2012/11/23

أنا.. وشاعر.. وقصيدة / ذكريات شخصية جدا (1) بقلم:أحمد محسن العمودي



أنا.. وشاعر.. وقصيدة / ذكريات شخصية جدا (1)

أحمد محسن العمودي*
هي ذكرى شخصيّة جدا حول شاعر ما، وقصيدة  بعينها من شعره.. أخذتني بعيدا في ذلك الوقت الملئ بسذاجة وبراءة تلك المرحلة المبكرة من  عمري التي بدأتُ فيها ألجُ عالم القراءة والكتب.

( شاعر الحِجاز، كمِثل الحجاز.. جميل )
الشاعر/ محمد حسن فقي
(1914 _ 2004)

معظم هذه الذكريات.. يكاد أن يكون القاسم المشترك فيها، هو أنها -بطريقة أو أخرى- اسْتُهِلَّتْ مِنْ.. وفي مكتبة ابن عمِّي الشخصيَّة (المعقولة كمّا ونوعا) -وهو أيضا زوج أختي الكبرى- حيث بدأتُ خطواتي نحو القراءة. وفُتِحَ لي عالم آخر وجديد عليّ، الأمر الذي جعلني معتكفا عند (دَرْفَات) مكتبته في منزله.. حتى أتيتُ على آخر مافيها ومن ثم بدأتُ رحلتي في حوانيت الكتب للتقليب والاقتناء، ومن ثم تكوين مكتبتي الخاصة التي أصبحت عبئا -فيما بعد- على البيت وعلى والدتي تحديدا، مما جعلها، تأخُذني على حين غِرّة، وتستغل فرصة سفري للخارج -بغرض إتمام دراستي- فقامت بجمعها ولملمتها.. طبعا بمشاركة بعض أخواتي في الجريمة، وتعبئتها في عدة صناديق ورقية كبيرة (كراتين) وإحكام إغلاقها ومن ثم إداعها (مستودع) صغير في بيت أختي!
ماعلينا..

تقريبا.. كنتُ طالبا في الإعدادية -لم أعد أذكر بالضبط- حين شدني الفضول إلى مكتبة زوج أختي -أو (رَحِيْمِي) كما يُطلق أهل الحجاز على زوج الأخت- وتحديدا نحو شكل الكتب وهيئتها المهيبة في رصفها بعناية أكثر من أي شئ آخر..
وحين بدأت التقليب في أرفُف المكتبة الأنيقة شكلا، وبحس "الولد الـمُراهق" حينها أو المقبل على المراهقة، وجدتني مثل "علي بابا" الذي وقع على كنز في المغارة.
والكنز –بالنسبة لي- لم يكن الكتب فقط، إذْ وجدت بين صفحات بعض الكتب وفي حواشيها ومن خلفها وأمامها.. بعضا من بواقي وآثار عابرة لـ(تـَخْبيْصَات) فترة شباب ماقبل الزواج الخاصة بزوج أختي الذي أحبه جدا..
لكنها –كما اتضح لي من آثار الجريمة الباقية- (تخبيصات) لا تخلو مطلقا من الرُقي والبراءة.
فهنا إهداء من "نجوى"، وفي وسط تلك الرواية بضعة كلمات من "سلوى"...الخ
وفي الجهة الأخرى رقم هاتف لفلانة ، وآخر لِعلَّانة –بالطبع هاتف أرضي.. لا غير، فحَبِّيْبَة ذاك الزمن، كان الواحد منهم، ينتظر لينام أهل الأرض جميعا، ومعهم أهل المريخ، كي يتمكن من قول: "ألووو" لحبيبته..
ههههه..  غلَابَة كانوا، وبيشقوا فعلا.

رجاءً.. لا يأتي هنا من يقول: "وبالطبع أنت يا (ابوحميد) –ومن باب النزاهة وحفظ الخصوصيات- لم تطّلع على هذه الخصوصيات، وتجاهلتها إلى ما يهمك من قراءة الكتب! لأني سأرد قائلا:"في الوقت الحالي، نعم.. هذا ديدني بلا تصنع، أما في ذاك الوقت، فــ(خذو عيني شوفو بيها)!
إذْ لم أكن أكثر من مشروع مراااهق، ولم يكن في الكنز-أي المحتويات- ما يخدش الحياء على الإطلاق، ثم أنّه من قال له –أي لرحيمي- أن لا يتخلص من آثار تلك (التخبيصات) الساذجة بعد أن استقرّ ووَقَعَ في شباك (أُختنا المصون)؟!!
عموما.. في تلك الأثناء، هو كان في وادي: الزواج والمسؤولية.. غارقا حتى أذنية..
وأختنا المصون، تُسدِّد في شباكه طفلا وراء طفل.. حتى ربطته ربطا..
بينما كُتُبه ومكتبته وآثار (تخبيصاته) بأكملها كانت في وادٍ آخر..
ألا وهو: وادي (أبوحميد) الذي كان مقبل على الدنيا غير مدبر.
المهم..
في خضم ذلك.. كنتُ أتساءل بشغف، لماذا (فلانة) تهديه هذا الكتاب؟
فأقرأ الكتاب، فأجدها رواية جميلة –بالتأكيد عاطفية، أُمَّال حتكون بوليسية؟!..
- وهنا لماذا تحتوي دفتي هذا الكتاب على هكذا ورقة ببضع كلمات حنونة؟
فأقرأه.. فأجد شعرا يدندنن دواخلي..
بما "أدري.. ولا أدري".. على رأي البدوي القديم (علي بن الجهم)
... الخ.

ومن هذا الباب، دخلت عالم القراءة.. حتى نسيتُ زوج أختي وبقايا ذكرياته المكتبية وشبابه الـمَقْضِيّ عليه –بالضربة القاضية- على يدي كبرى أخواتي!
هنا ملاحظة غير عابرة، والتي تُظهر مدى رَزَانة هذا الولد الذي كُنتهُ..
فبرغم كل ذلك، إلا أني لم آتِ على ذكر أيّ مـما وجدت من هذه التخبيصات أمام زوجته (أي أختي).. مع العلم أنها الأقرب إلى نفسي وقلبي ضمن أخوتي الستة، فقد كنتُ عاااااقلا منذ حداثة أسناني..
وفي رواية أخرى: "كنت عاقلا منذ وُلِدتُ.. ومنذ البزّازة في فمي"!!

حسنا..
كنت أجد من ضمن ما أجده في مغارة.. قصدي مكتبة (رحيمي)، قصاصات من صحف أو مجلات قديمة لقصيدة ما أو مقالة أو حوار صحفي وغيره.
وفي وسط -إن لم تخني الذاكرة- أحد أجزاء (ألف ليلة وليلة) وجدت قصاصة صفراء قديمة من صحيفة (المدينة) السعودية. وهي عبارة عن النصف العلوي من إحد الصفحات وتحتوي قصيدة عمودية اسمها "صانعة المستحيل"..
تتكون من أربع مقاطع، لـلشاعر المكِّي الحجازي الكبير (محمد حسن فقي) وبأعلاها صورة شخصية صغيرة له -بالأبيض والأسود طبعا، فذاك الوقت يعتبر العصر الحجري بالنسبة إلى اليوم- وملامحة الحجازية الوقورة الجذابة تكاد أن تنطق في الصورة، وكم هو كبير عشقي للملامح الحجازية والتي هي أشبه بملخص لمختلف السِحنات العربية .

كانت هذه بالطبع أول مرة أقرأ اسم الشاعر الكبير وشيئا من شعره، الذي قرأته كثيرا فيما بعد، خصوصا ديوانه الأول (قدر.. ورجل).
 وبصراحة.. وبرغم أنه يُعتبر من الشعراء الذين يقفون وسطا بين مدرسة الإحياء الكلاسيكية وبين الرومنسية، وبرغم الوقار والحكمة التي تشع في شعره.. إلا أني لم أنجذب -لاحقا- كثيرا لعموم شعره الذي يغلب عليه الفكر والفلسفة والتشاؤم والنَفَس الشعري الطويل بشكل كنتُ أشعر -أحيانا- أنه مبالغ فيه.
يقول في مطلع إحدى قصائده:
عُدْتُ بلا حِسّ ولا خاطِرِ .. كأنًّني عُشٌ بلا طائِرِ
عُشٌّ كَثيبٌ نالَ منه البلَى .. يَفِيضُ بالبؤسِ على الناظِرِ
وهذه السِمة التي في البيتين، تغلب على الكثير من شعره! وبالمناسبة.. هو صاحب أكبر منجز شعري "كمّاً" .. إذ صدرت مجمل أشعاره في سبعة أو ثمانية أجزاء من الحجم الكبير، رحمه الله.

أعود إلى "قصاصة الصحيفة" المحتويه على قصيدة "صانعة المستحيل" التي وجدتها..
فكان في أعلاها.. مقدمة نثرية موجزة وجميلة، كتبها المحرر الثقافي للجريدة، يشيد بالقصيدة ويستعرض بشكل جذاب ومختصر بعض محاسنها. فكانت هذه المقدمة النثرية خير محفّز لقراءة القصيدة الطويلة من قبل مبتدء لا يزال يحاول التعرف على الفرق بين (ألِف الشعر من كُوز الدُّرَة)!

ومنذ البيت الأول للقصيدة، تَمَسْمَرْتُ مشدوها، ومُذبَهِلَّا –حلوه مذبهلا دي- من جمال الاستهلال وغرائبيته بالنسبة لي في ذلك الوقت، ووقفت عنده طويلا، ووجدت نفس الحال يتكرر عند كل بيت من الأبيات العشرة الأولى تقريبا.. حتى حفظتها، وبقيت مطولا لاحقا أدور في فلكها، وكأنها هي الشعر كله! بينما بقية القصيدة -لتي قرأتها كاملة- لم تشدني.. وأحسست ببعض الملل من طول القصيدة التي لم يجذبني باقيها كما فعل الجزء الأول منها!

يقول في استهلال قصيدته (صانعة المستحيل):
" رحَّبَتْ بي، فلذتُ بالصمتِ، حتَّى حسبتني من طولِ صمتي جمادا "

يا إلهي...
لازلت أشعر بنشوة بداية قراءتي لهذا البيت كما هي. وكأن شيئا لم يتغير في علاقتي به منذ ما يربو على (عُشْرومية) سنة ماضية!
نعم عشرومية سنة، فأنا –إن شاء الله- أشعر أني سأضرب رقما قياسيا في الأعمار..
قولوا "آمين".

فمنذ العنوان، مرورا بسياق القصيدة.. كان في داخل ذلك الولد المبتدء الذي كُنتُهُ.. شئ يضطرب تحت وقع المعاني التي يقرأها:
أي "صانعة مستحيل" هذه!!
وأي جمال هذا.. ليكون لعنة على الأرض!!
وكيف للـ(السحر والفتنة) ان تُمزق الأكباد!!
وكيف للرجل العاشق.. أن يُذعن.. منقادا.. وذليلا!!
وكيف استقام هنا، أن (الصّيْد).. هو من يغازل الصياد!!
وأي اقتدار.. ومقام للمرأة المستحيلة هذه، لتصبح فيه هي من تلتذُّ بجراحه، حتى أنها "تأبى عليها الضمادا"!!

من مثل تلك الاستفهمات والتعجبات السابقة، هي من سَحَبَ وجرَّ (الولد) الذي كنتهُ.. ليُبْهَرَ تماما بهذه القصيدة التي جعلتْ تُلاطف (سذاجاته) بكيفية هو بالتأكيد لا يعيها تماما في ذلك الحين، لكنه كان يشعر بدغدغة غريبة وجديدة منها، فحفظ المقطع الأول منها، والذي كان الأجمل بالنسبة له دون باقي القصيدة.
ومنذ أن حفظتها في ذلك الحين، لم أنساها مطلقا، بينما الآن لو أقدمتُ على حفظ بضعة أبيات.. فإنها ستصبح (في خبر كان) من ذاكرتي التي تتعكز، وأنا (لم أدخل دنيا بعد)!!
فـــــ(يااااا للمأساة) على هكذا ذاكرة.. على رأي عمنا المرحوم يوسف وهبي بيك.
وصدق من قال "التعليم في الصغر.. مثل النقش على الحجر".
ودُمتُم.

مع المقطع الأولى من القصيدة.. كما أحفظه، والذي لاحظت -بعد أن كتبته- أن به خلل!! والذي بالتأكيد تسرب من "تتابع الليل والنهار" على ذاكرتي المثقوبة أصلا!
وحيثُ أني لم أجد هذه القصيدة على (النت) ضمن قصائد الشاعر الكثيرة المنشورة به.. وحيث أن مصدرها -وهي قصاصة الصحيفة- ليست في متناول يدي هنا في (القاهرة)..
فإني أعتذر بشدة عن ذلك.
ولا.. ولم.. ولن أنسى التذكير أني بنشر هذا المقطع من القصيدة لأول مرة على النت..  أكون قد سجلت (سبقا إنـْـتـَـرْنِــتِــيـَّـا) عربيا ودوليا.. عموديا وأفقيا  كمان.

(صانعة المستحيل)
يقول الشاعر/ محمد حسن فقي:

رحَّبتْ بي، فلذتُ بالصمتِ، حتَّى حسبتني من طول صمتي جمادا
إنها.. لعنةُ الجمال على الأرض، ترى الموتَ في الهوى استشهادا
يتراءى السحرُ والفتنةُ بعينها.. سمًا يمزِّقُ الأكبادا
خِفتُ منه، ثم انثَنَيْتُ إليه.. مُذعنًا مُسلسلا إليهِ القيادا
عشتُ فيها حينًا من الدّهر، ما أعرفُ إلَّا الجَوَى وإلَّا الكيادا
أشتهيها، لكنني أرهبُ الدمعَ.. ذليلًا من حبها والسهادا
أشتهيها رُغمي، وأعلم أنني.. مثل صيدٍ يغازلُ الصيادا
يا هَلُوكًا.. تُرْديْ النفس إلى القاع، اقترابًا في حبها وابتعادا
فهي.. في القرب وَصْمةٌ، وفي البعد جراحٌ، قد أطعمتها القتادا
نازفاتٌ، لكنَّها خاضِعاتٌ، وهيَ.. تأْبَى على الجراح الضَّمَاد".



شاعر يماني مقيم بالقاهرة
Ahmed_Alamoudi24@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: