كشف حضور
بقلم: عبد القادر كعبان
الساعة تشير إلى التاسعة ليلا. لن أجد عند
عودتي للبيت أحدا. أفضل الجلوس في احد المقاهي. أتأمل كالعادة وجوه الناس المارة
والجالسة من حولي. فتحت علبة السجائر. أشعلت سيجارة. أصبحت مدمنا على التدخين.
سألني النادل بعفوية مبتسما:
- ماذا تشرب؟
أجبته بنبرة حزن:
- فنجان قهوة من فضلك..
اليوم بدأت أفهم ما تجاهلت فهمه لفترة طويلة.
زوجتي تواصل خداعي. الأبناء يتصرفون بحرية مفرطة. حاولت تدخين سيجارة أخرى مانعا
نفسي من التفكير.
عادت صور وجوههم تصفع ذاكرتي. ابنتي البكر
طالبة جامعية. أظنها على علاقة مع احدهم. شيء ما في عينيها كلما خرجت يوميا يذكرني
بأمها. هي الأخرى تعمل في محل لبيع الملابس. أتنهد وأقول بيني وبين نفسي:
- أتمنى لو كانت ظروف عملي أحسن.
مددت يدي نحو فنجان القهوة المنسي. أضفت إليه
قطعة من السكر. حاولت رفع تلك الملعقة الصغيرة. لم أستطع. باغتني الفضول من جديد.
زوجتي اشترطت علي العمل. الدخل اليومي الذي أجنيه ضعيف جدا. وافقتها على الفور.
الأبناء بحاجة إلى المصاريف. تلح علي صورة ابنتي من جديد وهي تقول لي:
- اليوم سأعود متأخرة إلى البيت يا أبي..
سألتها:
- لماذا؟
قالت:
- سأذهب إلى بيت صديقتي لنقوم بجملة من
البحوث سويا..
وددت لو أرد لكنني اكتفيت بالصمت. لم أكن
أعلم إن كانت صادقة فيما تقوله. أمها كانت تشجعها دائما على الخروج. هي ترى أن
المرأة تحتاج لتتنفس عطر الحرية. يومها لم أستطع أن أكتم غيضي. اجتاحتني رغبة قوية
في الكلام. قلت بنبرة لا تخلو من الغضب:
- ماذا يدفعك للتأخر كل ليلة يا امرأة؟
انتصبت واقفة وأجابت:
- أعمل لساعات طويلة كما تعلم.. ما مشكلتك؟!
أجبتها بعصبية:
- ما سر ذلك التأخير؟!
صمتت لثواني قبل أن تسترسل في الكلام:
- لست خادمة في هذا المنزل لكي توقع على كشف
حضور يلزمها بحجم ساعي تختاره أنت..
تعجبت كيف انفكت عقدة لسانها. لطالما كانت
امرأة هادئة وقليلة الكلام. اكتشفت أن ظروف الحياة الصعبة تغير الكثير من ملامحنا
البريئة. هي اليوم تعيش من أجل أولادها فقط.
أحسست بنفورها مني كلما دخلت غرفتنا. كررت
ذلك في العديد من المرات. كان يحدث أحيانا أن تستلقي على سريرنا وتطلب مني أن
أستلقي بجانبها. تطبع ليلتها قبلة على رأسي قبل أن ننام سويا. لم أعد أفهم
تصرفاتها الغريبة.
دفعني الفضول لزيارتها في محل عملها. وجدتها
تعمل بنشاط مفرط. صاحب المحل موجود هناك. لمحته يفترس جسدها الرشيق بنظراته
الخبيثة. هي تبتسم في وجهه دون حياء. ارتبكت حينما وجدتني أقف بجوار الباب
الخارجي.
عدت أرتشف قهوتي الباردة. كنت أحس في أعماقي
بأن هناك أمرا سيئا يدور بينهما. لم تكن يومها راضية عن زيارتي. صرخت في وجهي.
أكدت علي أن لا أكرر تلك الزيارة. صاحب المحل يرفض ذلك. كررت أن راتبها يساعد على
تغطية مصاريف البيت. انسحبت بعدها وتركتني أغرق وحيدا في بحر الصمت.
فجأة سمعت أحد رواد المقاهي يرفع صوته. كان
يتحدث إلى صاحبه عن خبر نشرته الصحف. أخبارها تهيمن يوميا على عقول العامة. علمت
أنه يتحدث عن رجل قتل زوجته بسبب شكه في خيانتها له. حينها رن هاتفي المحمول. كانت
ابنتي البكر تتحدث بتوتر شديد وتتوسل إلى أن أوافيها من فوري إلى البيت. دفعت ثمن
القهوة وتركت ذلك المكان بخطوات متثاقلة يرافقها القلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق