'تأملات رجل الغرفة' لأحمد طوسون نص له طزاجته الخاصة التي تنبع من مقدرة الكاتب على صنع نص روائي يوازي الواقع المتردي.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: د. شعبان عبدالحكيم محمد
مستشفى تختلف اختلافاً كلياً عن مستشفيات الواقع
أحمد طوسون كاتب متعدد المواهب والعطاء، كتب الرواية (منها هذه الرواية التي نحن بصددها "تأملات رجل الغرفة"، ورواية "مراسم عزاء العائلة") وكتب القصة القصيرة (ومن "أعماله شتاء قارص"، و"عندما لا تموء القطط"، و"فتاة البحر"). وله أعمال إبداعية عديدة في أدب الطفل منها (حكاية صاحب الغلان ، أحلام السيد كتاب ، دجاجات زينب، حكاية خير البلاد).
"تأملات رجل الغرفة" لأحمد طوسون نص له طزاجته الخاصة، تنبع هذه الطزاجة من مقدرة الكاتب على صنع نص روائي يوازي الواقع المتردي، واقع القمع والبطش والتسلط، وهيمنه السلطة على الشعب، بصورة مأساوية قاسية، فجعل من المستشفى مكاناً موازيا لعالم الواقع تارة، ولعالم السجن تارة أخرى.
ومع تداخل هذين المكانين لا تجد تصدعاً فى الأداء، فعالم الواقع قد تحول فيه الناس إلى مرضى نفسانيين، ومرضى المستشفى يتعاطون الإبر والمهدئات، ولا يظهر عليهم الأمراض العضوية، وما يحدث في المستشفى يوازي الواقع المتردي من حيث تركيبة المجتمع وبنيته المعقدة، فالطبيب لا يظهر كثيرًا ولا يحفل بالمرضى شأنه شأن المسئول الأول في البلاد، ويقوم رجال الأمن بدورهم البوليسي المتعسف في التنصت والقبض على الناس، ويساعدهم الممرضون الذين يقبضون الثمن في الاستيلاء على ثروات المستشفى، وفي الدعاية للطبيب، والعمل على رفع رصيده في المجتمع، أما المرضى فيمثلون غالبية الشعب الذين لا يوجد في وسعهم سوى التمرد والتعبير عن آهاتهم وتوجعهم.
اعتمد الكاتب على شعرية الإيحاء بعيداً عن التقرير والمباشرة في سرد الأحداث بصورة واقعية، مرضى المستشفى - كما قلنا مرضى نفسانيون - نتيجة ضغوط هذا الواقع.
وفي مستشفى تختلف اختلافاً كلياً عن مستشفيات الواقع، فعايد البطل، والذي استمر شهوراً تلو الشهور يفتقد الذاكرة "لم يحدثه أحد عن حالته المرضية، أو تطور العلاج الذي لا نهاية له، كأن مرضه سر في بطن حوت لا يطلع عليه إلا نبى ... من جانبه لم يهتم .. استسلم لزجاجات الأدوية وأقراص البرشام والمخدر، ترك الوقت يمرُّ وأسلم نفسه إلى الصمت والظلمة. اندس مع بقية النزلاء تحت لحاف الصبر وانتظر حتى جمده البرد والأسى".
وحاله حال كثير من النزلاء الذين يعيشون بداخل المستشفى كزنزانة، لا يعلمون بنوعية مرضهم، ولا متى سيخرجون من المستشفى، ومن يعلن عن رفضه يكون القبض عليه، ولا يرجع مرة أخرى مثلما حدث مع سهام، ويحيى الذي حلم بالجورب والقفاز (أي يكون طبيباً) ولكن هيهات هيهات لحلمه أن يتحقق! وكيف تسول له نفسه أن يصبح هو المسئول الأول (أو قل الرئيس).
فالمرضى واحد، والعلاج واحد، كما ورد في الرواية "هل هو بحاجة حقا لذاكرته ليشفى، ماذا عساها تحمل ذاكرته تحاصرها الجدران والأسلاك الشائكة غير تلال الرمال وصبار الوحدة؟! (ص 82) وعندما سأل خضر: أريد أن أعرف شيئاً عن حالتي، كان ردُّ عليه: أي شيء. كلنا نعاني المرض نفسه. لا أحد يتذكر شيئاً، الممرضون والعمال والأمن كلهم مثلنا لا يعرفون شيئاً. (ص 84)
وفي الرواية تلميحات كثيرة بنفوذ طائفة المنتفعين الانتهازيين. نراهم في المستشفى يتمثلون في الممرضين والممرضات. تصارحهم سماح كاشفة سوءتهم "تهربون أدويتنا خارج المستشفى. تعيشوا منعمين ولا تعطونا إلا الفتات. تبعها الجميع: إنا فقراء محرمون من كل شيء لا نحصل إلا على الروائح والصور. رائحة الطعام. رائحة الهواء. رائحة الحياة. نريد أن نلامس شيئاً حقيقياً واحداً. أريد أن أشعر أننى ما زلت حية (ص) 76
وتشير الرواية – أيضا – إلى تغييب هؤلاء – أيضا – من قبل السلطة العليا، فهؤلاء كما يقول عايد "يختلفون عنا في أنهم يقبضون ثمنا لذاكرتهم الممحوة. بعض الطعام الطيب. الطبيب الجالس في المبنى الرئيس يتحكم في كل شيء. لا يستطيع أحد الاقتراب منه. (ص 85)
وفي الرواية – أيضا – تلميحات عدة لما يجري في الواقع، منها التمثليات التي تقوم بها القيادة في عدم رغبتها البقاء في هذه المهمة إلا لخدمة الشعب، فالطبيب يعلن استقالته، والمنتفعون يرفضون، أكثر من ذلك يقومون بمسيرات تأييد له، ليقرر في النهاية عودته من أجل المرضى، في مسرحية هزلية ساقطة معلومة البداية والنهاية، وأصبح وجود القائد يأخذ صفة الهلامية، عندما يُصور بصورة خرافية، فيصبح كل شيء كما يقرر الطبيب في المستشفى.
كان عايد يوشك أن يؤمن بأن وجود الطبيب ما هو إلا وهم، سيطر على رؤوس المرضى واحتلها، وهم لا وجود له فى خيالاتهم المريضة، وذكاء الكاتب جعله من صنع فئة تحوطه، وأعتقد أن هذا المفهوم يقارب واقع كثير من الدول المتخلفة "وهم صنعوه بينهم يمشي بالمخدر والبرشام والإبر تغزو أجسادهم صباح مساء، وهم صنَّعوه وألبسوه المعطف والقفاز وتركوه يسير بينهم حتى صار حقيقة يبحثون عنها وسط زنازينهم إلى ما لا نهاية" (ص 101).
المستشفى – كما ذكرنا – رمز لمصر، وهذا لا يتنافى مع الواقع المعيش الذي حوَّل الناس إلى مرضى نتيجة للقهر السياسى الذي نعانيه، يؤكد دلالة هذا الرمز في حديثه عن بناء المستشفى، أنها بنيت منذ فترة، وجاء بناؤها تحقيقاً لحلم التقدم والنماء (بأداء المستشفى مهمتها) ولكن "كان همهم الأول والأخير أن يقتلنا الإحساس بالعجز قبل أن يضطروا إلى إطلاق فوهات بنادقهم ودانات مدافعهم نحونا. (ص 102).
مما يؤكد دلالة الرمز – هنا – نجد كثيراً من الإيحاءات بعالم الواقع، فالمستشفى رمز لبلد، كان لها تاريخ، ولكن هذا التاريخ اندثر، ولم يعد سوى حلم، وهنا يستدعى تقدم بلادنا في علم الطب، بداية من الفراعنة، ومن جاء بعدهم، حتى أن ابن النفيس كان أول من اكتشف الدورة الدموية، أما نحن فقد أضعنا كل شيء، ولم يعد سوى الحلم " كنا نملك حلما لا حدود له. ساعتها كان بإمكان الطبيب أن يقودنا إلى المستحيل، لكن ما الذى تغير، لا أحد يعرف، هل لأننا صامتون بلا ثمن؟ كان يسير بيننا نتغنى معا بالحلم، نستشرف خيوط فجره الأولى بفرح وننتظر تباشير الصباح. لم يكن هناك فارق بين طبيب أو مريض أو عامل أو ممرض. (ص 103).
وبعد ذلك تحولت هذه المؤسسات إلى أداة قمع، وأصبحت مسيسة بصورة منحرفة "بدأ كحلم طاف بخيال النزلاء والطبيب، لكنه انحرف إلى كابوس يفزع الجميع في كل وقت، كل من في المستشفى خضع لتفتيش دقيق لم يستثن منه أحد، عجائز أو شيوخ أو نساء، حتى المرضون والأمن طالهم التفتيش". (ص 111)
عندما كان الحاكم واحداً من الرعية، لا تشعر بتميزه، أما بعد ذلك فقد انفصم وتوارى وأصبحت رؤيته محالاً "الطبيب لم ينزل يوما إلى مرضاه. لم يضع يوما سماعة على صدر مريض ليعرف أين يكمن المرض" (ص 86 )
أكثر من ذلك فقد بجَّلوه إلى درجة التقديس، و بصورة هلامية، فـ "لم يكتفوا أن يجعلوه اسكندرا أحسن من فيليب المقدونى، بل جعلوه في مصاف الآلهة، لا يحق لمرضاه إلا الطاعة والشكر" (ص 104).
نظام يقوم على القمع والبطش والتعذيب خلق مجتمعاً أشبه بمستشفى (للأمراض النفسية) تعبيراً عن الأمراض التي يعيشها المواطن على هذه الأرض، وامتلأت السجون لا لجرم لهم سوى أنهم حلموا بالغد الجميل، وهنا يستخدم الكاتب تقنية الكولاج (القص واللصق) للتعبير عن الكذب والتدليس ونفي الحقائق من قبل الجهات الأمنية، فينسخ من إحدى الجرائد خبراً عنوانه "الداخلية تنفي وجود سجون تحت الأرض". وفيه "نفى أحد كبار قيادات الداخلية وجود سجون تحت الأرض مؤكداً أن جميع المودعين في السجون تحت إشراف النيابة العامة ويتم إحاطتها بقدر كبير من العناية والاهتمام" (ص 74)
نعيش مع الكاتب جو السجن وآلامه وقسوته. نعيش مع أبطال الرواية (عايد، محمود، يحيى، سهام، خضر، سلوى، ريم، سنية ...إلخ) هذه الحياة، نرى دلالة الغرفة – هنا – غرفة التعذيب القاسي، الذي أذهب ذاكرة عايد في بداية الرواية، وبعد العذاب الشديد الذي شوَّهه، وترك آثاره الظاهرة (الجروح والتهتكات) والباطنة في فقده للذاكرة، وسامه للحياة وافتقاد التذوق لجمال الحياة، وبعدما نجحوا فى مهمتهم نقلوه إلى غرفة أخرى بها محمود ويحيى اللذان أُصيبا بفقدان الذاكرة، مع إلزامهم بعدم الحلم بالغد، كل ذلك من خلال تلميحات كثيرة في الرواية، لسلوكيات هؤلاء، سواء على الواقع السياسي، أو الأخلاقي:
- (فقرة 8) أحد المصابين في أقواله لوكيل النيابة الهروب من المكان كان مستحيلا.
- وهم صنعوه بينهم يمشي بالمخدر والبرشام والإبر تغزو أجسادهم صباح مساء، وهم صنَّعوه وألبسوه المعطف والقفاز وتركوه يسير بينهم حتى صار حقيقة يبحثون عنها وسط زنازينهم إلى ما لا نهاية. (ص 101)
- تلميحات كثيرة بسلوكيات هؤلاء الانتفاعيين، منها قول سهام مواجهة لهم: أنتم تأكلون طعامنا. تهربون أدويتنا خارج المستشفى. تعيشون منعمين ولا تعطونا إلا الفتات. (ص 76)
- يتأمل الوجوه التي التفت حوله. يتأمل السماعة التي وضعت على القلب المسجى. يتأمل الشفتين اللتين قالتا: البقاء لله (ص 52)
- لا فتات امتدت من بين المباني تؤيد وتبايع وتشيد بتقدم المستشفى وريادتها بالمنطقة. احتفالات أغاني. يتردد في الخارج: عاش عاش عاش نحن فداك نحن فداك نحن فداك (ص 79)
- ذلك الكرسي الملعون الذي حبسه هناك وحبسنا هنا. أسروه بالنفاق وبتصويرنا كأشباح إن خرجت من قمقمها ستلتهم كل شيء، وأسرونا بالعجز الذي ولد الخوف والجبن والأسى، لم يستطع كل منا أن يفك أسره حتى فتك بنا المرض، ثلاثون أو أربعون أو خمسون عاما مضت.
ظل عايد يردد في نفسه قبل أن يتكلم ويهمس لصاحبه: لا بد إنه مرض الشيخوخة. طبيبنا ربما تجاوز الثمانين ونريده أن يطيب جراحنا! (ص 105 ).
وفي هذا النص تلميح لعهد مبارك الذي جاوز الثمانين من عمره وهو يمارس نشاطه السياسي، وفي الوقت نفسه تلميح إلى فترة حكم العسكر الذين حكموا قبل حسني مبارك.
- زيارة لجنة خارجية للمستشفى قبل الجمعة الحبيسة قالوا إنها تأتي لتبحث في مشاكل المرضى. (لن نلتقى غدا) جملة دائما ما تسبق زيارات اللجنة. (ص 97)
- فقرة 10 (مشرحة بغداد تستقبل 6 آلاف جثة خلال 5 أشهر بمعدل 40 جثة يوميا) أعلنت إحصائية صادرة عن مشرحة بغداد أن المشرحة تسلمت خلال الأشهر الخمسة الماضية أكثر من 6 آلاف جثة قتلت معظمها رميا بالرصاص وبدا عليها علامات التعذيب والحرمان والصعق بالكهرباء، وذكر العاملون أنهم يتسلمون ما بين 35 و40 جثة يوميا (ص 106)
- حتى سنية استباحوها دموع كثيفة احتبست بالعيون الأسى حاصرهم من كل جانب. أزاحوا الجانى بعيداً ونزلوا بهراواتهم على جسد الضحية. قالوا إن حالتها خطيرة الاضطرابات النفسية تجعلها تتخيل حدوث أشياء لا أساس لها. النزلاء صدقوهم رغم أن سنية لم تقل شيئاً (117)
ورغم كل ذلك يحلم الكاتب بالثورة في النهاية، فبعد دفن يحيى ومن قبله خضر، سار عايد "يدهس بأقدامه الأسلاك الشائكة غير عابىء بخيوط الدم التي تلاحقه. ابتسامة فرح طافت برأسه المتعب. هدأت أنفاسه اللاهثة وتأمل الفراغ الممتد. لم تكن ثمة أسوار أمامه. سار بخطوات واثقة غير عابىء بما قد يجده هناك، خلف الفراغ البعيد" (ص 123).
ميدل ايست أونلاين
بقلم: د. شعبان عبدالحكيم محمد
مستشفى تختلف اختلافاً كلياً عن مستشفيات الواقع
أحمد طوسون كاتب متعدد المواهب والعطاء، كتب الرواية (منها هذه الرواية التي نحن بصددها "تأملات رجل الغرفة"، ورواية "مراسم عزاء العائلة") وكتب القصة القصيرة (ومن "أعماله شتاء قارص"، و"عندما لا تموء القطط"، و"فتاة البحر"). وله أعمال إبداعية عديدة في أدب الطفل منها (حكاية صاحب الغلان ، أحلام السيد كتاب ، دجاجات زينب، حكاية خير البلاد).
"تأملات رجل الغرفة" لأحمد طوسون نص له طزاجته الخاصة، تنبع هذه الطزاجة من مقدرة الكاتب على صنع نص روائي يوازي الواقع المتردي، واقع القمع والبطش والتسلط، وهيمنه السلطة على الشعب، بصورة مأساوية قاسية، فجعل من المستشفى مكاناً موازيا لعالم الواقع تارة، ولعالم السجن تارة أخرى.
ومع تداخل هذين المكانين لا تجد تصدعاً فى الأداء، فعالم الواقع قد تحول فيه الناس إلى مرضى نفسانيين، ومرضى المستشفى يتعاطون الإبر والمهدئات، ولا يظهر عليهم الأمراض العضوية، وما يحدث في المستشفى يوازي الواقع المتردي من حيث تركيبة المجتمع وبنيته المعقدة، فالطبيب لا يظهر كثيرًا ولا يحفل بالمرضى شأنه شأن المسئول الأول في البلاد، ويقوم رجال الأمن بدورهم البوليسي المتعسف في التنصت والقبض على الناس، ويساعدهم الممرضون الذين يقبضون الثمن في الاستيلاء على ثروات المستشفى، وفي الدعاية للطبيب، والعمل على رفع رصيده في المجتمع، أما المرضى فيمثلون غالبية الشعب الذين لا يوجد في وسعهم سوى التمرد والتعبير عن آهاتهم وتوجعهم.
اعتمد الكاتب على شعرية الإيحاء بعيداً عن التقرير والمباشرة في سرد الأحداث بصورة واقعية، مرضى المستشفى - كما قلنا مرضى نفسانيون - نتيجة ضغوط هذا الواقع.
وفي مستشفى تختلف اختلافاً كلياً عن مستشفيات الواقع، فعايد البطل، والذي استمر شهوراً تلو الشهور يفتقد الذاكرة "لم يحدثه أحد عن حالته المرضية، أو تطور العلاج الذي لا نهاية له، كأن مرضه سر في بطن حوت لا يطلع عليه إلا نبى ... من جانبه لم يهتم .. استسلم لزجاجات الأدوية وأقراص البرشام والمخدر، ترك الوقت يمرُّ وأسلم نفسه إلى الصمت والظلمة. اندس مع بقية النزلاء تحت لحاف الصبر وانتظر حتى جمده البرد والأسى".
وحاله حال كثير من النزلاء الذين يعيشون بداخل المستشفى كزنزانة، لا يعلمون بنوعية مرضهم، ولا متى سيخرجون من المستشفى، ومن يعلن عن رفضه يكون القبض عليه، ولا يرجع مرة أخرى مثلما حدث مع سهام، ويحيى الذي حلم بالجورب والقفاز (أي يكون طبيباً) ولكن هيهات هيهات لحلمه أن يتحقق! وكيف تسول له نفسه أن يصبح هو المسئول الأول (أو قل الرئيس).
فالمرضى واحد، والعلاج واحد، كما ورد في الرواية "هل هو بحاجة حقا لذاكرته ليشفى، ماذا عساها تحمل ذاكرته تحاصرها الجدران والأسلاك الشائكة غير تلال الرمال وصبار الوحدة؟! (ص 82) وعندما سأل خضر: أريد أن أعرف شيئاً عن حالتي، كان ردُّ عليه: أي شيء. كلنا نعاني المرض نفسه. لا أحد يتذكر شيئاً، الممرضون والعمال والأمن كلهم مثلنا لا يعرفون شيئاً. (ص 84)
وفي الرواية تلميحات كثيرة بنفوذ طائفة المنتفعين الانتهازيين. نراهم في المستشفى يتمثلون في الممرضين والممرضات. تصارحهم سماح كاشفة سوءتهم "تهربون أدويتنا خارج المستشفى. تعيشوا منعمين ولا تعطونا إلا الفتات. تبعها الجميع: إنا فقراء محرمون من كل شيء لا نحصل إلا على الروائح والصور. رائحة الطعام. رائحة الهواء. رائحة الحياة. نريد أن نلامس شيئاً حقيقياً واحداً. أريد أن أشعر أننى ما زلت حية (ص) 76
وتشير الرواية – أيضا – إلى تغييب هؤلاء – أيضا – من قبل السلطة العليا، فهؤلاء كما يقول عايد "يختلفون عنا في أنهم يقبضون ثمنا لذاكرتهم الممحوة. بعض الطعام الطيب. الطبيب الجالس في المبنى الرئيس يتحكم في كل شيء. لا يستطيع أحد الاقتراب منه. (ص 85)
وفي الرواية – أيضا – تلميحات عدة لما يجري في الواقع، منها التمثليات التي تقوم بها القيادة في عدم رغبتها البقاء في هذه المهمة إلا لخدمة الشعب، فالطبيب يعلن استقالته، والمنتفعون يرفضون، أكثر من ذلك يقومون بمسيرات تأييد له، ليقرر في النهاية عودته من أجل المرضى، في مسرحية هزلية ساقطة معلومة البداية والنهاية، وأصبح وجود القائد يأخذ صفة الهلامية، عندما يُصور بصورة خرافية، فيصبح كل شيء كما يقرر الطبيب في المستشفى.
كان عايد يوشك أن يؤمن بأن وجود الطبيب ما هو إلا وهم، سيطر على رؤوس المرضى واحتلها، وهم لا وجود له فى خيالاتهم المريضة، وذكاء الكاتب جعله من صنع فئة تحوطه، وأعتقد أن هذا المفهوم يقارب واقع كثير من الدول المتخلفة "وهم صنعوه بينهم يمشي بالمخدر والبرشام والإبر تغزو أجسادهم صباح مساء، وهم صنَّعوه وألبسوه المعطف والقفاز وتركوه يسير بينهم حتى صار حقيقة يبحثون عنها وسط زنازينهم إلى ما لا نهاية" (ص 101).
المستشفى – كما ذكرنا – رمز لمصر، وهذا لا يتنافى مع الواقع المعيش الذي حوَّل الناس إلى مرضى نتيجة للقهر السياسى الذي نعانيه، يؤكد دلالة هذا الرمز في حديثه عن بناء المستشفى، أنها بنيت منذ فترة، وجاء بناؤها تحقيقاً لحلم التقدم والنماء (بأداء المستشفى مهمتها) ولكن "كان همهم الأول والأخير أن يقتلنا الإحساس بالعجز قبل أن يضطروا إلى إطلاق فوهات بنادقهم ودانات مدافعهم نحونا. (ص 102).
مما يؤكد دلالة الرمز – هنا – نجد كثيراً من الإيحاءات بعالم الواقع، فالمستشفى رمز لبلد، كان لها تاريخ، ولكن هذا التاريخ اندثر، ولم يعد سوى حلم، وهنا يستدعى تقدم بلادنا في علم الطب، بداية من الفراعنة، ومن جاء بعدهم، حتى أن ابن النفيس كان أول من اكتشف الدورة الدموية، أما نحن فقد أضعنا كل شيء، ولم يعد سوى الحلم " كنا نملك حلما لا حدود له. ساعتها كان بإمكان الطبيب أن يقودنا إلى المستحيل، لكن ما الذى تغير، لا أحد يعرف، هل لأننا صامتون بلا ثمن؟ كان يسير بيننا نتغنى معا بالحلم، نستشرف خيوط فجره الأولى بفرح وننتظر تباشير الصباح. لم يكن هناك فارق بين طبيب أو مريض أو عامل أو ممرض. (ص 103).
وبعد ذلك تحولت هذه المؤسسات إلى أداة قمع، وأصبحت مسيسة بصورة منحرفة "بدأ كحلم طاف بخيال النزلاء والطبيب، لكنه انحرف إلى كابوس يفزع الجميع في كل وقت، كل من في المستشفى خضع لتفتيش دقيق لم يستثن منه أحد، عجائز أو شيوخ أو نساء، حتى المرضون والأمن طالهم التفتيش". (ص 111)
عندما كان الحاكم واحداً من الرعية، لا تشعر بتميزه، أما بعد ذلك فقد انفصم وتوارى وأصبحت رؤيته محالاً "الطبيب لم ينزل يوما إلى مرضاه. لم يضع يوما سماعة على صدر مريض ليعرف أين يكمن المرض" (ص 86 )
أكثر من ذلك فقد بجَّلوه إلى درجة التقديس، و بصورة هلامية، فـ "لم يكتفوا أن يجعلوه اسكندرا أحسن من فيليب المقدونى، بل جعلوه في مصاف الآلهة، لا يحق لمرضاه إلا الطاعة والشكر" (ص 104).
نظام يقوم على القمع والبطش والتعذيب خلق مجتمعاً أشبه بمستشفى (للأمراض النفسية) تعبيراً عن الأمراض التي يعيشها المواطن على هذه الأرض، وامتلأت السجون لا لجرم لهم سوى أنهم حلموا بالغد الجميل، وهنا يستخدم الكاتب تقنية الكولاج (القص واللصق) للتعبير عن الكذب والتدليس ونفي الحقائق من قبل الجهات الأمنية، فينسخ من إحدى الجرائد خبراً عنوانه "الداخلية تنفي وجود سجون تحت الأرض". وفيه "نفى أحد كبار قيادات الداخلية وجود سجون تحت الأرض مؤكداً أن جميع المودعين في السجون تحت إشراف النيابة العامة ويتم إحاطتها بقدر كبير من العناية والاهتمام" (ص 74)
نعيش مع الكاتب جو السجن وآلامه وقسوته. نعيش مع أبطال الرواية (عايد، محمود، يحيى، سهام، خضر، سلوى، ريم، سنية ...إلخ) هذه الحياة، نرى دلالة الغرفة – هنا – غرفة التعذيب القاسي، الذي أذهب ذاكرة عايد في بداية الرواية، وبعد العذاب الشديد الذي شوَّهه، وترك آثاره الظاهرة (الجروح والتهتكات) والباطنة في فقده للذاكرة، وسامه للحياة وافتقاد التذوق لجمال الحياة، وبعدما نجحوا فى مهمتهم نقلوه إلى غرفة أخرى بها محمود ويحيى اللذان أُصيبا بفقدان الذاكرة، مع إلزامهم بعدم الحلم بالغد، كل ذلك من خلال تلميحات كثيرة في الرواية، لسلوكيات هؤلاء، سواء على الواقع السياسي، أو الأخلاقي:
- (فقرة 8) أحد المصابين في أقواله لوكيل النيابة الهروب من المكان كان مستحيلا.
- وهم صنعوه بينهم يمشي بالمخدر والبرشام والإبر تغزو أجسادهم صباح مساء، وهم صنَّعوه وألبسوه المعطف والقفاز وتركوه يسير بينهم حتى صار حقيقة يبحثون عنها وسط زنازينهم إلى ما لا نهاية. (ص 101)
- تلميحات كثيرة بسلوكيات هؤلاء الانتفاعيين، منها قول سهام مواجهة لهم: أنتم تأكلون طعامنا. تهربون أدويتنا خارج المستشفى. تعيشون منعمين ولا تعطونا إلا الفتات. (ص 76)
- يتأمل الوجوه التي التفت حوله. يتأمل السماعة التي وضعت على القلب المسجى. يتأمل الشفتين اللتين قالتا: البقاء لله (ص 52)
- لا فتات امتدت من بين المباني تؤيد وتبايع وتشيد بتقدم المستشفى وريادتها بالمنطقة. احتفالات أغاني. يتردد في الخارج: عاش عاش عاش نحن فداك نحن فداك نحن فداك (ص 79)
- ذلك الكرسي الملعون الذي حبسه هناك وحبسنا هنا. أسروه بالنفاق وبتصويرنا كأشباح إن خرجت من قمقمها ستلتهم كل شيء، وأسرونا بالعجز الذي ولد الخوف والجبن والأسى، لم يستطع كل منا أن يفك أسره حتى فتك بنا المرض، ثلاثون أو أربعون أو خمسون عاما مضت.
ظل عايد يردد في نفسه قبل أن يتكلم ويهمس لصاحبه: لا بد إنه مرض الشيخوخة. طبيبنا ربما تجاوز الثمانين ونريده أن يطيب جراحنا! (ص 105 ).
وفي هذا النص تلميح لعهد مبارك الذي جاوز الثمانين من عمره وهو يمارس نشاطه السياسي، وفي الوقت نفسه تلميح إلى فترة حكم العسكر الذين حكموا قبل حسني مبارك.
- زيارة لجنة خارجية للمستشفى قبل الجمعة الحبيسة قالوا إنها تأتي لتبحث في مشاكل المرضى. (لن نلتقى غدا) جملة دائما ما تسبق زيارات اللجنة. (ص 97)
- فقرة 10 (مشرحة بغداد تستقبل 6 آلاف جثة خلال 5 أشهر بمعدل 40 جثة يوميا) أعلنت إحصائية صادرة عن مشرحة بغداد أن المشرحة تسلمت خلال الأشهر الخمسة الماضية أكثر من 6 آلاف جثة قتلت معظمها رميا بالرصاص وبدا عليها علامات التعذيب والحرمان والصعق بالكهرباء، وذكر العاملون أنهم يتسلمون ما بين 35 و40 جثة يوميا (ص 106)
- حتى سنية استباحوها دموع كثيفة احتبست بالعيون الأسى حاصرهم من كل جانب. أزاحوا الجانى بعيداً ونزلوا بهراواتهم على جسد الضحية. قالوا إن حالتها خطيرة الاضطرابات النفسية تجعلها تتخيل حدوث أشياء لا أساس لها. النزلاء صدقوهم رغم أن سنية لم تقل شيئاً (117)
ورغم كل ذلك يحلم الكاتب بالثورة في النهاية، فبعد دفن يحيى ومن قبله خضر، سار عايد "يدهس بأقدامه الأسلاك الشائكة غير عابىء بخيوط الدم التي تلاحقه. ابتسامة فرح طافت برأسه المتعب. هدأت أنفاسه اللاهثة وتأمل الفراغ الممتد. لم تكن ثمة أسوار أمامه. سار بخطوات واثقة غير عابىء بما قد يجده هناك، خلف الفراغ البعيد" (ص 123).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق