بقلم:عبد الله لالي
الجزائر
عندما سمعت بخبر وفاة الرئيس الشاذلي
بن جديد[1]
( الرئيس الأسبق للجزائر ) تملكتني رغبة شديدة في كتابة كلمة عنه، كلمةً أردت أن
تكون منصفة في حقّه، وتوّقعت أن يَستنكر كثير من النّاس هذه الكلمة، ولمّا دخلت
الفايس بوك وجدت عشرات الأشخاص يكتبون عن الشاذلي بن جديد بحماسة وتأثر كبير، وكلّ
ما كنت أفكر في قوله أو التعبير عنه وجدتهم قد قالوه وقالوا أكثر منه، فاكتفيت بما
قرأت وصمَتُ.. وقد رأيت أنّ ما قيل منصف وكاف في إعطاء الرّجل حقه..
وعندما أُعلن قرب صدور مذكّراته رغبت
في قراءتها بشدّة، وجاءت الفرصة لأقرأها في الثامن عشر من شهر نوفمبر 2012 م، أي
بعد وفاة الشاذي بن جديد – رحمه الله – ببضعة أسابيع، كانت المذكرات في طبعة عادية
وبسيطة، رغم ارتفاع ثمنها 1000 دج، وهي فعلا تستحق أكثر من ذلك، لكنّ الطباعة لم
تكن في مستوى مكانة الرّجل، الغلاف من الكارتون الرديء، أما الورق فهو متوسّط
الجودة وكذلك الخطّ، كانت في 292 صفحة من القطع المتوسّط، لكنّ قيمتها التاريخيّة
لا تقدّر بثمن، لا لما تحتويه من معلومات، أغلبها معروف ومتداول ولكن لما تقدّمه
لنا من صورة جدّ مقربة عن شخصيّة هذا الرجل التاريخي الذي غُمط حقُه وظلم كثيرا..
بدأت قراءة المذكرات بشغف ولهفة
وأتممتها في يومين، رغم ظروف العمل وواجبات الحياة اليوميّة التي لا تكاد
تنقطع..كانت المذكرات مشوّقة حقا وكان الشاذلي يتحدّث فيها عن حياته كما يتحدّث
أيّ رجل من عامة الشعب الجزائري، يظهر في حديثه الصدق والتلقائيّة، رغم أنّه قال
أنّه لم يذكر كلّ شيء ولم يتحدّث عن بعض الأمور التي قد يساء فهمها أو تُسيء لبعض
الأشخاص، وكان الرجل جدّ متواضع في الحديث عن عائلته الكبيرة التي ذكر أنّه يقال
أنّها تعود في جذورها إلى أصول عربيّة يمنيّة ولم يجزم بذلك أو يقطع بما ليس عنده
عليه برهان حاسم..وقد قال في صفحة 24 بكلّ صراحة:
" لا توجد، بطبيعة الحال وثائق
تثبت هذا الكلام، لكنّها رواياتٌ متواترة ظلّت الأجيال ترويها أبا عن جدّ.."
ثمّ يقول " أمّا فيما يخًصّني فقد أدركت حين بلغت سنّ الرشد، أنّ ما يُروى
لنا عن الأصول هو مزيج من الحقيقة والخيال، وقد حَسمتُ هذه المسألة نهائيّا. فأنا
معتز بأمازيغيتي، فخور بانتمائي العربي، متمسّك بمعتقدي الإسلامي، وهذا الثالوث
يشكل في نظري هوّية الجزائريين في غناها وتعددها."
وخلاصة ما انتهى إليه من ذلك أنّه
يفتخر بانتمائه العربي الأمازيغي، مستدلا بمقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس "
أنا أمازيغيّ عرّبني الإسلام"، وإذا أردنا أن ندخل إلى شخصيّة الشاذلي بن
جديد فهذا هو مفتاح شخصيّته، ولقد عرفت هذا الأمر عنه مبكرا، عرفته منذ كان الشيخ
محمّد الغزالي هنا في الجزائر يدرّس بالجامعة الإسلاميّة، في أواسط الثمانينيات
ولاحظت كيف كان الشاذلي بن جديد يتعامل معه ومع العلماء عموما، ولم يكن الأمر
صحيحا عندما قِيل في تلك الفترة أنّ النظام فتح المجال للتيار الإسلامي ليضرب به
التيار الشيوعي، إنّ تعاطف الشاذلي بن جديد مع التيار الإسلامي، نابع من إيمانه
وعقيدته منسجم مع شخصيّته التي نشأت في بيئة متديّنة، وقد شهد له الغزالي – رحمه
الله وما فعلها مع غيره من الرؤساء أو
الملوك- عندما قال قبل مغادرته للجزائر:
" أشهد أنّ الشاذلي بن جديد
يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.." وربما كانت هذه الشهادة إشارة للتيار
الإسلامي لكي يُحسن التعامل مع هذا الرجل الذي كان فرصة ذهبيّة للتغيير الجذريّ،
لكنّ بعض أطراف متصلّبة في التيار الإسلامي لم تفهم تلك الإشارة ولم تفهم حقيقة
شخصيّة الشاذلي بن جديد، وضيّعت على الأمّة فرصة ذهبيّة من الصعب أن تتكرر إلا بعد
سنوات طويلة..
ومما أعجبني في مذكرات الشاذلي بن
جديد إقراره في مقدّمة كتابه بأنّه يكتب الأحداث التي عاشها بمنظار السّاعة ومن
منطلق رؤيته للوقائع وهو في مثل هذه السنّ – الثمانينيات من العمر – وذلك حينما
يقول في المقدّمة:
" ولعلّ القارئ سيلاحظ أنّني
متأثر فيما أرويه بمواقفي وأرائي الحالية، وهذا أمر طبيعيّ .."
وفي ذلك تصريح منه بشكل جليّ أنّ
أفكاره تطوّرت وتغيّرت، وأنّه ينظر لأحداث الماضي برؤية الحاضر، ولو قدّر له أن
يكتب هذه الأحداث قبل عشرين أو ثلاثين سنة لكان الأمر مختلفا بعض الشيء..
لقد أحسست وأنا أقرأ هذه المذكرات أنّ
بعض فقراتها قيلت باللغة الفرنسيّة، وطبعا قام محرّر الكتاب الأستاذ عبد العزيز
بوباكير بترجمتها إلى العربية لاسيما أنّه هو من حوّلها من القول المنطوق إلى
الكتابة المقروءة، أو هذا ما فهمته أنّا من عبارة ( التحرير )، وقد أشار إلى ذلك
صاحب المذكرات عندما شكره في المقدّمة على صبره والاستماع إليه طوال أربع سنوات..
إذن كان الشاذلي بن جديد يروي وعبد
العزيز بوباكير يدوّن ( يحرر )، لكنّ روح الشاذلي بن جديد وشخصيته كان ظاهرة
وجليّة في كلّ كلمة سُطرّت في الكتاب..
* * *
مع مذكرات
الشاذلي بن جديد 02
ليس الشاذلي بن جديد شخصيّة ساذجة كما
كان يتصوّر أغلب الجزائريين، بسبب السيل الهادر والضخم من تلك النكت والطرائف التي
كانت تطلق عنه وتمثله كأنّه أشعبُ أو جحا عصره، وقد أدرك هو هذا التصوّر نفسه فقال
في مقدّمة مذكراته ( ملامح حياة ):
" وإذا رجوت لهذه المذكرات رجاءَ
فهو أن تقدّمني للنّاس كما تمنّيت أن يعرفوني وليس كما رسموه عنّي من صورة سماعا
" ص 12
ولعلّ السّبب الثاني الذي جعل النّاس
يرسمون عن الشاذلي بن جديد صورة خاطئة، هو طبيعة شخصيته الهادئة والمسالمة
والمتسامحة، رغم أنّه رجلُ ثوريّ ومجاهد خاض عشرات المعارك التي تؤثر في شخصيّته
وتجعله صلبا لا يخشى أن يُقدِم على الصعاب، وهذا المسالم نفسُه كان عنيدا ومشاكسا
للمستعمر الفرنسي، وقد ذكر أنّه كان يسمّى المشوّش كما كان يسمّى أبوه كذلك قبل
الثورة..
وهو العسكريّ الذي لا يتردد في إصدار
حكم الإعدام في حق ضابط عسكريّ ثبتت عليه تهمة الشذوذ الجنسيّ، ويكون في هذا
الموقف في قمّة الصرامة والحزم، يقول في المذكرات صفحة 107 :
" لكنّي لم أكن متسامحا مع
الأشخاص الذين يرتكبون أفعالا أو أخطاء يمكن أن تسيء إلى كفاحنا أو تؤثر في
معنويات الجنود، من ذلك أنّي في سنة 1957م أعطيت أمرا بإعدام مسؤول فوج بسبب
الشذوذ الجنسيّ..."
وهو نفسه الذي يعترف بتحمّل كامل
المسؤوليّة مع بومدين في ما اتخذ من قرارات وما يكون قد نتج عن ذلك من أخطاء، بل
ويعترف بارتكاب بعض الأخطاء صراحة ودون تنصّل أو محاولة تبرير، يقول عن التطبيق
الخاطئ لمشروع النظام الزراعي الذي أنشأه بومدين وفرضه على النّاس فرضا، رغم
معارضة كثير من العقلاء وأهل الرأي ومنهم قائد أحمد، يقول عن ذلك في صفحة 241 :
" أريد أن أقول في نهاية الأمر
أنّ سي سليمان، الذي مات رحمه الله في المنفى، كان على حق، أنا كنت مع إصلاح
زراعيّ لو طبّقناه تطبيقا عقلانيّا وسليما من دون تسرّع ومن دون هياكل بيروقراطيّة
جامدة ما كنّا وصلنا إلى الكارثة التي عرفتها الجزائر طيلة عقدين من الزمن.نعم
اختلفت مع قائد أحمد وعارضت رأيه لكنّي اليوم أقول أنّه كان على حق، ونحن كنّا
مخطئين."
وفي صفحة 220 عندما تحدّث عن بن بلّة
وأخطائه التي وقع فيها وكانت سببا في الانقلاب عليه والقيام بما سُمي بالتصحيح
الثوري، يقول بكلّ صراحة ووضوح:
" وربّما ارتكبنا أخطاء في
التسيير كالتي ارتكبها بن بلّة "
ويبدو أنّ الشاذلي كان إنسانا ذا حظ
لا بأس به من الثقافة والفكر الذي بُني على أساس متين وعقيدة صلبة، إذ نجده كثيرا
ما يُشيد بأصالته وعمقه الإسلامي، بل ويحافظ على الصلاة حتى أثناء شبابه وهو يخوض
معارك ثورة التحرير المباركة، ويجعل عنوانا لأحدى الاشتباكات التي وقعت بين
المجاهدين وجنود العدوّ الفرنسيّ ونجو منه ( حين أنقذتنا الصلاة ).
كما يذكر الشاذلي بن جديد العلمانيين
بطريقة توحي أنّه ليس منهم، وأنّه لا يتبنّى الخطّ الذي ينتهجونه، وهذا ما يؤكد
انحيازه إلى المبادئ العربيّة الإسلاميّة، وإن كان ليس وفقا لمفهوم الحركة
الإسلاميّة المعاصرة، إذ يقول في صفحة 239 :
" ...لكن مجموعة من العلمانيين
أقنعت بومدين بعكس ذلك، فأصبح البيروقراطيون الذين أحاطهم به الطيبي العربي في
وزارة الفلاحة، هم المسيّرون الفعليّون، يصدرون القوانين والأوامر.."
وعندما تحدّث عن شخصيّة المجاهد
محمّدي السعيد، رغم اختلافه معه وانتقاده لشدّته فإنّه يقول عنه أنّه كان كثيرا ما
يتوقف أثناء التنقلات في الجبال، أثناء الثورة التحريريّة المباركة لأداء الصلاة
في وقتها، ويذكر عنه أنّه كان خطيبا متحمّسا يحبّ إثارة الحماسة في نفوس الجنود،
وقال أنّه جاء ذات مرّة إلى معسكرهم في الجبل وصعد فوق طاولة وبدأ يخطب، ويحظ
الجنود على التضحية والبذل، وأطال في ذلك كثيرا وفي نهاية المطاف لمّا لم يجد ما يقوله
قال تحيا الجزائر تحيا الثورة.. يحيا ربّي " !!
ولقد عرفت أنا بدوري في التسعينيات
المجاهد محمدي السّعيد، وقد انتمى للجبهة الإسلاميّة، وظهر في أحد حملاتها
الانتخابيّة على شاشة التلفاز وكان متحمّسا لتطبيق الإسلام، فدعا النّاس إلى
مناصرة الجبهة الإسلاميّة وتأييدها ومن شدّة حماسته وصف النظام ورجاله بالكفار،
ولعلّه لفرط حماسته، وشدّة رغبته في نصرة الحق قال ذلك الكلام، وإلا فإنّه رجل –
رحمه الله – كان يبدو عليه الإيمان وشدّة الإخلاص وحبّه الشديد للإسلام وللجزائر
غفر الله لنا وله..
ومن جميل ما ذكرتْه المذكرات حديث
الشاذلي عن ألبير كامو الكاتب الفرنسي المشهور، الذي قال عنه أنّه عندما خيّر بين
العدالة وأمّه فرنسا اختار أمّه فرنسا، أي أنّه في لحظة زمن نسيَ المبادئ والأخلاق
والقيم، ونسيَ ثالوث الثورة الفرنسيّة الذي طالما تفاخر به الفرنسيّون، واختار أن
يكون مع أمّه فرنسا ضدّ الثورة الجزائريّة.. !!
وفي المجال الثقافي والفكري أيضا
تحدّث عن صاحب البشرة السوداء، فرانز فانون ( من جزر المارتينيك ) الرّجل الحرّ
الذي كان وفيّا لمبادئه وانحاز للعدالة وللحق، وكان نصيرا للثورة الجزائريّة،
وعندما مات قرّرت جبهة التحرير الوطني أن تدفنه داخل التراب الوطني، وكان الشاذلي
بن جديد من المشرفين على دفنه، وقد استنكر على الذين أرادوا التقاط صوّر تذكاريّة
أمام جثمانه وتعجّب كيف لا يحترمون قداسة الموت..
ومن الأمور المهمّة جدّا والتي ذكرها
في مذكراته وهي تثير الحيرة والعجب، خطأ المؤرّخين في كتابة حدث تاريخي لا يزال
قريبا منّا ولا يزال أصحابه أحياء، وهو زعمهم أنّ الشاذلي بن جديد من ضبّاط فرنسا
وهذا لا يصعب التأكد منه، لو قاموا بالتدقيق في الوثائق والرجوع إلى المعنيين
بالقضيّة بشكل مباشر وعلى رأسهم الشاذلي بن جديد نفسه، ومن رافقه في تلك الفترة
والعديد منهم لا يزال حيّا..
وينفي الشاذلي بن جديد نفيا قاطعا أن
يكون من ضبّاط فرنسا، أو أن يكون عمل يوما واحدا في الجيش الفرنسي، وهذا أمر لا
يصعب التثبّت منه ولذلك لا يمكن لصاحبه لو حدث فعلا أن ينفيه، وكثيٌر من الضبّاط
الجزائريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي أقرّوا بذلك، وعلى رأسهم الجنرال
المتقاعد خالد نزار، وبينوا أنّ هناك أسبابا مختلفة جعلتهم، يلتحقون بالجيش
الفرنسي، قبل الثورة ومنها التجنيد الإجباري والأوضاع الماديّة الصعبة، وفي نهاية
المطاف التحقوا بالثورة..
وهذا لا ينفي طبعا أنّ هناك بعض
الضبّاط كانوا عملاء لفرنسا وأرسل بهم ديغول ليتسرّبوا داخل جيش التحرير الوطني،
خدمة لفرنسا وأهدافها ولكن يصعب أن نعمّم الحكم على جميع الضبّاط الذين خدموا في
الجيش الفرنسي..
وفي تلميح سريع حينما يتحدّث عن
زيّارته لكوبا، يذكر قاعدة غوانتنامو وما صارت تمثله من انتهاك لحقوق الإنسان
وحرّيته، وتجاوز لكلّ الأعراف والمواثيق الدوليّة..
وفي الختام أقول أنّ الجزء الأوّل من
مذكرات الشاذلي بن جديد ثريّ بالمعلومات والأفكار العميقة، ويستحق أن يطبع في
مجلّد فاخر لا في طبعة رخيصة لا تليق بمقام الرّجل الذي ساهم في صنع تاريخ الجزائر
المجيد، ونحن في أشدّ الشوق إلى ظهور الجزء الثاني من المذكرات لنَطّلع على كثير
من الأسرار التي يتمنّى كلّ الجزائريين معرفة واكتشاف خباياها، خصوصا تلك التي
تتعلّق بما سميّ بالعشريّة السوداء، عشريّة التسعينيّات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق