محمد نجيب مطر
الآن يستطيع أن يتنفس الصعداء وأن يعرف أخيراً طعم
الراحة ، لقد أثبت لكل الدنيا أو على الأقل لنفسه أن طريق الثراء يمكن أن يأتي عن
طريق الجهد والعلم فقط ، وليس ضرورياً أبداً أن يكون رهين المحسوبية والرشوة
والفساد، ها هو أخيراً يعقد صفقة ستغير كل مسار حياته ومسار شركته المتواضعة، إنه
لم يكتفي أن يكون مهندساً فقط ليؤسس شركة مقاولات هندسية، بل درس وثابر حتى حصل
على الدرجة السحرية، درجة الدكتوراة التي تفتح له الأبواب المغلقة وتغلفه باحترام
يحتاجه، الآن فاز بمناقصة توريد حضانات أطفال لوزارة الصحة والربح بعد تقديم أقل
سعر وأفضل منتج وأحسن مواصفات سيتعدى بمشيئة الله المليوني جنيه، وهذا المبلغ كافي
جداً لبدء عمليات جديدة والدخول على استحياء إلى عالم الكبار، وبجهده وبعرقة فقط، لقد
تلقى لتوه نبأ ترسية المناقصة عليه ولقد تسلم بالفعل من الوزارة ما يفيد بتكليفة
بتوريد الحضانات، الباقي كله إجراءات بنكية روتينية معروفة سلفاً وما هي إلا وقت
قصير ويتسلم الدفعة الأولى من المبلغ ليبدأ التوريد.
في الطريق إلى المكتب راودته الأحلام الوردية فسيشتري
لزوجته سواراً غالياً من الذهب ولابنتيه ثياباً غالية من أفخم الأنواع ولولده الطيب
التي لا يطلب شيئاً سيارة يذهب بها إلى كليته، ولن ينسى أن يتبرع بجزء من ماله إلى
الفقراء والمسكاكين حتى يبارك الله له في رزقه.
وعند وصوله إلى المكتب استقبله المدير والموظفون وكأنه
عريس ليلة زفافه، كان الكل سعيداَ بالفوز في هذه المناقصة التي تعني للمكتب الكثير،
لقد حبسوا أنفاسهم حتى ظهرت النتيجة فأطلق الجميع العنان لآمالهم بالمكافآت
والترقيات التي سينالوها نتيجة هذه الصفقة، فالدكتور معروف بكرمه الشديد حينما
يرزقه الله، وهمس مدير المكتب في أذنه أن هناك من ينتظره في من وزارة الصحة،
فاستولت عليه الحيرة، إنه قادم لتوه من الوزارة ومعه خطاب المناقصة، من عساهم
يكونون ؟ وماذا يريدون؟؟
دخل إلى مكتبه وسلم عليهم في ارتباك فهنأوه بالمناقصة
فشكرهم وبعد أن جلس على مكتبه سألهم ماذا يشربون، فقالوا له لقد قاموا بالواجب
ولكن لدينا كلمتين نريد أن نحدثك بهما على انفراد ودون أن يزعجنا أحد.
طلب الدكتور من المدير والسكرتيرة عدم إزعاجه لوجوده في
اجتماع هام، وبعد أن أغلق الباب، انبرى أحدهم فعرف نفسه على انه رئيس لجنة
المناقصات التي اختارته لتنفيذ المشروع وأن الثلاثة الموجودين أمامه هم أعضاء
اللجنة وأنهم جاءوا اليوم ليقدموا له التهنئة على الفوز بالمشروع لأنه شخص محترم
يستحق هذه الصفقة وأنهم فضلوه عن غيره، رغم أن هذا الغير قد وعدهم بمبلغ كبير في
حالة فوزه، وأنهم يريدون ..... سكت المتحدث برهة ثم أكمل يريدون حقهم، فاندهش
الدكتور من الصراحة وقال لهم لقد فزت بالمناقصة لأنني قدمت أرخص سعر وأفضل منتج،
وأنه لم يعد أي فرد بأي شئ، المناقصة واللجنة الموقرة منكم كانت في منتهى الشفافية
في الاختيار، وليس لأي شئ آخر، وهو لن يدفع رشوة تحت أي ظرف، فقالوا له ... رشوة
!!! أعوذ بالله من الرشوة نحن نريد حقنا .
عليك لابد أنت تدفع لنا ما قيمته 10% من أرباح الصفقة أي
200 ألف جنيه لنا جميعاً ، وإلا ... فقاطعه الدكتور بعصبية وإلا ماذا ؟ أنا لا
أخاف من التهديد ولن أدفع مليماً واحداً، فاستكمل الرجل كلامه وكأنه لم يسمع رد
الدكتور عليه، وإلا فستتحول تلك المناقصة عليك خراباً ومهما فعلت فلن تفوز بشئ، بل
ستخرج عليك غرمات التأخير لأن الشحنة لن تخرج من الميناء أصلاً.
سكت الدكتور لبرهة.
واستكمل المتحدث : إنه حقنا وسنأخذه إن أردت لهذه الصفقة
أن تتم
قال الدكتور : وأنا لن أدفع رشوة.
ردوا عليه : قلنا لك هذه ليست رشوة هذا حق لأننا تعبنا
ولم نأخذ حقنا من الحكومة ، سنأخذه من الرابح وأنت الرابح إلى الآن ولكن من يدري
من هو الرابح الأخير، عموماً إسأل أي شيخ أو عاقل وسيقولوا لك هذا حق وليست رشوة،
أمامك ثلاثة أيام فقط وسترى ماذا يمكننا أن نفعل؟
اتصل الدكتور بأحد الشيوخ الهواة فقال : يا أخي إذا كنت
مضطراً يمكنك تسوية الأمر بطريقة أخرى، يمكنك أن تهدي لكل واحد منهم هدية، فيمكنك
أن تدفع لأحدهم مقدم سيارة بثلاثين ألفاً، وأن تدفع للآخر مقدم شقة بنفس المبلغ
وهكذا.
قال الدكتور : أليس هذا نوع من اللف والدوران حول مفهوم
الرشوة
قال الشيخ : إذا كنت مضطراً ولن تأخذ حق أحد ولن يمرروا
لك أي خطأ نتيجة هذه الهدية فلتفعل ، ليس فيها شئ.
قبل الدكتور الوضع على مضض ولكن كان في داخله شئ ما يقول
له هذا تدليس وتلبيس إبليس ولكن ما حيلته أوقعته ظروفه في يد من لا يرحم ،
فليفعلها هذه المرة وفقط.
اتصل الدكتور بالموظفين وعرض عليهم الفكرة فلاقت
استحساناً، وكتب كل واحد ماذا يريد من بضاعة تساوي ثلاثين ألف جنيه لكلٍ منهم.
استقل الدكتور سيارته ذاهباً إلى أحد محلات بيع الأجهزة
المنزلية لشراء احتياجات أحدهم، وبينما هو في طريقه إذ توقفت أمامه فجأة سيارة نقل
فضغط بسرعة على الفرامل ففوجئ بمن خلفه يصطدم به وبشدة، ولم يعي مما حوله شيئاً
إلا أنه جالس على الرصيف ويشاهد سيارته وهي تتحول إلى قطعة من الحديد الملتوي
نتيجة الضربات الموجعة التي تلقتها من بقية السيارات فقد دفعها الاصطدام من الخلف
إلى الدخول أسفل سيارة النقل فأصبح الهيكل كالعجينة المسحوقة تحت عجلات النقل
وتوقف الطريق وبدأوا يبحثون عن الراكب داخل السيارة الصغيرة الفيات فلم يجدوه
ونقلوا المصابين من السيارات الأخرى بواسطة عربات الإسعاف التي توالى صياحها
المزعج، وقال بعض الناس من المؤكد أنه انسحق داخل سيارته، وكان يرى كل ذلك وكأنه
في حلم وهو يعرف أنها سيارته ويعرف أنهم يبحثون عنه، ولكن المفاجأة ألجمت لسانه
وجمدت كيانه.
وبعد حضور المرور وسحب ما تبقى من سيارته على جانب
الطريق لاحظ أحدهم الذي هرع وطلب النجدة وجود الدكتور بكامل بدلته الأنيقة
والنظارات الطبية على الرصيف فاقترب وسأله هل كنت صاحب أحد السيارات التي شاركت في
هذه الحادثة فقال له نعم ، قال : السيارة الفيات 128 فأجاب بإشارة من رأسه، فقال
له قم وأخذ يفتش في جسمه عن إصابة فلم يجد ثم ذهب به إلى المستشفى وأجرى فحصاً
بالأشِعة فلم يجدوا أي أثر يدل على أنه تعرض لحادث، فاصطحبه الرجل الكريم إلى مركز
الشرطة حيث قدم إفادته وسأله الضابط هل ستتقدم بأي شكوى ضد أي أحد أو ستطالب
بتعويض فقال له لا ، فقال له من الأفضل أن نسحب سيارتك أمام منزلك ولن نذكرك بأي
شكل في محضر الحادثة فشكره وانصرف.
ذهب الدكتور إلى بيته وأغلق الغرفة عليه لا يأكل و لا
يشرب، إنه يعاقب نفسه بعد أن عاقبه ربه، ولأن الله يحبه عجل له العقاب قبل أن يقع
ما يستحق العقاب، عرف أنها إشارة من الله تبعده عن طريق الحرام.
دخل إليه أبوه الفلاح الأمي وسأله ماذا بك يا ولدي، قال
له الدكتور : هناك قضية تشغلني وأريد أن آخذ رأيك فيها، قال الوالد على الفور:
لابد أنك تريد أن تفعل شئ ما تظن أنه خطأ وتريد لأحد أن يبرر لك الخطأ لتبرأ نفسك.
لقد علمتك يا ولدي حتى أسألك أنا عن الخطأ والصواب ! وفي
حياتك السابقة لم تأخذ رأيي قط وكانت كل أفعالك صواب، فلماذا الآن تأخذ رأيي، لابد
أنه الخطأ تريد أن تجد له مبرراً، انظر داخلك وحدد لطريق الذي تراه صحيحاً و لا
تتبع آراء المسوغين، ابتسم الدكتور على الفور واتصل بمدير مكتبه وأخبره أن يرسل
خطاباً إلى وزارة الصحة يعتذر فيها عن المناقصة فأخبره المدير أن ذلك يضيع عليهم
قيمة التأمين الذي دفعوه، فقال له في حزم افعل ما آمرك به ، واتخذ الإجراءات
القانونية لفض الشركة وإنهاء نشاطها، وإذا كانت السيولة لا تكفي بلغني لأرسل لك ما
تريد، ويكفيني العمل بالجامعة مدرساً
للأجيال كي أعلمهم ألا يستسلموا للخطأ وألا يقعوا فيما أوشكت أن أقع فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق