رايات الموتى
(ضياع الروح
بين متاهات الزمن، ووحشة المكان، وفقدان الرغبة في الحياة)
رايات الموتى تُرْفَعُ حاملةً شعاراتِ اللاأمل اللاحلم فاللارغبة
في الحياة، وبين حياتين لكل منهما معاناتها تتكشف الآلام والأزمات، آلام فراق
المحبوب يحملها قلب شاعر آمن بمن أحب، وآلام حقدِ تعيسٍ لم يعرف يوما ما الحب، بين
وليام سميث القتيل، وسعيد القاتل نكتشف معاناة الإنسان منذ الأزل، بين الحب
والبغض، والوفاء والغدر، والسمو والخطيئة.
رفع وليام رايته منذ كتب قصيدته التي تنبأ فيها بموته،
قصيدة (موت شاعر)، لكنه لم يحمل في قلبه كرها ولا حقدا على أحد، وإن كانت معاناته
مصدرها هذا العالم الذي ظل يشعر فيه بالحيرة، والذهول والضياع، تشتد الحيرة مع
فقدان (جانيت) ذلك الملاك الذي قرر أن يفارقه بلا رحمة جزاء خطيئته مع روح خبيثة
لم تحمل له غير الرغبة في الموت، روح سعت من أول وهلة إلى استغلاله والتحليق فوق
أجنحة روحه التي ظلت تبحث عن المثال، المعاناة هنا شكلتها المرأة منذ أول وهلة،
والمصير دفعته إليه حبيبته وإن لم تشاركه فيه، وكأنها كانت تدفعه ليدفع ثمن خيانته
لها مع جاسمين بريان.
أما سعيد فقد رفع رايته مدفوعا بالغل، والرغبة في
الانتقام من الحياة ومن فيها، أسموه سعيدا هو الذي لم يذق يوما إلا الشقاء، في
قاهرة مغلوبة على أمرها مثل أهلها، تبدأ قصته من حيث أول نهايته، في تلك الحافلة
التي يتصيد فيها فرائسه من النساء المغلوبات على أمرهن، يتحرش بهن، فلا يملكن
لأنفسهن إلا أن يرضخن لما فرضه عليهن الفقروضيق المكان وما به من الزحام، وما
اقتضته تقاليد تمجد الصمت على ما لا يجوز الحديث عنه اتقاء لسهام الاتهام التي
تهتك العرض، ولا تصون السمعة لأولئك اللواتي يئسن أو كدن ييئسن من قدوم ابن
الحلال.
كانت معاناة سعيد (المعتدي) مع المرأة ليست كمعاناة
وليام(المعتدى عليه)، فسعيد يركب الحافلات مبتغيا أرداف النساء كالذئب، لا يهمه
سوى أن يبلغ حد الارتواء، وعندما افتضح أمره كان من السهل أن يستحيل طعما يصطاد به
الضابط ذو الشارب الصقري سيد الذئاب (أبا مصعب)، فبين التهديد والترغيب، لا يملك
من اعتاد على الخضوع لإرغامات الحياة إلا أن يكون ما ينبغي للطعم أن يكون عليه،
دخل سعيد إلى القسم لا يملك من الحياة إلا أما فانية، وشهادة تقدير لأب قتيل كانت
أقرب إلى السخرية منها إلى التكريم بسبب موتته المخزية في بالوعة الصرف الصحي التي
كان يعمل بها، لم يرث عنه إلا فقرا وخزيا وملامح وجه ذميمة، ومسئولية أكبر من حجمه
وسنه، لاح سعيد المقيم في نفس الحي الذي يقيم فيه الشيخ أبو مصعب عميلا مثاليا
لذلك الضابط يخترق به الجماعة ويتعرف أخبارها، وبين الإغراء والتخويف لا يملك إلا
الموافقة على كل ما يطلب منه، وهناك عند أبي مصعب يخضع سعيد لإغراء من نوع جديد يحبه
إنه يحقق له حلم الزواج من امرأة لن يكلفه الزواج منها شيء، إنها زينب تلك الأرملة
البائسة، والحبيبة التي غلبها الأهل والفقر على أمرها، ها هي تقع أسيرة في يد سعيد
يتحرش بها في بيته كيفما شاء رغم كل ما تعانيه من آلام تتحمل في صمت، أو تنفلت
منها الآهات مرغمة راضية بذلك القضاء، وأخيرا يكتشف سعيد أن تلك المرأة التي
تزوجها لم تمنحه إلا جسدا متهالكا بلا روح، لقد كان قلبها مع ذلك الشاب (أحمد
الرفاعي) المرشد السياحي الذي رآها تجلس معه في شرفة المستشفى قبل أن تغادر
الحياة، حمل سعيد بعدها في قلبه كرها للنساء، وعزوفا عنهن، وعن الحياة ومن فيها،
بدا له الموت غاية يجب أن تدرك للخلاص من وحشة هذه الحياة، وبين إغراءات الشيخ،
وتهديدات الضابط تظل روحه مضطربة مثل بندول الساعة بين الرغبة في النجاة والخوف من
العقاب، كل منهما صور له النجاة بطريقته الخاصة، وكل منهما العقاب له مفهومه
الخاص، ليميل بندول سعيد نحو النجاة من هذه الدنيا إلى جنات الخلد ليرى فيها ما
وعده الشيخ، ويتجنب فيها عذابين، عذاب المعتقل في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة.
لقد كان سعيد مرسلا إليه، وكان عليه أن يؤمن بموضوع
القيمة من أحد طرفين أحدهما عن يمينه يمثل خليفة الله في أرضه يدعوه إلى جنة الله
التي سيرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والآخر رآه عن
يساره يدعوه إلى الإبلاغ عن رفاقه مقابل ذلك المال الكثير الذي ينتفخ به جيبه، وأن
يتجنب أن يكون أحد مرسلي الصرخات، والآهات التي شقت سمعه حين تركوه في المعتقل
لبضعة أيام حتى يحسم أمره، وكانت النتيجة هي أنه اختار طريقا يجنبه عذاب الدنيا
ومن فيها، ويعده بنعيم الآخرة، فاكتسب أبو مصعب ذاتا قادرة على تحقيق رغباته التي
لا تشتهي سوى رائحة الدماء التي تتناثر، والصرخات التي تتصاعد، والعيون التي تجحظ
من شدة الخوف، ولم يجد له معيقا بل كان الضابط ذو الشارب الصقري معينا له حين
أهداه شابا ناقما على الحياة وعلى أهلها لينفذ له ما ابتغى.
سعيد المعتدي في هذا المستوى ما هو إلا معتدى عليه، ضحية
للفقر، والجهل، والاستغلال سواء من الضابط الذي رماه طعما، أو من الشيخ الذي تغذى عليه.
· مسارات السرد:
يسير السرد وفق مسار متعرج زمنيا كاشف عن تلك المتاهة
التي يفرضها الزمن على جميع شخوص الرواية، فالراوي يبدأ من لحظة الاعتداء ثم يمضي
بنا في رحلة نحو ماضي كل من المعتدى عليه (وليام) والمعتدي (سعيد)، يتخللها بعض
القفزات نحو مستقبل هو في حكم الماضي قبل لحظة الاعتداء، ويتنقل بنا من مكان إلى
مكان، أماكن يغلب عليها الوحشة والضيق، يغلفها الحزن، ويغشاها الهم، وأماكن تزينها
ذكريات الفرح والحب، ومتعة الحياة، لتتكشف الأحداث الماضية موزعة على التوازي بين
كل من وليام وسعيد من ناحية، وزينب وسارا من ناحية أخرى، وجانيت وجاسمين بريان من
ناحية ثالثة، وسعيد ووليام والرفاعي من ناحية رابعة، وقد اعتمد الرواي العليم على
تقنية السرد المتعرج هذه لينقل لنا خيوط تلك المعاناة التي أدت بأبطالها إلى أن
يرفعوا جميعا رايات الموتى، فكل منهم كان ميتا بدرجة ما، فسعيد ميت بشقائه وبؤسه
وفشله وجبنه وغدره، ووليام مات حين خان حبيبته، وأوشك على موت محقق حين فارقته
ليتلقى الطلقات الغادرة في المعبد وحيدا كما تنبأ، وزينب ماتت منذ فرض عليه الزواج
بذلك الرجل الذي يكبرها مجبرة على ترك من أحبت، وأحمد الرفاعي مات حين فارقته،
ومات أكثر حين نسي زينب فيما استرقه من الحب مع سارا، وحين قرر التخلي عن زينب
والهرب من المستشفى بعد وفاتها، وجاسمين بريان مات ضميرها حين جاءت متطفلة على
أعمال ويليام، وأخيرا على حياته التي تمنت لها الموت أكثر مما كانت تتمنى لها
الحياة، أما جانيت فأخذت تتذوق مرار الموت في كل لحظة مرت على ويليام وهو يصارع
الموت، فكانت هي ذلك الملاك الحارس الذي يحول بين الرصاصة وغشاء قلبه، هي تلك
الروح التي أخذت ترد إليه الحياة:
"يا
صاحبة الوجه الملتفت، يا من أتيت تحملين العتاب، إن روحك كانت تلاحقني، تلملم
أشلائي من هنا ومن هناك، تحول بين الرصاصة والقلب" 326ص
كان الراوي في رايات الموتى يتحدث غالبا بالضمير هو،
ولكنه كان يتخلى أحيانا عن ذلك الحياد المزعوم بأن يتحدث بالضمير أنا في نفس
السياق الذي يتحدث فيه بالضمير هو تعليقا على الحدث واستشرافا لما سيؤول إليه
البطل بعد حين؛ ففي ص 36:
(( تُرَى لو
استطاع سعيد الهرب الآن؛ فهل سيغض القدر بصرَه عنه ويبحث عن شخص آخر يؤدي دوره؟
ماذا لو انتصرت إرادة سعيد اآن على القدر؟ هل سيختل توازن العالم؟
ما نعرفه
أن المذبحة تحمل إدانة واضحة لسعيد وهو يطلق الرصاص من فوهة بندقيته ليقتل وليام،
علاوة على غيره، فكيف نناقش الآن إمكانية هربه من فعل دوِّن أنه
فعله؟ أظن أن القدر سيلقي سعيدا ولو في باطن الأرض، ليمشي معه
طائعا صوب ما قدر له أن يفعله))
فهل كان الراوي يتخلى عن حياده أحيانا ليقوم بإنبائنا
بما سيحدث في المستقبل، وهو يحمل في نفسه شيئا من الشفقة على ذلك التعيس الذي دفعه
القدر إلى ذلك المصير؟
هذه المفارقات التي أقامها الراوي بين الماضي والحاضر،
وبين الماضي وما يحمله المستقبل كانت من تقنيات تشكيل حالة الحيرة والاضطراب التي
عاناها حملة الرايات، ففي ص8:
" الناس
في الشوارع غير عابئين بالحافلة البرتقالية، التي تسير ببطءٍ في شارع الوادي
المكتظ بالعربات التي تجرها الخيول، عيون أفراد الفوج مشغوفة برؤية وجوه العجائز
والصبايا أصحاب البلد، عقولهم تقيم بسرعة مقارنة بين تقاطيع تلك الوجوه الخمرية،
وتقاطيع المومياوات والصور المرسومة على جدران المعابد، بعضهم يؤمن أن هؤلاء
التعساء هم أحفاد الأجداد الذين نقشوا على الصخر مغزى الحياة وسرَّ ما بعد الموت،
فيأسون لحالهم ويودون لو يوقفوا الحافلة في عرض الطريق ليسألوا أحدهم باستغراب:
لماذا حدث لكم كل هذا الانحدار؟....."
لقد استطاع الراوي لدى هاني القط أن يضفر منظومات عدة في
تشكيل الدلالة الروائية منها تلك الشارات الحمراء التي وضعها القتلة على رؤوسهم،
والألوان، والزمان والمكان الذي انتقل بنا شرقا وغربا، ومنظومة الجنس، ومنظومة
العادات والتقاليد، والدين، والقهر الطبقي، والإشارات الجسمية التي طغى عليها
التواصل بالنظرات ذات المعاني المتباينة.
وقد اقتربت لغة السرد في معظم أجزاء الرواية من لغة
الشعر، التي جعلت الرواية رواية شاعرة يغلب عليها نوع من الغنائية السردية، ففي
الفصل الأخير مثلا نجد حوارية صامتة بين ويليام وزوجته جانيت هي أقرب إلى الدويتو
الغنائي بين العاشق ومعشوقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق