثني كذلك على المناضل الأستاذ محمد قنانش الذي ساعده مساعدة
كبيرة في مدينة تلمسان.
ووفق منظور الباحث بشير كاشه الفرحي،
فالخط الافتتاحي لجريدة«المنار» وطني وعربي وإسلامي وثوري يطالب بحق تقرير مصير الشعب
الجزائري،والاستقلال التام للجزائر،وهو نفس الفكر التحرري الذي يعتقده مناضلو
الحركة الوطنية الجزائرية ويكافحون لثلاثة عقود(1926-1954م)من أجل استرجاع الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية للشعب الجزائري،وإلى جانب
هذا الموضوع الرئيس الذي يتصدر الصفحة الأولى لكثير من أعداد الجريدة،فهي مدبجة
بمقالات أدبية وغيرها لكُتاب سياسيين وأساتذة،وطلبة جامعيين الذين يدرسون خارج
الوطن في بعض البلدان العربية وفي فرنسا.
وعن الموضوعات السياسية التي احتوتها جريدة«المنار»،يقول
الباحث كاشه الفرحي«في المجال السياسي،فقد سال الحبر الكثير على أعمدة الجريدة حول
قضايا بلدان المغرب العربي الكبير(مراكش-الجزائر-تونس-ليبيا)وكذا مصر وثورتها بقيادة محمد نجيب،غير أن الموضوع الذي أولته جريدة«المنار»عناية
خاصة وتابعت مجرياته،هو موضوع تأسيس«الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها»بتاريخ
الخامس من شهر أوت1951م التي تكونت من ثلاثة أحزاب سياسية،وهيئة إصلاحية،تربوية
ثقافية،وشخصيات مستقلة وهي:
1-الاتحاد
الديمقراطي للبيان الجزائري.
2-حركة
الانتصار للحريات الديمقراطية.
3-الحزب
الشيوعي الجزائري.
4-جمعية
العلماء المسلمين الجزائريين.
5-الشخصيات
المستقلة غير المتحزبة.
استبشر الناس بظهور هذه الجبهة في الميدان،حين
عقدت اجتماعات ونظمت مهرجانات،غير أن مطالبها اقتصرت على خمسة،وهي:
1-إلغاء
الانتخابات التشريعية التي جرت في:17جوان1951م بعد أن ثبت تزويرها.
2-احترام
حرية الانتخابات في القسم الثاني للبلديات والولايات التي ستنظم
يومي:07و14أكتوبر1951م.
3-احترام
الحريات الأساسية: (حرية العقيدة-حرية التعبير-حرية
الاجتماع-حرية الصحافة).
4-محاربة القمع بجميع
أنواعه،و إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
5-رفع التدابير
الاستثنائية المفروضة على الزعيم مصالي الحاج.
تجاهلت سلطات الاحتلال جميع هذه المطالب،وتأكد
فشل هذه الجبهة فحلت نفسها بنفسها»(ينظر:مقدمة الأستاذ
بشير كاشه الفرحي لكتاب:«صفحات مشرقة من تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية(1951-1953م)-جريدة المنار نموذجاً-»منشورات المركز
الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول
نوفمبر1954م،سنة:2010م،ص:12-13).
وما
يلفت الانتباه في جريدة«المنار» اهتمامها الكبير بمختلف
الإبداعات الأدبية،وتخصيصها لمساحة كبيرة لتغطية مختلف الأنشطة الثقافية،وقد أكد
الأستاذ محمود بوزوزو على أن جريدة المنار تعمل في سبيل إحياء التراث الفكري المغربي، واستثارة كنوز الثقافة المغربية، وتدعو
إلى ثقافة عصرية مشربة بالروح التقدمية، وذلك بنقل كل صالح من الشرق والغرب في
القديم والحديث، فليس كل القديم باليا فاسدا، وليس كل الحديث رائقا صالحا، وتدعو
إلى الابتكار حتى يكون لنا إنتاج فكري جدير بالتقدير والاعتبار.
ووفق
رؤيته للثقافة الحقة فهي عامل من عوامل التفاهم والتقارب والسلام، لأنها تسمو
بالفكر عن الاعتبارات الصادرة عن الغرائز العمياء، والأغراض السافلة، وترفع
الإنسان إلى الاعتبارات الإنسانية العليا، وبناء الحكم على الأشياء والأحياء حسب
مقاييس صحيحة معقولة، وتوجه السلوك البشري إلى ساحل النجاة.
عبد الحميد مـهـري
وجهوده الفكرية من خلال جريدة«المنار»الجزائرية
1-فرحات
حشاد المناضل:
من
بين المقالات المهمة التي كتبها الأستاذ المفكر عبد الحميد مهري ذلك المقال الذي
خصصه للحديث عن شخصية الزعيم النقابي والمناضل السياسي التونسي المعروف فرحات حشاد(2 فبراير
1914-5 ديسمبر 1952م) الذي أسس الاتحاد
العام لعمال تونس سنة:1946م،بعد أسبوع على اغتياله من
قبل عصابة«اليد الحمراء» الإرهابية المدعومة من قبل سلطات الاستعمار
الفرنسي،حيث نُشر
مقال الأستاذ الكبير المجاهد عبد الحميد مهري في العدد:13 من جريدة«المنار»السنة الثانية،يوم: الجمعة26 ربيع الأول1372هــــ-12ديسمبر1952م.
وقبل تقديم رؤية رجل الإجماع الوطني لشخصية
فرحات حشاد، نشير إلى أننا عندما نقرأ المقال
الذي كتبه الأستاذ عبد الحميد مهري عن شخصية الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد،ونتذكر
شخصية المناضل الفذ عبد الحميد مهري صاحب الأخلاق العالية،نحس وكأن الأستاذ عبد
الحميد مهري يصف نفسه، فقد اهتم الأستاذ عبد الحميد مهري في هذا المقال الذي جاء
تحت عنوان:»فرحات حشاد المناضل«اهتماماً
بالغاً بالأبعاد الأخلاقية في شخصية المناضل فرحات حشاد،ويمكن أن نصف مقال الأستاذ
الكبير عبد الحميد مهري بأنه بمثابة مرثية لشخصية فرحات حشاد كتبها وهو في غاية
التأثر بعد مضي أسبوع على استشهاد المناضل الكبير والمجاهد الفذ فرحات حشاد،يقول
الأستاذ عبد الحميد مهري في مستهل مقاله: »لم يمنعني الحزن العميق لاغتيال
المرحوم السيد فرحات حشاد من التفكير في شخصية هذا الفقيد الشهيد وأعماله العظيمة
لفائدة بلاده،بل لعلني كنت أجد في إحياء ذكراه في فكري واستعراض أعماله بعض ما
يسليني عن مصاب تونس العزيزة ومصاب المغرب العربي في هذا الرجل العظيم.
وقد حدا بي التفكير إلى التساؤل عمن يستطيع أن
يخلف فرحات حشاد ذلك المناضل البسيط المتواضع الذي لا يلفت أنظار الناس إليه
بمنظره،وإنما يلفت أنظارهم بأعماله التي تطير أنباؤها إلى مختلف أطراف البلاد
التونسية،وتتجاوز أحياناً حدود البلاد التونسية إلى أطراف العالم.
هذا المناضل البسيط المتواضع لا يمكن أن يخلفه
أحد بعينه.لأن شخصيته الفذة وأفكاره النيرة وأعماله العظيمة طبعت جيلاً كاملاً من
الشغالين التونسيين وتركت خطة واضحة المعالم لرفاقه المقربين ومساعديه
الأوفياء،فهذه النخبة المختارة من مساعديه وهذا الجيل الذي طبعه فرحات حشاد بطابعه
الخاص هو الذي يخلف فرحات حشاد ويضطلع بإتمام رسالته في البلاد التونسية«.
إن الأوصاف التي أطلقها الأستاذ عبد الحميد
مهري من خلال هذه الكلمة التمهيدية تنطبق أتم الانطباق على شخصية الأستاذ عبد
الحميد مهري الفذة،وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل الإعلاء من شأن الأمة
الجزائرية والنهوض بها،فالأستاذ عبد الحميد مهري-رحمه الله- رزئت بفقده الأمة
الجزائرية والعربية كلها،لأنه كرس حياته في سبيل خدمتها منذ النشأة إلى الأيام
الأخيرة من حياته،فهو ابن الجزائر البار
الوفي والمخلص والغيور على قيم وثوابت الأمة الجزائرية،وما ذكره عن شخصية فرحات
حشاد،وإشادته بشخصيته الفذة وأفكاره النيرة وأعماله العظيمة،إضافة إلى تأكيده على
بساطته وتواضعه،يذكرنا بشهادة شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد
الله التي أدلى بها عن شخصيته الفذة،ولا سيما بقوله«...كثر
هم الزعماء الذين نسجوا حول أنفسهم هالة الزعامة بحق أو بغير حق.أما عبد الحميد
مهري(رحمه الله)فهو زعيم بالطبيعة
رغم أنه ابتعد عن الهالة،ولكنها بحثت عنه وأحاطته بضوئها.فأنت إذا رأيته في تواضعه
تقول ما أبعده عن الزعامة التي يتبختر في حللها الأدعياء،ولكنك إذا تأملت في عمق
تفكيره وطريقة إقناعه حكمت بأن الزعامة خلقت له أو خلق لها...
وأقول
بالمناسبة إن سي عبد الحميد مهري بعيد عن الحماس والاندفاع،فلا تراه يقذف قادته أو
زملاءه بالتهم المباشرة أو يكيل لهم المدح والثناء،أو يجعل من نفسه بطلاً والآخرين
أقزاماً.كان يجيب وكأنه يخشى وخز الضمير أو سيف التاريخ أو إدانة قاض صارم
الأحكام...رغم أنه رجل سياسي عريق،فإنه كان لا يتحفظ من إطلاق نكت جادة ودعابة،وهي
في العادة نكت أطرافها جزائريون وشرقيون حدثت خاصة أيام الثورة.وكانت له قدرة
نادرة على إطلاق النكتة-وهي غالباً سياسية-بشكل عفوي هادئ تنتهي بفرقعات من الضحك
البرئ.وله عند سرد النكتة حركات بطيئة،جسمية ويدوية،كالتلفت والإشارة ورفع العينين
المختبئتين وراء نظارات سميكة.
بداية من التسعينيات اتسع جرح الجزائر أمام سي
عبد الحميد مهري،وكمناضل غير أناني كان يرقب السفينة وهي تشق عاصفة هوجاء وتتدحرج
على صخور حادة،وكان يريد إنقاذها فكان دائم البحث عمن يمد إليه يده،وفي النهاية
بقي في قلة من الأوفياء للثورة في طهارتها الأولى،فكان يكتب الرسائل لأولي الأمر
ويرسل إشارات الخطر لأولي الألباب،فيقرأ الناس رسائله وتحذيراته ويعرفون أنه لا
يقول إلا الحق.وقد ظهر الفساد في البر والبحر وارتفعت أصوات أغنياء الحرب والإرهاب
حتى غطت على صوت الحق، صوت سي عبد الحميد
مهري وأمثاله ممن بقي على الدرب،فكان حريصاً على نشر مقترحاته لتجاوز الأزمة،وكان
كثير التحذير لأصحاب السلطة وحتى لخصومه الذين لا شك أنهم مسرورون اليوم باختفاء
صوته وتوقف قلمه...،البيئة التي أنجبت سي عبد الحميد مهري قد حملته مسؤولية حماية
الهوية الوطنية المتمثلة في الإسلام والجزائر واللغة العربية،ثم زكتها الدراسة
بجامع الزيتونة ودعمها وجوده في دمشق خلال حرب التحرير،فكانت العائلة والزيتونة
والروح القومية والبيئة العربية في المشرق خلال الخمسينيات قد دفعته إلى الدخول في
معترك النضال الوطني والقومي،فكان سي مهري،رغم هدوئه وتحفظه رافعاً لواء الاتجاه
العربي في جبهة التحرير والحكومة المؤقتة ومجلس الثورة،وعندما استقلت الجزائر دافع
عن العربية والعروبة الثقافية بتوصيات لجنة التعريب المنبثقة عن اللجنة الوطنية
العليا لإصلاح التعليم، ثم من خلال المدرسة الأساسية التي دافع عنها وطبقها في
الميدان رفقة إخوانه المخلصين لنفس الهدف»-انتهى كلام أبو
القاسم سعد الله-
إن القارئ لمقال المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري
الذي كتبه عن المناضل التونسي فرحات حشاد،يقف على جملة من الرؤى العميقة التي
قدمها الأستاذ مهري عن فرحات حشاد ويكتشف بعد نظره ودقة تحاليله، فمما لفت انتباه الأستاذ
عبد الحميد مهري في شخصية فرحات حشاد قوة شخصيته وثباته،وعدم الحياد عن مواقفه،وصبره
ودأبه،حيث يقول في هذا الشأن:»كانت شخصية فرحات حشاد شخصية قوية ولكنها كانت لا تفرض نفسها على الناس
فرضاً عنيفاً،بل كان الناس أنفسهم يحبون قوتها فينجذبون إليها مختارين ويهرعون
إليها يلتمسون العون في الملمات.وكانت هذه الشخصية القوية تتدثر بدثار من الخلق
المتين والبساطة في المظهر والحديث والاتزان في الأعمال والأقوال وضبط النفس في
الشدة واليسر.وكان هذا الجانب اللين الناعم هو كل ما يظهر من شخصية فرحات حشاد
القوية لمن يعرفونه من بعيد أو يجتمعون به مرة أو مرتين«.
كما عرض الأستاذ عبد الحميد مهري منهجه في
العمل،ورؤيته لطرائق نجاح العمل النقابي والنضال،كما لم يغفل الحديث عن ثقافته الواسعة واطلاعه العميق،فقد
أشار إلى متانة ثقافته،وعمق حسه الاجتماعي في قوله:»وكان فرحات حشاد واسع الأفق
متين الثقافة السياسية والاجتماعية،وكان مع هذا واقعياً لا يجمح به اتساع أفقه عن
الرأي الصائب والخطة الحكيمة في كليات الأمور وجزئياتها،كان يرى أن واجب الطبقة
العاملة في بلاد محتلة هو أن تكون في
طليعة الكفاح التحريري قبل كل شيء.وكان
يرى أنه من الغلط الفاحش أن ينزوي العمال في نقاباتهم ويعكفوا على أنفسهم يطالبون
بترفيع الأجور وتحسين ظروف العمل في بلاد مهددة كلها بالابتلاع الأجنبي، وهذا هو الذي ينقمه
عليه المستعمرون ويصفونه بالعمل السياسي«.
كما أعجب الأستاذ عبد الحميد مهري أيما
إعجاب ببعد نظر الزعيم فرحات حشاد،وإيمانه بضرورة الوحدة بين أجزاء المغرب العربي،
وأشار إلى إدراك فرحات حشاد بتفكيره
الواقعي الرزين أن الاتحاد العمالي بين الأقطار المغربية ضروري لنجاح قضاياها،فكان
لهذا شديد الإيمان بالوحدة المغربية.
يقول الأستاذ مهري في هذا الصدد:«وكان يصنع الخطط
لتنظيم العمل التونسي والجزائري والمراكشي في جامعة نقابية واحدة».واستشهد بقول فرحات حشاد:«ما معنى إضراب عمال
الفسطاط في تونس إذا كانت الشركات المستغلة توجه
كل قواتها لإنهاك عمال الفسطاط في مراكش لتعوض خسائرها؟».
وينبه الأستاذ مهري إلى حس فرحات حشاد
وحرصه على الوحدة،و ابتعاده عن حب النفس في قوله:« وكان لهذا شديد
الاهتمام بكفاح العمال الجزائريين والمراكشيين،كثير الاتصال بهم وله بينهم أصدقاء
عديدون.ولم تكن هذه الجامعة النقابية المغربية غاية عند حشاد،بل كان يراها خطوة
أولى تفتح الطريق لتكوين جبهة سياسية بين الأحزاب والهيئات المغربية،ولم يغب عن
فرحات حشاد-وهو الرجل الواقعي-أهمية كسب الأنصار في الخارج فكان يعمل جاهداً في
هذا المضمار يراسل ويسافر ويحضر المؤتمرات ويكتب في المجلات العالمية،ويدعو
الشخصيات العالمية لحضور المؤتمرات والاجتماعات التي يشرف على تنظيمها وإدارتها
ويعرضها على العالم صورة حية ناطقة لمجهود الطبقة العاملة التونسية وقدرتها على
التنظيم في الكفاح».
ويؤكد المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري على أن
فرحات حشاد قد تمكن من تحقيق الكثير من أفكاره في صبر وأناة وعمل متواصل وجعل
الكثير من قادة الرأي في المغرب العربي يؤمنون بأفكاره التي لم يتح له أن يشهدها
حقيقة قائمة.
في ختام مقال الأستاذ عبد الحميد
مهري عن فرحات حشاد المناضل توقف مع جهوده ومنجزاته،حيث ذهب إلى التأكيد على أن
فرحات حشاد تمكن من تنظيم الطبقة العاملة التونسية و تحقيق تكتلها حول الحركة
التحريرية التونسية ونفخ فيها روح الكفاح والصبر،فكانت دائماً في المقدمة تكافح في
سبيل تحسين حالتها المادية والمعنوية وتكافح من أجل تحرير بلادها وكانت
تضحي-راضية- بمصالحها الخاصة في سبيل التحرير القومي العام.
ووفق منظور الأستاذ مهري ففرحات حشاد-رحمه
الله- تمكن من تغذية بذور الوحدة المغربية في صفوف العمال من جزائريين وتونسيين
ومراكشيين وجعلهم يتطلعون إلى اليوم الذي تبرز فيه جامعة النقابات المغربية إلى
الوجود،وقد ظل فرحات حشاد يبشر بأفكاره هذه في الأوساط النقابية العالمية ويكسب
لها الأنصار،فأعلن بذلك عن إخراج القضايا المغربية إلى النطاق العالمي.
وينتهي الأستاذ مهري إلى أن التأثير
العميق الذي كان لاغتيال فرحات حشاد في المغرب العربي والعالم هو خير دليل على أن
فرحات حشاد نجح في مهمته أيما نجاح،وأدى رسالته خير أداء.
فقد استدل الأستاذ عبد الحميد مهري على نجاح
فرحات حشاد بآثاره التي بقيت وجهوده الخالدة التي يعترف بها العالم كله،كما ذكّر
كذلك بالمظاهرات والاحتجاجات العارمة التي اجتاحت العالم عقب اغتيال الزعيم
النقابي فرحات حشاد،فكما هو معروف أن عشرات الآلاف من المواطنين الغاضبين خرجوا في
مظاهرات غاضبة بعد سماعهم نبأ استشهاد فرحات حشاد عبر جهاز الراديو،ولعل أكبر
المظاهرات كانت في مدينة«الدار البيضاء»المغربية التي قتل بها في نفس اليوم الذي اغتيل فيه
فرحات حشاد ما يزيد عن ثلاثين شخصاً. كما احتج السكان بشدة في دمشق وبيروت والقاهرة،وخرجت
مسيرات تنديد في جاكارتا وكراتشي،وفي بعض المدن الأوروبية مثل بروكسل وستوكهولم.
ختم الأستاذ عبد الحميد مهري مقاله
بالقول«رحم
الله فرحات حشاد فقد سقط شهيد الكفاح ضد الاستعمار والرأسمالية الجشعة،و عوضنا عنه
خير العوض».
إن تركيز الأستاذ المفكر عبد الحميد مهري على
شخصية فرحات حشاد له أكثر من دلالة،ومن أبرز الدلالات التي تتراءى لقارئ مقال
الأستاذ مهري هي إيمانه العميق والكبير بضرورة تحقيق وحدة المغرب العربي والأمة
العربية،وتفاعله مع كل ما يصيب أجزاء العالم العربي وشخصياته المناضلة والمكافحة
من أجل تحقيق الانتصار على الطغيان والمظالم الاستعمارية.
فحينما نقرأ مقال الأستاذ عبد الحميد مهري عن
المناضل فرحات حشاد بعد أكثر من ستين سنة على كتابته نستشف تحقق آمال وتطلعات
الأستاذ مهري الذي أراد بعث رسالة واضحة إلى الاستدمار الفرنسي الذي يحتل دول
المغرب العربي في تلك الفترة مفادها حتمية تحقيق الاستقلال بفضل جهود أبناء المغرب
العربي الذين لا يكلون من الدفاع عن حقوقهم.
والحق أن كل من عرف المفكر العظيم
والسياسي المحنك عبد الحميد مهري يستنتج أن الرؤى التي قدمها عن شخصية فرحات
حشاد،و إشادته بجهوده وأخلاقه الفاضلة هي صورة لشخصية فقيد الجزائر العظيم عبد
الحميد مهري ،ولاسيما حينما يؤكد في مقاله على إيمان فرحات حشاد بوحدة المغرب
العربي والأمة العربية، فالأستاذ مهري
استطاع أن يوفق بنجاح نادر بين اهتماماته بالمغرب العربي والمشرق
العربي،وهذا الأمر لا يتحقق إلا لقلة قليلة يأتي في طليعتها المفكر الكبير عبد
الحميد مهري،ونستشهد في هذا الشأن بما جاء في شهادة الأستاذ معن بشور عن شخصية
المجاهد عبد الحميد مهري:«كان عبد الحميد مهري مؤمناً أن مستقبل أمته مرهون بوحدتها،سواء كانت
الوحدة على المستوى الإقليمي كما هو حال بلدان المغرب العربي،أو على المستوى
العربي الشامل كما هو حال الأقطار العربية،وسواء كانت هذه الوحدة تنسيقاً أم
تعاوناً،كونفدرالية أم فدرالية... لقد كان الراحل الكبير يؤمن
بقوة أن هذا العصر هو عصر التكتلات الكبرى،وأن لا مكان فيه للكيانات الصغرى التي
لا تستطيع بدون سوق إقليمية مشتركة ودفاع إقليمي مشترك،أو مشاريع اقتصادية وثقافية
مشتركة أن تصون أمنها وتحمي أوطانها وتحقق الكفاية لأبنائها.
لذلك كان عبد الحميد مهري ذا نظرة ثاقبة يحاكم
السياسات والمواقف والإجراءات بمقياس وحدوي واضح،كما كان يدعو إلى سياسات مواقف
وإجراءات تعكس هذه النظرة الوحدوية.من هنا كان للأستاذ مهري دور بارز في العديد من
الهيئات والمؤسسات ذات الطابع العربي العام،كما كان يسعى مع إخوان له إلى إطلاق
منتدى المغرب العربي ليشكل خطوة باتجاه الاتحاد المغاربي الذي لم يناضل مهري من
أجله فحسب،بل عاش حياته متمسكاً به كروح ونهج...كان مهري ككل ثائر متفائلاً بأن
مستقبل الأمة العربية مستقبل مشرق،رغم كل الظواهر المحبطة والمحيطة والعقبات التي
تعترض مسيرة الأمة نحو تحررها وتقدمها ووحدتها... كان عبد الحميد مهري في دفاعه عن
هوية أمته العربية والإسلامية صاحب قيم ومبادئ تماماً كما قاده دفاعه عن القيم
والمبادئ إلى أن يكون أحد أبرز المدافعين عن العروبة والإسلام داخل الجزائر وعلى
مستوى الأمة،ولم يكن مهري في ذلك كله رومانسياً أو حالماً،أو مشدوداً إلى التاريخ
فحسب،بل كان واقعياً إلى أبعد الحدود،لا يرى مستقبلاً لوطنه الجزائر إلا من خلال
دور متميز له في قضايا الأمة،تماماً كما كان يدرك جيداً أن انتصار ثورة الجزائر
العظيمة كان في أحد جوانبه نتيجة لوقفة الأمة العربية والإسلامية كلها إلى جانب
تلك الثورة...وكان مهري مؤمناً أن تنمية أي بلد عربي مرتبط بالتنمية العربية
الشاملة... كان عبد الحميد مهري رجل
مواقف بكل ما في الكلمة من معنى،سواء داخل الجزائر أو على مستوى الأمة،لذلك من
الصعب الحديث عن موقف أكثر أهمية من الموقف الآخر،ولقد تميزت مواقفه كلها بالشجاعة
والجرأة والرصانة والثبات على المبادئ،فكان نصيراً للتحول الديمقراطي في بلده دون
مساومة،وكان نصيراً ثابتاً للحق الفلسطيني الكامل دون تنازل،وكان مدافعاً عن الشعب
العراقي ضد الحصار والاحتلال غير راضخ لأي ضغوط،وكان نصيراً للبنان في رفضه للحرب
الأهلية،وكان رائداً في الدعوة إلى وحدة المغرب العربي ووحدة الأمة العربية»-انتهى كلام معن
بشور-
وبالنسبة إلى إشادة الأستاذ عبد
الحميد مهري بأخلاق فرحات حشاد الفاضلة وتواضعه وبساطته،فكل من عرف الأستاذ مهري
وتعامل معه عن قرب يؤكد على أنه كان نموذجاً راقياً للدماثة والنبل وسماحة الخلق
والتواضع،وكما يصفه الدكتور علي بن محمد فهو المثال والقدوة لتلاميذه وزملائه،ويجد
الجميع في شخصه ذروة سامقة يلتقي فيها العلم والأخلاق وعزة النفس في تواضع يمهد
الطريق السالك إلى كل القلوب.
-2-«يجب
أن تخرج القضية الجزائرية إلى الميدان العالمي»:
وهو واحد من المقالات التي كتبها
الأستاذ عبد الحميد مهري،و تضمنت موقفاً انتقادياً واضحاً لسياسة الاستدمار الفرنسي في تلك الفترة،ودعوة
صريحة إلى توحد شعوب المغرب العربي في المطالبة بحقوقها واستقلالها .
كتب الأستاذ عبد الحميد مهري هذا المقال بمناسبة
الذكرى السابعة للإعلان عن ميثاق الأمم المتحدة،و نُشر في العدد العاشر من جريدة«المنار»
بتاريخ:الجمعة4صفر1372هـــ-24أكتوبر1952م، وقد تساءل الأستاذ عبد الحميد مهري في مستهل هذا المقال عن الأسباب التي حالت دون رفع قضية الجزائر إلى
هيئة الأمم المتحدة،حيث يقول:«يتساءل الناس لماذا لم ترفع قضية الجزائر إلى هيئة
الأمم المتحدة،ولهذا التساؤل معناه،فالقضية الجزائرية يجب أن تخرج إلى الميدان
العالمي،ولكن هذا لا يتأتى إلا باجتماع كلمة الأحزاب وانتظام الكفاح في الداخل
أولاً.
نعم جميع الجزائريين يتساءلون اليوم في كل مكان
وفي جميع الأوساط لماذا لا تحذو القضية الجزائرية حذو القضيتين التونسية
والمراكشية،وهذا التساؤل يعبر عن التجاوب العميق بين الشعوب المغربية وعن مقدار
تأثير الأحوال السياسية في كل قطر مغربي بما يجري في القطرين الآخرين من أحداث
ويعبر أيضاً عن رغبة الشعوب المغربية في ربط مصائرها ببعضها وتوحيد كفاحها توحيداً
تمليه المصلحة المشتركة والملابسات الدولية الراهنة.
ونحن نعلم أن إثارة القضية الجزائرية ليس من
السهولة،بحيث يظن كثير من المتسائلين،ولكن الخروج بالقضية الجزائرية إلى الميدان
العالمي أمر لازم لنجاحها.والاستعمار يعرف ذلك ولهذا نرى الصحف الاستعمارية تتعمد
السكوت عن القضية الجزائرية في هذه الأيام عند تعرضها لمشاكل المغرب العربي،ونرى
الإدارة الاستعمارية ناشطة من جهتها في إخماد الحركات وخنق الحريات وتنظيم
المناورات العسكرية والإشادة بما أوجده النظام الاستعماري في الجزائر من(نعم
وحسنات)كل ذلك احتياطاً للمستقبل».
ويوجه الأستاذ عبد الحميد مهري انتقادات
للأحزاب الجزائرية،لأنها لم تتوحد من أجل الإعلاء من شأن القضية الجزائرية في
مختلف المحافل الدولية،وقد عبر عن هذا الأمر في قوله:«...ولكننا بجانب
هذا نرى الأحزاب الجزائرية تغط في نومها ونرى الجبهة الجزائرية التي كنا نأمل أن
تزدهر وتتسع أهدافها تنقلب إلى(الهدنة)السمجة التي تناقش فيها
الأخطاء و لا ينتهج فيها نهج قويم...إن الشعب يطالب بالعمل على الخروج بالقضية
الجزائرية من هذه العزلة التي يريد أعداؤها حصرها فيها وهذا جد ممكن إذا قدرت
الأحزاب واجبها وضحت بالاعتبارات الحزبية الضيقة،وإذا كانت القضية التونسية
والمراكشية قد وصلتا إلى هيئة الأمم المتحدة فذلك راجع إلى اتحاد كلمة التونسيين
والمراكشيين على برنامج واضح يعبر عن رغائب الشعب العميقة،وإذا لاقت القضية التونسية
والمراكشية العطف والتأييد من جميع الديمقراطيين في العالم لأن المعاهدات التي
تربط بينها وبين فرنسا أصبحت لا تتماشى مع العصر الحاضر،ولا مع تطور البلاد
التونسية والمراكشية،فكيف لا تلاقي القضية الجزائرية هذا العطف وهذا التأييد
والحال أن الجزائر لا تربطها أية معاهدة ولا اتفاقية تحدد علاقتها بفرنسا اللهم
إلا العلاقة التي نشأت عن حرب استعمارية خرجت منها فرنسا ظافرة وفقدت فيها الجزائر
سيادتها واستقلالها.
هذه رغبة الجزائريين وهذه أيضاً رغبة التونسيين
والمراكشيين الذين يريدون-كما صرح زعماؤهم بذلك-أن يروا القضية الجزائرية تسير
جنباً إلى جنب مع القضية التونسية والمراكشية،وإذا اتحدت كلمة الأحزاب على تحقيق
هذه الخطوة التي يطالب بها الشعب الجزائري فإنها تكون قد خدمت القضية الجزائرية
خدمة مباركة وقدمت خير عون للقضية التونسية والمراكشية».
-3-«بين ألمانيا والعرب»:
كتب الأستاذ عبد الحميد مهري
هذا المقال بعد الاتفاقية التي عقدت بين ألمانيا الغربية وإسرائيل في
10سبتمبر1952م،والتي تنص على التزام ألمانيا بدفع3مليارات و450مليون من الماركات
إلى حكومة إسرائيل،وذلك تعويضاً عما لحق اليهود في العهد النازي من خسائر في
الأنفس والأموال .وقد قدم الأستاذ عبد الحميد مهري من خلال هذا المقال تحليلاً
لوقائع العلاقات العربية الألمانية بعد توقيع هذه الاتفاقية،وأوضح تأثيرات هذه
الاتفاقية على هذه العلاقات،وقد نشر هذا
المقال في العدد:12،بتاريخ الجمعة11ربيع الأول1972هـ-28نوفمبر1952م.
انطلق الأستاذ عبد الحميد مهري في مقاله
هذا من التأكيد على توتر العلاقات بين
ألمانيا والعرب بعد توقيع الاتفاقية المذكورة،وأشار إلى أن ألمانيا تريد بهذه
الاتفاقية تنفيذ التزاماتها الأدبية للغربيين بتعويض المضطهدين في العهد النازي
عما لحقهم من أضرار،بيد أن الدول العربية التي ما تزال قانونياً في حالة حرب مع
إسرائيل رأت في هذه الاتفاقية خطراً يهدد كيانها،لأن إسرائيل ستستعمل هذه
التعويضات في تقوية إنتاجها الصناعي والحربي وقد اجتمعت كلمة الدول العربية في
الاجتماع الأخير الذي عقدته اللجنة السياسية للجامعة العربية على مقاطعة ألمانيا
اقتصادياً إذا صادق البرلمان الألماني على هذه الاتفاقية،ولكنها أرجأت تنفيذ
قرارها حتى تتم المفاوضات مع ألمانيا.
وقد عرض الأستاذ عبد الحميد مهري رؤية الدكتور
شاخت الخبير الألماني العالمي لهذه القضية،والذي ذكر أن مصلحة ألمانيا تقتضي عدم
المصادقة على هذه الاتفاقية إذا كانت تفقدها السوق العربية،كما أشار إلى تصريح
الهربرج رئيس اتحاد الصناعة في ألمانيا الذي انزعج انزعاجاً شديداً لما قد يترتب
على مقاطعة الدول العربية من آثار خطيرة،وقال في تصريحه إنه أرسل رسالة إلى رئيس الحكومة
الألمانية يطلب منه فيها أن يرسل لجنة توفيق إلى البلاد العربية،غير أن موقف
الدوائر الرسمية كان متصلباً،وقد صرح اديناور بأن هناك أشياء فوق المصالح
المادية،وأنه يريد أن تكون ألمانيا غير ما كانت عليه في عهد هتلر.
عبر الأستاذ عبد الحميد مهري عن رؤية ألمانيا
والدول العربية لهذه القضية بقوله:«ولكن الدول العربية تقول إنه لا حق لإسرائيل في الحصول على تعويضات
من ألمانيا نيابة عن يهود العالم أجمع،فمسألة تعويض اليهود شيء ومسألة تسليم هذه
التعويضات إلى إسرائيل شيء آخر،زيادة على أن إسرائيل عاملت الفلسطينيين تماماً كما
عامل النازيون اليهود فأخرجت مليون عربي من ديارهم واستولت على أرزاقهم وأموالهم.
وقد طلبت ألمانيا الدخول في مفاوضات مع الدول
العربية ولكن يظهر أن هذه المفاوضات لا ترمي إلى أكثر من تطمين العرب.و ستتبدى هذه
المفاوضات فوراً بواسطة السفير الألماني في القاهرة وستكون الكلمة الأخيرة
للبرلمان الألماني الذي سيجتمع في شهر يناير المقبل».
-4-«القضايا سياسية والمتهمون فيها (مجرمون)»:
نُشر هذا المقال في العدد:14،بتاريخ:الجمعة11ربيع
الثاني1372هـ-الموافق ل26ديسمبر1952م،ولم يكتب اللقب على هذا المقال ،بل كتب عبد
الحميد فقط،ويبدو أنه سقط سهواً،ونعتقد من خلال أسلوبه وتوجهاته الوطنية أن صاحبه
هو الأستاذ عبد الحميد مهري،حيث نلفي في هذا المقال دفاعاً حاراً عن المظالم
المرتكبة ضد الوطنيين الجزائريين، فالأستاذ
عبد الحميد مهري في هذا المقال يتحدث عن المحاكمات المتتابعة التي تنهال على
الوطنيين الجزائريين،والقضايا كلها سياسية ليس في ذلك شك وفق تعبير الأستاذ مهري.
يقول الأستاذ مهري في بداية المقال إن ظروف
الاعتقالات«كلها سياسية:توزيع المناشير أو بيع الصحف والنشرات الوطنية أو
الاشتراك في المظاهرات العامة أو الدعوة بالكتابة أو الخطابة لمكافحة
الاستعمار..إلخ.والمحاكمات كلها سياسية يدور فيها الاتهام والدفاع حول الأفكار
والمعتقدات وتضم ملفات المتهمين فيها (إرشادات)تقول
إن المتهم ينتمي إلى الحزب الفلاني أو للحركة الفلانية ويدعو إلى كذا وكذا من
الأفكار والمعتقدات.ولكن هؤلاء المتهمين يعاملون جميعاً معاملة المجرمين في
السجن،بل إنهم يعاملون معاملة أقسى من معاملة المجرمين في كثير من الأحيان،وإدارة
الأمن ترفض الاعتراف لهم بحقوق المساجين السياسيين وتتذرع لتبرير موقفها هذا
بالرجوع إلى نصوص قانونية احتاط النظام الاستعماري بسنها لمثل هذه الحالات.وهذه
القوانين تتسم كلها بالميز العنصري،لأنها لا تطبق إلا على المسلمين الجزائريين.
وتقول الإحصاءات الرسمية بأن النظام السياسي لم
يتمتع به خلال سنة:1951م إلا مسجون واحد.أما في سنة:1950فلم يتمتع به أي مسجون على
الإطلاق.ومعنى هذا أن هؤلاء النواب الذين أخرجوا من المجالس بقوة الحراب وزج بهم
في السجون وهؤلاء المواطنين التجار والعمال والفلاحين والكتاب والخطباء الذين
يناهضون النظام الاستعماري كلهم مجرمون في نظر المستعمرين طبعاً.فلماذا هذه
المعاملة الشاذة يا ترى؟ ».
لقد عرض الأستاذ مهري في هذا المقال الواقع المؤلم
للمساجين الجزائريين الذين يقبعون في سجون الاستدمار الفرنسي،وركز على آلامهم
ومعاناتهم الشديدة وتعذيبهم فذكر أنهم يمنعون من مقابلة عائلاتهم،والكتابة إلى
ذويهم وتسلم الطعام الذي يرسل إليهم من الخارج،وقد اضربوا عن الطعام مراراً حتى
ضعفت أبدانهم وتمكنت منهم الأمراض والعلل فأقعدتهم حتى عن رفع أصواتهم
بالاحتجاج،فإذا رفعوا هذه الأصوات الضعيفة لم تنفذ إلى أسماع العالم الخارجي وبقيت
حبيسة مثلهم خلف الجدران السميكة البشعة.
ويقدم الأستاذ عبد الحميد مهري دعوة صريحة إلى
ضرورة تخليص هؤلاء المكافحين من الموت البطيء،حيث يقول في ختام المقال:«
إن واجب تخليص هؤلاء المكافحين الأبرار من الموت البطيء ملقى على كواهلنا نحن
الذين لا نزال نتمتع بالنور والدفء والطعام اللذيذ...فلنرفع أصواتنا بالاحتجاج
الصارخ في كل مكان،ولنفهم الإدارة الاستعمارية أن الشعب الجزائري لا يسلم أبناءه
وإننا سنكافح متحدين لنخلص من السجن هؤلاء الذين كافحوا لتخليصنا من الاستعمار
والاستعباد».
-5-«أدباؤنا
لا يؤمنون برسالة أدبية»:
كتب الأستاذ عبد
الحميد مهري هذا المقال مساهمة منه في المناقشة الأدبية والفكرية التي شارك فيها
عدد كبير من الكتاب والأدباء،وقد أثار هذه المناقشة الفكرية والأدبية الأستاذ
الأديب عبد الوهاب بن منصور في مقاله الموسوم ب«مالهم لا ينطقون»،وقد نُشر مقال
الأستاذ عبد الحميد مهري في العدد:15، بتاريخ:الجمعة22ربيع الثاني1972هــــ-الموافق
ل09 جانفي 1953 م،ويبدو أن هذا المقال هو أطول المقالات
التي كتبها الأستاذ مهري،
ويُبرز ثقافة الأستاذ عبد الحميد مهري الأدبية،وحسه
الفني والنقدي الراقي،كما يجلي عمق تحاليله ورؤاه لحقيقة الرسالة الأدبية.
ومنذ البداية يقدم دعوة إلى ضرورة تنشيط
الحركة الأدبية،في قوله:«من الخير أن تستمر هذه المناقشة التي أثارتها كلمة الأستاذ عبد
الوهاب بن منصور التي نشرت في العدد:207من جريدة البصائر الغراء،بل إني أتمنى أن
تتسع هذه المناقشة وتنقلب إلى معركة أدبية كبرى يصطلي بنارها الأدباء وينتفع بها
خلق كثير من الأدباء والمشتغلين بالأدب من القراء.
وليس ذلك لأن الموضوع الذي يثيره الأستاذ عبد
الوهاب أصبح الناس يحسبون الحاجة في الحديث عنه فحسب،بل لأن هذه المناقشات القلمية
الهادئة التي يعمد لإثارتها بعض الأدباء أحياناً وتثيرها المصادفات البحتة في كثير
من الأحيان هي كل ما أصبح الناس يلمسونه من مظاهر الحياة الأدبية في الجزائر فمن
الخير كل الخير إذن أن لا نترك هذه الشرارة تنطفئ دون أن يستعر أوارها ويأتي على
الجمود الذي يسود حياتنا الأدبية،لأن هذا الجمود هو الوقود الوحيد الذي نستطيع على
ضوء ناره أن نتبين في وضوح معالم الطريق».
وقد قسم الأستاذ المفكر عبد
الحميد مهري مقاله هذا إلى ثلاثة أقسام
رئيسة :
أ-البطالة الفكرية:وقد أرجع الأستاذ عبد الحميد مهري أسبابها إلى
الجمود فيما يكتب وينشر بين الناس،وفيما يكتب ولا ينشر بين الناس، و في أفكارنا حين نكتب
أو نحاول الكتابة، وفي نظر الأستاذ مهري أن تطور هذا الجمود تدريجياً هو الذي أصبح عند الكثير من أدبائنا بطالة فكرية، يشقى
بها أصحابها، ويشقى بها من ينتظر من أصحابها إنتاجا يسد حاجته الأدبية التي تزيد
إلحاحا كلما زادت البطالة الفكرية استفحالا.
وعن مخاطر هذه البطالة يقول الأستاذ مهري:« فبطالة الأفكار كبطالة السواعد لا
يتعطل بها جزء من الإنتاج العام فحسب بل إن هؤلاء العاطلين أنفسهم-إذا طالت مدة
بطالتهم- يصبحون غير قادرين على استهلاك
ما ينتجه غيرهم، ويتسببون في تعطيل الإنتاج بالمرة، أو في اضطرابه اضطرابا يجعله
عديم الأثر في حياة الأمة، أي غير قادر على الثراء والإثراء».
ويجيب الأستاذ مهري عن تساؤل الأستاذ عبد
الوهاب:مالهم لا ينطقون؟ بقوله:«... نحاول أن نجيب عنه في صراحة أحسب أنها لا تعدو
الحقيقة.وإن كان التسليم بهذه الحقيقة شيئاً غير يسير لأنه يقتضي شيئاً من الإنصاف
والشجاعة في مواجهة الحقائق من كل الذين يسلمون بها كلها أو يسلمون بجانب منها.
إن
الأدباء الجزائريين لا ينطقون، لأنهم لا يعرفون بماذا ينطقون، ولا أقصد بهذا أن
الأدباء الجزائريين قد أصيبوا جميعا بداء العجز، بل أعتقد أن الأدباء الجزائريين
يستطيعون أن يقولوا فيحسنوا القول، ويستطيعون أن ينتجوا، فيجيدوا الإنتاج. ولكن
هؤلاء الأدباء لا يؤمنون إيمانا عميقا برسالتهم الأدبية، والذين يؤمنون منهم بأن
عليهم رسالة ما، لم يستطيعوا حتى الآن أن يحددوا هذه الرسالة، ويتصوروها تصورا
كاملا يطمئنون إليه، ولهذا نراهم لا يكتبون ولا ينتجون، ونراهم غير مطمئنين لما
يكتبون وينتجون إذا حاولوا الكتابة والإنتاج، لأن هذا لا يصدر عن إيمان عميق
برسالة الأدب، ولا يمكن أن يعد بحال من الأحوال استجابة صادقة لحاجة الأدب في
الزمان والمكان.وغاية ما يمكن أن نصف به هذا الإنتاج أن نقول إنه محاولات-ومحاولات
فاشلة-للخروج من هذا الفراغ الذي يشعر به الأدباء والقراء على حد سواء ».
ب-صعاب لا أسباب: يعترف الأستاذ عبد الحميد مهري في هذا القسم من
مقاله بأن الظروف القائمة في الجزائر في تلك الفترة وهي سنة:1952م،حينما كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستدمار الفرنسي لا
تساعد على الإنتاج،ولا تساعد عليه كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمود بوزوزو في
مجموعة من المقالات التي نُشرت في الأعداد الأولى من جريدة «المنار»، كما أن
الظروف المادية ليست متوافرة كلها أو بعضها على الأقل.
ولكن الأستاذ مهري يتساءل من جديد:هل يمكن أن
يطمئن الإنسان إلى أن هذه هي الأسباب الحقيقية لركود الحياة الأدبية في الجزائر
إلى هذا الحد؟ وهل معنى هذا أنه إذا توافرت الظروف المادية للأديب الجزائري وتقلص
ظل الأوضاع القائمة قليلاً تفتقت قرائح الأدباء من تلقاء نفسها وأصبحت تمدنا
بإنتاج دسم خصب يبعث في جونا الأدبي الدفء والحياة؟ إنني أشك في ذلك، ولنفرض أن
هذه هي الأسباب الحقيقية لركود الحياة الأدبية في الجزائر،فعلى يد من ينتظر
الأدباء أن تزول هذه الأسباب؟ولنفرض-وهذا الفرض محتمل جداً-أنه لا تمتد يد ولا
درهم و لا ينطق لسان لإزالة هذه الأشواك والعراقيل من طريق الأدباء ،فهل سيظلون
أبد الظهر ينتظرون(نصر الله)كما
يقال؟
ويقرر الأستاذ مهري في الأخير أن سبيل النهضات الأدبية لم تكن دائماً مفروشة بالورود،فكان الأدباء الذي يحملون
مشعل الأدب في مستهلها يلاقون من العنت والسخرية والجحود الشيء الكثير،ولكنهم
كانوا يستمدون من هذه السخرية وهذا العنت والجحود مادة لإنتاج قوي خصب ظل خالداً
على مدى الدهور وكانوا ينتصرون آخر الأمر،لأنهم كانوا يؤمنون برسالة الأديب
إيماناً لا يخامرهم فيه شك ولا يتطرق إليهم فيه ريب.
وقد عبر الأستاذ عبد الحميد مهري عن منظوره إلى مسألة
القراء بقوله: «أما إذا أراد الأدباء من القراء أن يقبلوا على هذه
المحاولات التي يريدون بها الخروج من الفراغ الذي يشعرون به، فهذا ما أعده تجنيا
على القراء، ومطالبة لهم بما ليس لهم عليه
قوة. لأن القراء يدركون في سهولة الفارق بين الأدب الصادق الذي يصدر عن
إيمان وعقيدة وبين هذه المحاولات الأدبية التي أشرت إليها.على أن من حق القراء أن
ينتظروا من الأدباء إنتاجاً جيداً يمدهم بالغذاء والمتعة وليس من حق الأدباء أن
ينتظروا من القراء إقبالاً على إنتاج لا يحمل إليهم غذاء ولا يجدون فيه متعة ولا
لذة».
ج-السبب الأصلي:يذهب الأستاذ عبد الحميد مهري في ختام هذا المقال إلى
التأكيد على أن السبب الحقيقي لسكوت الأدباء هو
أنهم لا يؤمنون إيماناً صادقاً برسالتهم الأدبية،حيث يقول عن هذا الأمر موضحاً
رؤيته بقوة ومستنداً إلى أدلة دامغة:« لو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون
برسالة أدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لما رضوا لأنفسهم الانهزام أمام هذه
العراقيل التي عرفتها النهضات الأدبية في كل بلاد دون أن يحاولوا حتى الدفاع عن
هذه الرسالة التي يؤمنون بها ويطمئنون إليها ولو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون
برسالتهم الأدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لحاولوا على الأقل جمع شتاتهم في
فئة تنافح عن الأدب وتدافع عن رسالته وتجمع من حولها المنتصرين له والمشتغلين به
من الأجيال الناشئة.ولو فعل أدباؤنا ذلك لضمنوا لأنفسهم على الأقل حياة أدبية
خالصة لهم من دون القراء ومن دون أصحاب المطابع، ودور النشر.
وبعد ما ذا أقول؟ لقد وجدت السياسة من يؤمن برسالتها ويدافع عنها،
ففرضت نفسها على الناس، وجمعت حولها الأنصار، والمؤيدين ووجد التعليم العربي الحر
من يؤمن برسالته ويدافع عنها ،فتمكن من الاستقرار والانتشار وجمع حوله الأنصار
والمؤيدين،أما الأدب فلم يجد من يؤمن برسالته ويدافع عنها،أو على الأصح فقد هؤلاء
الذين يؤمنون برسالته ويدافعون عنها،فوقف في الطريق ينتظر من يأخذ بيده...؟».
وما
نلاحظه بالنسبة إلى الجوانب الأسلوبية واللغوية في كتابات الأستاذ عبد الحميد
مهري،هو أن أسلوبه يتميز باستقامة العبارة والوضوح والدقة، والمتأمل في كتابات
الأستاذ مهري يُعجب بأسلوبه الطلي في الكتابة،ويشعر بلذة في يسره وانتقاله بالقارئ
من فكرة إلى أخرى،ومن معنى إلى آخر،إضافة إلى تميز كتاباته بشحنات دلالية عميقة ومواقف
إنسانية نبيلة،وقد وصف الدكتور علي بن محمد،وزير التربية الوطنية الأسبق، مقالات
الأستاذ عبد الحميد مهري بأنها تتميز ببساطة لا متناهية، وفيها يسجل الكثير من
المواقف لابد من صفحات وصفحات للتعبير عنها،فهو دائماً ينطلق من مقاربات سياسية
وسرعان ما يربطها بالواقع،فهو براغماتي وواقعي وبارع في اختيار الكلمات،ومن هنا
كان نجاحه في المؤتمر القومي العربي.
والحق أن مقالات الأستاذ عبد الحميد مهري
المنشورة في مختلف الصحف والمجلات الوطنية والعربية هي كنوز متناثرة تستصرخ
الباحثين والدارسين للنهوض بجمعها وضم
شتاتها وطباعتها،وإنجاز أبحاث ودراسات عنها لاكتشاف مضامينها العميقة،وأفكارها
النيرة التي تعود بالفائدة الجمة على شباب هذه الأمة. فالمناضل الكبير والمفكر عبد الحميد مهري هو
كتاب يختزن مسيرة شعب ونضال أمة.
وما ينبغي التأكيد عليه هو أن الأستاذ العظيم
عبد الحميد مهري-رحمه الله-وإن كان قد رحل عن الوجود بشخصه المادي،فإن رؤاه
وأفكاره ومواقفه الخالدة ستظل نبراساً يضيء دروب الأجيال،ولا ريب في أن خلوده يمنح
الأمة بعض الصبر والعوض عن فقدانه،ويدفع الأجيال الصاعدة للتنقيب عن
آثاره،والاقتداء بعلمه وفكره وأخلاقه،والسعي الحثيث إلى تحقيق ما لم يتحقق من
آماله وأفكاره وطموحاته.
إن من يُتابع مسيرة الأستاذ عبد الحميد مهري
الثرية بالمنجزات والأعمال والمواقف الخالدة يتيقن أن الرجل لم يهدر وقته في التافه
من الأشياء،فلقد كانت حياته كلها كفاح ونضال وعمل وإنتاج ،وكل جزائري يحق له أن
يفتخر بذلك المناضل الفذ والمجاهد العظيم والسياسي المحنك.
لقد كان رجل الإجماع الوطني عبد الحميد
مهري-رحمه الله-كوكباً مضيئاً وسراجاً منيراً بحكمته وعلمه وجهوده الجبارة في سبيل
خدمة وطنه،ولقد حفرت الجزائر اسمه في سجلات العظماء الخالدين.
هناك تعليق واحد:
مقال ثري,
وواضح من متنه قوة المجهود الذي بذله الكاتب لجمع المعلومات و تحرير المقال.
ربي يوفقك
الأستاذة زينة السعيد بورويسة
إرسال تعليق