2016/08/08

من وقاحات اليومي بقلم: محرز راشدي



من وقاحات اليومي
بقلم: محرز راشدي
كاتب تونسيّ
عند الظّهيرة، الشّمس متوهّجة، أشعّتها تذوّب الأدمغة، وتشكّلها ضفادع. كنت مع جمع من السّابلة في انتظار الحافلة، بعد يوم مُجهد، عانيت فيه ما عانيت من دروب التيه والبحث والضّياع بين الدّفاتر والأوراق والكتب والموسوعات..
والحقّ أنّ التّعب باد على الجميع، فهذا الشّيخ ذهبت التّجاعيد في وجهه شوطا، وترسّمت الأخاديد، وبانت سموم السّنين مزروعة على صفحة محيّاه.
ولكنّه أفضل منّي حالا، فرأسه مطمور تحت مظلّة من السّعف، وهي تكتسح حتّى كتفيه الضّامرين، ولذلك لا يبدي امتعاضا من أوار الشّمس، ولظى الهجير. هذا الشّيخ رغم شيخوخته الشّامخة، يُحملق في الحسان، يُصعّد ويُخفّض، يتملّى التّضاريس، ويستكين إلى أحلامه الشّبقيّة، ثمّ يُرسل مطوّلة من الزّفير، ويلفظ تنهيدة عميقة تحسب أنّ كيانه انجرف معها...ويشفع ذلك بحزمة من النفّة، يقسمها بالقسطاس بين المنخارين والفم ويركن إلى عكّازه يتحسّس صلابة عوده.
ومن ناحية أخرى، تجلس عجوز شمطاء على مشروع كرسيّ آيل للانهيار، وهي تولول لا من شدّة الحرّ فقط بل من شدّة القرّ أيضا، فالضدّ بضديده يُعرف، وحديث النّسوة عناقيد، آخذ بعضها برقاب بعض، وربّما يلوي بعضها رقاب بعض الجالسين، فتتشنّف الآذان، وتتربّص بالذّبذبات، وتتهيّأ للمداخلات، وتنزبق بين الفينة والأخرى دون سابق إنذار..هذه العجوز متضايقة من سعر التّذكرة، وهي تلهج بأحد المهرجانات، وتشدّ الأحزمة، وترجو من الله أن يمدّ في أنفاسها حتّى تشارك بالهتاف والزّغاريد والرّقص!!! في المهرجان الغنائيّ الرّاقص.
لقد انتابني ضرب من الاشمئزاز المبهم، فأنا على تعب، وعلى قدر من الملالة والسّآمة، ونفسي تحدّثني بمغادرة المكان، ولكنّ الأقدار في كلّ مرّة تجرّني جرّا إلى هذي البقاع، فتفترسني الطّرقات، ويلتهم كياني أزيز المحرّكات، ويُمزّقني الانتظار، ويحاصرني الازدحام..أجدني في سلّة من التّفاهات، لا أميّز نفسي، ولا أفقه لغتها، ولا أجد وجهتي.
ففئة الشّباب هنا، أخلاط من الوشم والرّشم والميوعة، الرّؤوس هيئات يسكنها الفراغ، ومصارف لأرصدة الفقر، والتصحّر، والخلاء من القيمة والمعنى. اللّباس لا يجيب عن أي سؤال، فالغالبية عبارة عن محامل إشهاريّة من حيث لا تدري، ولا تسل عن المآتي الجماليّة للملبس، فالألوان جربوعيّة، وفي حالات أخرى فاقعة ألوانها، ممزّقة أطرافها، متآكلة جنباتها، انخراطا في العصر، وتعبيرة عن انخرام كلّ العصور الآتية.
أمّا لغة التّخاطب، فقد مسّتها ضروب من الشّبهة والالتباس، فهي معزوفة مشروخة، ماتت استعاراتها، وأصاب مجازاتها العطب والوهن، وانقادت لحكم الغالب، فتخلّلتها مقترضات من لغة الاستعمار، وهيمن على مستعمليها الاستحمار، فباتت ملاءة رثّة، وأشكالا بالية.
بينما كنت في تخميناتي هذه، إذ بالقوم في نزع شديد، وفي نزاع عنيف، من أجل أن يركبوا الحافلة، وهي ليست حافلة بهم. واشتدّ نسق الازدحام، وبدأ الرّجم بالكلام.ومن عادات أهلنا أنّهم يجيّشون كلّ استعارات القوّة، لدحر الخصم لغويّا، ثمّ جسديّا إذا اقتضى الحال. لقد كثر الهياط والمياط، والسّائق يُنذرهم بشرّ مستطير، ويعتزم الميل إلى دكّان الخفير، والكلّ في جلبة يعبّر عن مقصوده، وباللّكمة يُبلّغ مُراده، ويشفع ذلك بالبزاق، والسّباب...فما كان منّي إلّا أن تركت مخازن القوم إلى نفاذ، وما أظنّها تستنفذ كلّ الوقاحات، واعتزمت الرّحيل مشيا، جريا على سنّة المشّائين، وتبذيرا للزّمان، وهتكا للمكان الواقع تحت هذه الأقدام المتيبّسة من طول الانتظار. 

ليست هناك تعليقات: