محمد نجيب مطر
أنهى المهندس دراسته في كلية الهندسة، ووفقه الله
في الحصول على وظيفة جيدة بأحد شركات البترول، وتمنى أن يستكمل دراساته العليا فربما
تعطيه ما كان يبحث عنه ولم يجده في الدراسة السابقة، كانت تعجبه حسابات التصميم
ويبحث عنها في جميع الكتب والمراجع، وكان العجيب أن تلك الحسابات لا توجد إلا
نادراً ولا أحد يبحث عنها رغم أنهم مغرمون بحسابات التحليل، لا يعجبه أن يقوم
بتحليل ما فعله الآخرون رغم أن ذلك علم له فرسانه، ولكنه يريد العكس، يريد تصميم
ما يريده، ثم يأتي من بعده من يقوم بتحليل عمله، إنها تشبه العلاقة بين المؤلف
والناقد، فعلى المؤلف أن يضع تصوره، وعلى النقاد أن يقوموا بتحليل هذا التصور
وتبيان إيجابياته وسلبياته، وانتظم في الدراسة ولكنه لم يجد بغيته، وكان يقول في
ضيق وهو يجلس في مدرجات الجامعة : إذا صبرنا على تلك النوعية من الدراسة الكلاسيكية
في السنوات السابقة فلا يمكن السكوت عليها في مرحلة الدراسات العليا، توقفت يداه
عن الكتابة وظهر الضجر على وجهه وألقى بالقلم على البنش أمامه، فأحدث صوتاً لفت
أنظار أقرانه ثم رفع ركبتيه ووضعها في مستوى البنش ثم دفع بمؤخرته إلى الأمام
وبظهره إلى الخلف وخرجت منه تنهيدة لفتت نظر المحاضر إليه، وكان المحاضر أستاذاً كبير
العمر أشيب الرأس يرتدي نظارات عتيقة وعيونه ضيقة تظهر عليه علامات الطيبة، نظر
إليه الأستاذ وسأله بعد فترة صمت تركزت فيها الأنظار إلى المهندس وسأله الأستاذ :
هل هناك ما يضايقك في هذه المحاضرة ؟ توقع الجميع أن يعتذر المهندس إلى الأستاذ
بأنه لم يكن يقصد، ولكنهم فوجئوا المهندس
يصب جام غضبه على أستاذه في نبرة تخلوا أحياناً من الأدب والكياسة، فقال له :
سأتحدث إليك بصراحة، هذه رابع محاضرة أحضرها لسعادتكم ولكني لم أرى فيها أي جديد،
كلام مكرر وممل وسميج وتافه، أرجو المعذرة على صراحتي، فلقد خلقني الله هكذا، وقعت
الكلمات كالمطرقة على أذن الطلاب وكان بينهم معيدون من نفس الجامعة، يقدرون هذا
الأستاذ لطول باعه في العلم والتدريس ويقدرون خبرته التي لا تقدر بثمن، ثم أردف في
شجاعة لا يحسد عليها أنا أعلم تماماً أن سيادتكم ملتزم بالمنهج الذي يقرره المجلس
الأعلى للجامعات، ولكن ذلك ليس عذراً على الإطلاق لكي تقوموا بتدريسنا نظريات عفى
عليها الزمن عن بناء الذرة والمدارات ومستويات الطاقة، لقد تجاوزت جامعات العالم
كله تلك النظريات القديمة، كل ما يقال علم له احترامه في زمانه أما الآن فلم يعد
أساساً لأي شئ، إن كل ما درسناه في المحاضرات السابقة لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب
به، أستاذي العزيز يجب أن تبدأ محاضراتنا الأولى في هذه المادة بمعادلات ديراك،
فهي رغم قدمها نسبياً تعتبر الأساس للبناء الذري الحديث، ابتسم الدكتور ابتسامة
أثارت ذهول الحاضرين وسأل ببساطة : وماذا تعرف عن ديراك ومعادلته؟ أجاب المهندس في
ثقة القصة ببساطة أنه في عام 1928 خرج العالم الإنجليزي ديراك بمعادلات رياضية
تتناول حركة إلكترون وحيد في الفراغ، ولقد وضع ديراك أربعة معادلات ثورية أطاحت
بكل النظريات والأفكار السابقة عن تكوين الذرة، وأحد معادلاته تحدثت عن إمكانية
وجود إلكترون له زمن معكوس أن أنه يسير للخلف في محور الزمن ، كما أن الطاقة التي
تحركه طاقة سالبة، وفي حياتنا العملية لم نشهد شيئاً ينطلق بطاقة سالبة، فعلى سبيل
المثال فعندما تركل كرة بشدة فسوف تندفع إلى الأمام بطاقة موجبة، لكن المعادلة
التي تشير إلى طاقة سالبة تعني أنك إذا ركلت كرة بطاقة سالبة لتدخل الملعب، فإنها
لن تدخل بل تراها تنطلق في الاتجاه المعاكس إلى خارج الملعب، وظن ديراك أن معادلته
ربما تشير إلى وجود إلكترون آخر لكنه يتصرف بطريقة مختلفة ومعكوسة ومضادة
للإلكترون الذي نعرفه، إنه ببساطة إلكترون معكوس الصفات وتنبأ ديراك بأن الإلكترون
ونقيضه إذا تقابلا اختفيا وانطلقت موجات كهرومغناطيسية لا زمان لها و لا مكان أي
أن الإلكترون ونقيضه تخليا عن صورتهما المادية إلى صورة موجية، والعكس قد يكون
صحيحاً فالموجات الكهرومغناطيسية عالية الطاقة يمكن أن تتجسد في جسيمات بعضها لبعض
عدو، أي أن الطاقة والمادة وجهان لعملة واحدة بمعنى أن الطاقة تتجسد والمادة
تتموج، واستطرد المهندس يكفي أن نذكر أن عدد الجسيمات داخل الذرة قد وصل الآن إلى
أربعين جزءاً.
أشار الدكتور إلى المهندس بيده وكأنه اكتفى منه
بهذه المعلومات، رد عليه المهندس بإيماءة من رأسه كأنه يعتذر، توقع الجميع أن يبدأ
الهجوم المضاد من جانب الدكتور المحاضر الذي يدل شكله على أنه بدأ بتدريس هذه
المادة منذ إنشاء الجامعة وتجهم وجه المعيدون الذين يعملون معه والذين أحسوا
بالامتعاض لإهانة أستاذهم وتوقع الجميع معركة حامية الوطيس، ولكن أذهلتهم ابتسامة
المحاضر الواثقة التي ظلت على شفتيه وهو يصغي باهتمام لما يقوله زميلهم، ثم أردف بعدها
في بساطة وتواضع يحسد عليه، كلام زميلكم صحيح وأنا أرى ما يراه، ولم أكن أدرك أن
ثقافتكم العلمية متطورة إلى هذا الحد، وبرغم أن ما سأقوم به مخالف للتعليمات إلا
أننا سنفعله لأنه الصواب ولقد رفعت تقريراً لعميد الكلية بتطوير هذا المنهج
والتعديلات تنتظر فقط اجتماع اللجنة العلمية، سنقوم بإلغاء كل ما قلناه، وسنبدأ من
معادلات ديراك الأربعة، ثم طوى الأوراق التي أمامه وبدأ يكتب من الذاكرة المعادلات
التي ملأت سبورة كاملة، ثم التفت فجأة وسأل المهندس عن اسمه وعن كليته ودفعته ثم
زكاه لزملائه، وقال له يا ولدي يشرفني أن أقوم بالإشراف على رسالتك العلمية لأنها
بالتأكيد ستكون ذات قيمة، لن تفنى البشرية وفيها أمثالكم من النابهين، بارك الله
فيكم ثم التفت مرة أخرى إلى السبورة واستكمل شرحه والمهندس مبهور بتواضع أستاذه
وسعة صدره وعلمه الغزير المختبئ في ثنايا عقله، إنه يكتب معادلات ديراك الطويلة من
الذاكرة، ويتوسع في شرح كل جزء منها في إسهاب تدل على ذاكرة حديدية وعلم غزير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق