بقلم: عبد القادر كعبان*
إن فكرة كتابة المسرحية الموسومة "مجنون
يتحدى القدر" للمبدع العراقي يوسف العاني جاءت وليدة للسخرية من الواقع الذي
يعيشه الإنسان، وكأنه بصدد رسم شخصيات على الورق ترفض الخوف وتستبدله بالتمرد على
كل ما يحيط بها من تلك الظواهر المؤسية والمؤلمة بهدف التغيير.
يمكن أن نقول أن هذه المسرحية تبدو واقعية
الملامح، لأنها نابعة من معاناة الإنسان كان عاقلا أو مجنونا في العموم، حولت خشبة
المسرح إلى حقيقة نعيشها يوميا في مصارعة القدر الذي قد يفوق المتخيل في كثير من
الأحيان.
يقول المسرحي يوسف العاني في مقدمة هذه
المسرحية أن الفضل في كتابة هذا النص يعود لأستاذه أحمد محمد خليفة الذي درسه علم
النفس، فأثر فيه وزاده ذلك تعلقا وغوصا في سطوره: "أستاذي أحمد محمد خليفة
بقدرته الفائقة وشخصيته الساحرة في إيضاح ما يعسر عملنا وترغيبنا في معرفة كل ما
يريد في محاضراته المكثفة والمشوقة والتي تحمل دلالات علمية جديدة علينا.. هذا
الدرس أوحى لي بشخصية مصابة بمرض الكآبة يتمثل الأشياء يراها أمامه وهي غير موجودة
إلا في مخيلته.. لقد أحببت هذه الشخصية وتمنيت لو مثلتها على المسرح.. هكذا كانت
بداية التصور والرغبة في أن أكتبها أو أصورها. أي الشخصية مسرحيا. المرحلة الثانية
إنني تمثلتها تحمل معاناة تساؤلاتي التي أشرت إليها، وأنها تحاسب من تسبب في مأساة
إنساننا.. تقف أمامه مسرحيا، تحاكيه تحاكمه، تتحداه." (ص-ص 34-35).
تبدو مسرحية "مجنون يتحدى القدر"
اجتماعية لأنها قائمة على ثورة التغيير الذي يرفضه القدر، والذي يعد بدوره شخصية
رئيسية تقف في وجه شخصية المجنون الذي يثير اللهفة والتشويق في نفسية المشاهد منذ
الوهلة الأولى، لرغبته الملحة في التحرر من قيود قدره، وهي مسرحية قصيرة بشكل عام.
تبدأ المسرحية بتقديم المكان الذي يتمثل في
قاعة من قاعات مستشفى المجانين المظلمة وهو مكان واحد لا يتغير، من هنا يتعرف
المشاهد على شخصية المجنون الذي يدخل في حوار طويل مع القدر بعد سماع أصوات مرتفعة
في البداية مجهولة المصدر، فيشعر البطل –المجنون- بالخوف والاضطراب، ويبدأ في
الحركة من مكان إلى آخر.
بعد هدوء تلك الأصوات يعود المجنون للتحدث
إلى القدر وكأنه مخلوق مثله يقابله وجها لوجه، ويحاول هذا الأخير من خلال استعانته
بنبرة السخرية أن يزيد من تلك الأزمة النفسية التي تلازم البطل حتى آخر مشهد في
المسرحية، كما نقرأ ذلك في المشهد الموالي: "المجنون: أنت ماذا؟ إنسان؟
القدر: أهذا يهمك؟
المجنون: يهمني جدا..
القدر: (ساخرا) إلى هذا الحد.. إذا فهاك
حقيقتي ولا تلح بعد هذا بالسؤال.. إنني.. إنني.. أنا القدر! (يضحك)
المجنون: (متبرما) قل من أنت أيها القاسي..
القدر: أنا الساخر منك.. الهازئ بك.. الضاحك
عليك " (ص 40).
وتمر لحظات ويدخل كلاهما –المجنون والقدر- في
جدل عقيم عن الناس الذين يراهم الأول ضحايا للثاني، ومن هنا تبدأ الأحداث في
التصاعد نحو التعقيد، لأن المجنون يثور على القدر فيقرر مقاضاته: "المجنون:
أريد مقاضاتك إذن..
القدر: تقاضيني؟ يا للعجب؟
المجنون: ولما العجب؟ ألست الظالم وأنا
المظلوم؟
ألست الطاغي وأنا الضعيف؟
ألست المسرور وأنا المكروب؟" (ص 41).
من يتأمل المسرحية منذ البداية، سيلاحظ أنها
تركز على نفسية المجنون الذي يرفض رفضا قاطعا واقعه الذي تسبب فيه القدر، كونه قد
ظلمه وحرمه ولده وزوجه وصديقه المقرب حتى أن فكرة الانتقام تراوده: "القدر:
(يضحك) إنه سلاح القرن العشرين!
المجنون: إنني احتقرك.. احتقرك ولا أخشاك..
سأنتقم منك.. (يحاول المجنون الهجوم على مصادر الصوت)
القدر: (يصرخ في وجه المجنون صرخة عالية
توقفه في مكان دون حراك).." (ص 43).
جاء الحوار واضحا لا يخلو من الواقعية
المريرة، التي تتناسب مع شخصية المجنون تحديدا، لكونها ترسم بعدا رمزيا لكل ما مر
ويمر به في مجتمعه الذي تنقصه الديمقراطية، وقد يبدو ذلك من خلال المشهد الآتي: "المجنون:
أنا.. أنا لست ظالما.
القدر: كلكم سواسية.. تنشدون العدل وتظلمون..
وتبنون الصلاح وتفسدون.. كل منكم يضع اللوم على غيره، ناسيا أنه شريكه.. لقد فسد
المجتمع بفسادكم، وأوشك العالم أن يفسد.. لولا بقية من نور.. أجبني.. ألست واحدا
من هؤلاء الناس؟" (ص 46).
بمواصلة الحوار بين الشخصيتين، نستنتج نقطة
الصدام التي تكشف طبيعة الإنسان الذي لا يخلو من مشاعر الأنانية، وقسوة القدر هي
التي تساعده على التشبث بذلك الشعور الذي يعكس الصراع الدرامي في هذه المسرحية
ببراعة: "القدر: (يقترب منه) لم لا تكون شريكي؟
المجنون: شريكك.. بماذا؟
القدر: شريكي بأفعالي.." (ص 48).
تنتهي المسرحية على ذلك الاصطدام الدرامي بين
المجنون المتمسك بفكرة الانتقام، والقدر الذي يواصل سياسة التخويف التي لا تخلو من
لكنة السخرية: "القدر: (ضاحكا) ولكنني أستطيع..
المجنون: (صارخا) لن تستطيع..
القدر: (يهم بالخروج حيث يبتعد الصوت) ستبدي
لك الأيام.. ستبدي لك الأيام" (ص 49).
يذكر أن مسرحية "مجنون يتحدى
القدر" قد كتبها وقدمها المبدع العراقي يوسف العاني على المسرح يوم
03/02/1950 وهي أول مسرحية (المونو دراما) تقدم في الساحة المسرحية العربية عموما
كما جاء لسان كاتبها، وقد عكست بامتياز واقع الإنسان ومخاوفه القدرية التي يعيشها
في محيطه الاجتماعي.
المصدر
(1) يوسف العاني: الصرير خمس مسرحيات قصيرة ،
دار المدى للثقافة والنشر،2008.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق