( الحبُّ في زمن الحرمان )
بقلم / محمد محمود شعبان ( حمادة )
وقفتْ أمام المرآة تنظر لوجهها الذي يسكن فيه الجمال بكل معانيه ، من منبت شعر رأسها وحتى أسفل ذقنها ومقدمة نحرها ،....ولكنّ نظرات الحزن التي تبدو في عينيها قد غيبت هذا الجمال عن يقظته وحيوته ونشاطه وحولته إلى جمال ذابل وحزين .
ـــ : فتلك الهالات السوداء أسفل عينيّ لم تكن موجودة من قبل ، وتلك التجاعيد التي تظهر بخدي لم تكن موجودة من قبل ، كيف ذلك ؟؟ أنا ما زلت في عشرينيتي ، ويظهر أني الآن في أواخر الأربعين .
تناولت علبة الدهن ( الكريم ) وأخذت منها على أصبعها ، وبدأت تضعه على أماكن التجاعيد والهالات السوداء .
ويداعب فكرَها الآن بعضُ المواقف الحميمية معه.... ، وقبل سفره الأخير ، والحياة مليئة بالحب ولا شئ غير الحب
ـ : في وقت لم أحرم من أي شئ .... في آخر مرة كان فيها هنا بجانبي ، وهو الذي وضع الكريم على وجهي وقال لي : إنه يحب أن أهتم دائما بجمالي حتى لا يذبل ... كم كانت يداه ناعمتين كيد طفل تسافر في كل مكان من وجهي ، وتستقر فيه ، وتعيش معه .
تنظر الآن إلى خزانة الملابس ( الدولاب ) ، وهوظاهر خلفها في المرآة تلتفت وتسير إليه بخطوات هادئة ....إنها تتذكره الآن وهو يعطّرها ويضع ( البرفان ) التي تحبه على صدرها ، ـ : كان دائما يحضره لي عندما يعود من السفر .... ،ومنذ رحلته الأخيرة ، وأنا أنتظره يدخل عليّ ببذلته .. بذلة الطيار الأنيقة التي يبدو بها كنسرٍ قوي البنيان شامخا ، أبيض كبدر السماء ، أسود الشعر كسكينة وطمأنينة السَّحر ..... وطــلـَّته عند رجوعه تشعرني بالأمان وكأنني غريبة مسافرة في مكاني ، وعندما أراه ...يعود قلبي لوطنه الذي تغرب عنه وقتا طويلا ..... ما زلت أذكر صوته الناعم منذ لقاءنا الأخير ، وهو يقترب من وجهي ويلامسه ويداعبه بشفتيه السميكتين النديتين ، و يهمس بأذني : وحشششششتيييييني أوي ..... يا رووووح قلبي ) .. يكون عندها كالطفل الذي يرى لعبته التي غاب عنها وقتا طويلا .. فهو يحملها ويقبلها ويرفعها ، ويخفضها .... ما أجمل أوقات الحب معك يا حبيبي !! وما أقصرها ــ أيضا ــ !! ... كل هذا الطيف الجميل يهدهدني بل يزلزلني يا حبيبي الغائب .. أبدا .. أبدا لن أنساك .. فأنت كهفي الذي آوي إليه ، وأنسى فيه متاعبي ، وأنت مغتسلي البارد الذي أتتطهر فيه من أوجاعي ومتاعبي .
وصلت إلى ( الدولاب ) فتحته .. الفساتين المرصوصة بدقة وعناية ، وكثير منها ما زال مغلَّفا ولم يلبس .. وكلها تفوح منها رائحة الذكريات الجميلة ، وكلها هدية
من حبيبيها ( هشام )
ــ : هذا أحضره لي من رحلته إلى الهند ، و... هذه ( العباية ) من ( خان
الخليلي ) عندما كنا نتجول معا عاشقين ملأ الفرح حياتهما ... غرَّين غير عابئين بمشاكل الحياة وهمومها ، .. أما هذا القميص الأحمر الشفاف فهو من ( فرنسا ) بلد النور والجمال ... ذوقك جميل يا هشام تُحسن اختيار الألوان دائما تعلم ما أريد وتقرأ خواطري وتشم رغباتي وتلمس أحاسيسي ، أنت تعيش بداخلي وتتجول في عقلي ، وأقوم معك برحلاتطويلة وجميلة ...... كل ذلك وأكثر لم أجده في غيرك يا حبيبي .. يا من ملكت أمري ، وتحكمت في كل تصرفاتي ... بحبي لك ، وكأنني دمية تحركها خيوط المحبة والعطف وهي تتحرك كما يريدها صاحبها ... لقد أطلت الغيبة هذه المرة ـ يا حبيبي ـ ما عدت قادرة على الانتظار ... الانتظار كائن مرعب يهدد كياني ، ويخترق أوصالي ،و يعبث برغباتي .. أنت حقا متميز .... ومتفرد ، ولا أعرف السبب .. أهو لأنك حبي الأول ؟.. أم لأنك توصلت إلى أزرار عقلي فأنا بين يديك كالكمبيوتر تغذيه بما تحب وتريد ... ، ويعطيك هو ما تحب وتريد .
وما زلت أبحث عنك في الوجوه الطائرة حولى كالحدءات تحاول أن تنهشني ، بل هي تفترسني الآن ... الآن يا حبيبي .. أمد إليك يدي فانتشلني وانقذ ما تبقى من بعضي .
المكان يعج بالضيوف ، والرجال هنا أكثر من النساء ، والنساء يخطبن ود الرجال ، وحول كل واحد خمسة أو أكثر ، ... وتسألني أمي :
ــ إيه رأيك في احمد ابن طنت ( شاهي ) ؟
ــ هوفين ده ؟
ـ أهو قدامك جنب (صافي ) .. شوفي البت ها تكلو بعنيها ازاي .
ـ آآه .. ما بيعجبنيش ( وتلفت نظرها عنه ويبدو أنها تتفرس بعض الوجوه )
ـ طب إيه رأيك في المهندس ( وسام ) ؟ .. طيِّب وابن حلال .
ــ أنا عارفه عنه حاجات أكتر من اللي تعرفيها انتي يا ماما !!
ـ طب ........( لم تستطع أمها أن تكمل .. حيث قاطعتها )
ـ يا ماما يا حبيبتي أنا عارفاهم كلهم ، وأحسن واحد فيهم ما يستهلش إنك تجيبي اسمه ـ حتي ـ على لسانك .. كلهم زبالة ... صدقيني !!
أعود لبيتي ومرآتي الحبيبة والتي يطل منها وجهك الجميل يا حبيبي ، وأنت تقف بجانبي وتنثر شعري ، وتختار ما تحب أن ألبسه لك ، ليتك لم تسافر ـ يا حبيبي ـ هذه المرة !! ليتك لم تسافر يا حبيبي هذه المرة !!
ـ : إنني أنتظره الآن ... لقد همس في أذني أثناء الحفلة ، وقال : هجيلك الليلة دي ... استانيني الساعه اتناشر .
تر ى هل سيحضر ؟ ترى هل سيتأخر كعادة الآخرين ؟ أنا الآن أشتاق لمعرفته وأشتاق إلى اكتشاف أسراره .. ترى هل سيكون مميزا ؟ .. أم سيكون كغيره ممن عرفتهم ... بعد سفرك وغيابك الطويل بعد رحلتك الأخيرة المشئومة ... ـ يا حبيبي ـ ... نعم أنت حبيبي ، وما زلت حبيبي ، ولن يعوض حرماني منك أحد غيرك .
"" أنا الآن كشجرة التوت في أيام الشتاء . ""
* الزقازيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق