2012/10/03

الهُوية المصرية بين الإخوان والإنجليز بقلم: فؤاد قنديل



الهُوية  المصرية بين الإخوان والإنجليز
  فؤاد قنديل

       الهُوية مصطلح  مشتق من " الهُو " حسب تقسيم فرويد للشخصية التي تتكون من الهو  ( المكونات الأساسية الفطرية والمكتسبة ) والأنا ( الحالة االنفسية والعقلية ) والأنا الأعلي ( المتأثرة بالضمير والعرف والقانون ).. الهوية إذن تعني السمات الجوهرية لكيان ما سواء كان فردا أو جماعة ، وتتكون من عناصر متعددة بحيث تكون قادرة على تعريف الشخص أو الشعب ، وهوية الفرد  تتضمن اسمه وشكله وصفاته الجسدية وطباعه وثقافته ، أما هوية الأمة فتتضمن العناصر المشتركة التي تجمع أفرادها وتميزهم عن غيرهم ، مثل الأرض واللغة والتاريخ والحضارة والثقافة والمزاج وبعض الملامح الجسدية ، مع الأخذ في الاعتبار أن الهوية بُعد إنساني ديناميكي يحتمل التطوير في إطار الثوابت .
     من المعروف أن الأمة المصرية طوال التاريخ تعرضت لعمليات غزو ومحاولات محمومة لتبديل ملامحها النفسية والمزاجية والدينية فلم تفلح ، فلا أصبحت شيعية مع الحضور المتغلغل للفاطميين ولا صارت عثمانية إبان تعاظم الإمبراطورية العثمانية وكانت مصر ولاية من ولاياتها ، ولا استطاع الإنجليز رغم احتلالها لمدة أربعة وسبعين عاما تغيير ثقافة الشعب ولا قضوا على خفة ظله وميله للدعابة ولا استقر حكمهم وتمكن في ظل العديد من الثورات وعمليات مستمرة من المقاومة بالسلاح والكلمة والمقاطعة . وظلت مصر بللورة تجمعت فيها عصارة الحضارات الأصيلة التي عاشتها منذ عصر الأسرات في مصر القديمة حيث قدمت للعالم  إسهامات بالغة الأهمية في الفلسفة والطب والفلك والآداب والفنون خاصة النحت والعمارة ، وبعد ثلاثة آلاف عام من الحضارة والإبداع تراجعت شمس الفراعنة لتظهر في الأفق غيوم الاحتلال الروماني الاستبدادي .
       من أهم ملامح تلك الفترة استقبال مصر للعائلة المقدسة الهاربة من طغيان الرومان حيث رعت السيدة العذراء ووليدها ، وأصبحت فيما بعد من أوائل الدول التي انتشرت فيها المسيحية وتشهد الآثار والكنائس والأديرة وشتي المعالم المسيحية على هذه الفترة المزدهرة بالثقافة والفنون حتى دخل الإسلام مصر فأقبل عليه المصريون الذين عانوا من بقايا الحكم الروماني الأحمق ، وما لبث الدين الجديد أن غيّر وجه الحياة على أرض الكنانة وانضوي الجميع تحت رايته السمحة لتعيش مصر عدة قرون في استقرار ورغد إلى ما بعد حكم أحمد بن طولون لتتوالي فترات تعسة من الحكم والتحكم ، لكن هوية المصريين ظلت كما هي وكما جبلوا مذ خلقوا على ضفاف النيل . محبون للاستقرار والزراعة والتكاتف والتجمع لا يكاد يزعجهم التكدس حول الوادي . ميالون بالفطرة للتدين الوسطى البسيط الذي يرتوي من أعذب الدعوات  التي تبشر ولا تنفر ، والدين يسر لا عسر والدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ،والدين المعاملة  واحترام الجار والحفاظ عليه كالأخ وأكثر، واللي يعوزه بيتك يحرم ع الجامع ، والمسيحية أقرب الأديان إلى قلوبنا لأن من رجالها قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون . صيغة إسلامية شكلت نسيجا متناغما استطاع أن يتآزر ويلتحم خاصة في عهود القهر ، ومن سمات الشخصية المصرية السماحة والصبر والفكاهة كشكل من أشكال المقاومة . وهم محبون للفنون خاصة الحكي والتمثيل والسخرية والأمثال الشعبية والغرام بسير الأبطال ، قادرون في كل وقت علي احتواء الغريب بحيث يأنس إليهم حتى لو جاء معتديا، هوية المصريين فيما يبدو صنعوها لأنفسهم وهي تناسبهم ولا يمكن تصورهم بدونها وهكذا يراهم الآخرون ، ولا يمنع هذا من الإقرار بأن ثمة مثالب في الشخصية المصرية ليست في الغالب أصيلة بقدر ما هي نتاج وتأثر طبيعي تحت وطأة المحتلين وما أقساهم وأغباهم . ومع ذلك فلم تتمكن قوة من محو الشخصية المصرية أو تحويلها مهما طال حكمها ، وقد كان بإمكان الإنجليز أن يفعلوا شيئا من ذلك كما حدث في الشمال الإفريقي على يد الفرنسيين والإيطاليين ، لكنهم برغم السلاح والبطش والسيطرة الكاملة على كل شئون البلاد لم يستطيعوا خلخلة الهوية المصرية التي ظلت كما هي أيضا بعد ثورة يوليو 52 ، وحتى ثورة يناير 2011. وإن تأثرت الهوية مؤقتا منذ تدشين أسوأ مشروعات القرن العشرين وهو الانفتاح الاستهلاكي الذي انفجر عام 1974مثل بركان أطلق النزوات نحو عالم المال بصورة  محمومة وصادمة جرت البلاد إلى مواقف تعسة ترسخت بفضل سياسات الرئيس المخلوع والذي لم يتمتع بأية ميزة .
      لكن هوية مصر الآن تتعرض لحملة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد لتبديلها وانتزاع روحها ، يعمل عليها بدأب غريب جماعة " الإخوان المسلمون " بعد أن تغلغلوا كسكين في الجبن حيث ابتلعوا في شهور قليلة أغلب وأهم مؤسسات الدولة واعتلوا قيادتها من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزارة والوزارة ذاتها والنقابات ومجلسي الشعب والشوري واللجنة التأسيسية لوضع الدستور والمحافظات وفي طريقهم حثيثا إلى المجالس المحلية. مشهد يذكر ببعض الأصياف التي تحمل فيها الرياح جيوش الجراد قادمة من الصحراء إلى الأرض المزروعة لتنقض عليها وخلال أيام تقضي على ملايين الأفدنة التي كانت عامرة بالخضروات والفاكهة ومحاصيل الحبوب فيتهدد كل حي على الأرض المنكوبة .
       ها هو الرئيس رغم كل ما يجري من الأخونة الخانقة التي لا تطيقها الروح المصرية يقول : مصر دولة مدنية . ، ويسأله الناس عن جبال المشكلات فيقول لهم : أنا أحبكم ، وأدعو الله من أجلكم فتحابوا وثقوا أنني خادمكم وأسهر الليل من أجلكم .. يقولون له : وماذا عن المستقبل ؟.. فيقول : بيد الله .. ثم يمضي الرجل ليخطب ويخطب وهو للحق مفوه وتمده قريحته بالوعود كأنه آلة مخصصة فقط لإنتاج ما لا يستطيع تنفيذه .. كلام متواصل يفرح له الأطفال والسذج..  ولا يصدق عليه إلا الشطرة الأولي من قول الشاعر :
       يعطيك من طرف اللسان حلاوة      
      يعلن الرجل أنه بلا مطالب  وأنه خادم الجماهير فإذا به يصلي في المسجد خلف الحراس الأشاوس ،والمركبات تحوطه في الشوارع ليتوقف السير وتنسد السبل ، ولا يتم ذلك بالمجان وإنما تنفق الدولة عشرات الملايين على كل حركة يقدم عليها ومنها الأسفار والمرور على المساجد. أما وزير التعليم فقد غيّر صفحات وعبارات من بعض الكتب المدرسية ومنها على سبيل المثال كتاب " التربية الوطنية " للسنة الأولي الثانوية ليؤكد في الصفحة الأولي منه : الانتماء لا يكون إلا للجماعة الدينية .. مرة ثانية وعاشرة .. الانتماء لا يكون إلا للجماعة الدينية . ويكرر كلمة جماعة في كل موقف ، وكأن الحياة بكافة تشكيلاتها ليست إلا الجماعة ولا يحمل أي كيان غير صفة الجماعة .
      ومثله وأسوأ ، قسَم مدير المخابرات الذي كتبه الإخوان له وينص علي أن : الولاء الكامل فقط لرئيس الجمهورية .. كوارث دستورية بكل ما تعنيه الكلمة ، ولم أسمع أن أحدا تحرك .. ناهيك عن الهجوم على الأدباء والفنانين وتغيير رؤساء تحرير الصحف القومية  وحبس الصحفيين في الوقت الذي يقول فيه د. مرسي : الحياة لا غني لها عن الفن وأنا أقدر المثقفين ، ولابد من حرية الصحافة ولا تجريم لحرية التعبير .. الدكتور مرسي ذو وجه بريء ولسانه نافورة كلام معسول بينما العمل تحت الطاولة وفي السراديب يمضي على قدم وساق لتنفيذ الخطة التي تركز على هدف واحد هو محو الهوية المصرية . فانتبهوا وأفيقوا فالسيارة تعود بسرعة إلى الخلف .
   

ليست هناك تعليقات: