مولد مولانا:
"محمد عفيفي مطر"!
رؤية: محمد عيد إبراهيم
في مثل هذا اليوم، ولد الشاعر محمد عفيفي مطر، ولم يكن مجرد شاعر مصريّ فحسب، بل أباً لبعض تيارات الحداثة في الشعر المصريّ، ومولّداً لبعضها الآخر، فقد كان في طرف اليسار من قوى التجديد الشعريّ من أواخر الستينيات، ضدّ "الأصنام" التي كانت توقّفت أو تكاد عن التطوير، ودفع في سبيل ذلك ما دفع من أثمان، حتى أنه لم يتسنّ له أن يرى أعماله الشعرية الكاملة على الوجه اللائق، تلك التي أصدرتها "هيئة قصور الثقافة"، إلا بعدما طار إلى الرفيق العُلى.
كما كان صلباً في موقفه الفكريّ وتحمّل في سبيله الهوْل، سَجناً وتشريداً، حيث سافر إلى العراق منتصف السبعينيات، وكان يذيع من هناك في برنامج "صوت مصر الحرة" ما يرضاه ضميره عما يفعله "السادات" من تدمير لقوى مصر السياسية والثقافية والقومية، ثم سُجن أيام الغزو العراقيّ للكويت، أيام "المغدور" مبارك، ولو مدّ الله في عمره إلى اليوم لكان أشدّنا مراساً في مقاومة التيار الدينيّ الرجعيّ.
ولولا ما يسود الشارع الثقافيّ المصريّ الآن من أحداث مضطرمة، لكانت لذكراه شؤون أخرى، لكني لن أُفوّت الفرصة، تأسياً بصديقي الشاعر "محمد حربي"، حتى لا يقول، أو يتقوّل، أحد "وما أنسانيه إلا الشيطانّ"، وأضع بضعة مقاطع من شعره أمام الجميع، لمَن يعتبر، أو يُذكّر مَن يعتبر، كما حدَث لسميّه "أمل دنقل" من نسيان وتذكرةٍ بعد النسيان، فقد يفيق البعض ويذكُره، أو يُذكّر من يذكُره، فليس لمثل هذا الشاعر/ المولَى أن نعامله هكذا:
من قصيدة: (أغنية المغنّي اليائس)
أردتُ أن أكون قطرة مالحة من ثبج المحيط،
ومركباً تضمّ عاشقَين/ قاتلَين/ جثتَين،
والقمرُ المفضّض الجريح
اللغةُ الضيقة الخرساء
أنشوطةٌ تضيق حول الرقبة
وجثّتي المعذبة
تحملني أحملُها تنهشني تنهشُها ذبابةُ الحروف.
من قصيدة: (هجرة إلى الداخل)
أيتها النخلة... فلتميلي
ولتسمعيني مرةً... وقولي
حكايةَ الإصغاء للشمس وللهواء
ولترفعي راسي على يديك في الظلام
كي أعرف النوم على أسرّة الخضرة في الأعالي
أيتها النخلة... أطعميني وبدّدي وحشتي المخيفة
بصوتك المرويِّ بالشمس وبالنقاء
وانتشلي من هذه المدائن/ الصحراء
جمجمتي التي تملؤها صلصلةُ الحراب والسنابك.
من قصيدة: (معوذّة)
أعوذ بي مني، ومن تخبّطي في اللعنةِ المقيمة
أعوذ بالرفضِ وبالقصيدة
من نعمةِ الرضا.
من قصيدة: (مديح ثدي)
كانت شُعيراتُ الزغَب
تظهر في الضوء وتختفي
كان تفتّحُ المسام
ينشع في اللفائف.
كان احتدامُ اللون في الدائرةِ الصغيرة
عصفورةً تفتح في الشفاه
منقارها الدافئ. والعروق
ترقص في جنائن التكوير.
من قصيدة: (رفع القمع عن فراشة الدمع)
رأسي المقطوع
محشوّ بالأسلاكِ الشائكة الصدئة
والملحُ على أطراف الشفة المهترئة
صمتٌ منفجر مسموع.
كانت أصواتُ الأرض المنطفئة
قيداً ونداء رجوع،
لكن العربات الفارهة اصطبغت منها العجلات السوداء
ببقايا الأشلاء.
من قصيدة: (بكائية)
لو كنتُ أعرفه، لو كان يعرفني
لحملتهُ خبزي وحملتهُ كفني
وعرفت أن نداءه المذبوحَ يكشفني
نصفي يموتُ هناك
نصفي هنا يبكي.
فلتدمعي يا عين
هذا جدارُ البَين
قد مسَّحَتهُ الريح
فتآكلت أسماءُ من ماتوا.
ولتدمعي يا عين
ليست تردّ الريح
أسماءنا إلا بأن نبكي.
لا تأكلوا أسماكنا البحرية
فلحمهُ المهضوم
قد يرفعُ السكين، قد يقوم.
من قصيدة: (تطوّحات عُمر)
المرأة التي تنبت في أعراقها صبّارةُ الشهوة والعذاب
تخمشُ ما تراه من فاكهةِ الشوكِ التي تطلعُ في حدائقِ الجسد
تشدّ ما ارتخى من الثياب
من تحتها يرتعشُ السرير...
وانفتحت عن جثتي المشوّهة
مقبرتي، وعافَت الطيورُ لحمها
وردَّني التراب.
يا منقذي... لمن وهبتني الدماء!
أعرفُ أنها في جسدي وديعة
وجسدي يأكلني
وحفرتي تضيق
فلترمني بحربةِ العدوّ أو بحربةِ الصديق
كي أنزفَ الدماءَ في الشِعر وفي السنابل
كي أعبرَ المضيق.
من قصيدة: (العشاء الأخير)
أبي ضمّ فَضْلَ العباءة
على مِنكَبيهِ الهزيلَين، فاهتزّ تابوتُ قلبي
ونادَى: خُذ السُمسمَ المرّ، هذا رغيفُ الشعير
تبلَّغْ به لقمةً لقمةً، كي تذوقَ الدماء
التي أُشْرِبَتها السنابلُ.
وأمي التي عَصَّرت ثديَها للقبور
تعرَّى لي الصدرُ: خُذ يا فتاي الصغير
وقد شيّعَت سَبعةً من بنِيها
إلى الأرضِ. هذا دمي يا فتاي الصغير.
أبي ضَمّ أمي وقالا:
خُذ الآنَ هذا العشاءَ الأخير
لا تنسنا ليلةَ العُرسِ. فاهتزّ تابوتُ قلبي.
وحيدٌ أنا في مهبِّ الرياحِ
وقد فرّ قلبي من الأرض.
من قصيدة: (الأم المجنونة)
أمي... خطَفَت روحي بنتُ السلطان
دقّت في قلبي قنديلَ العشب
غرسَت في جَنبَيّ السيفَ القمريَّ المُخْضرّ
زرعَتني في مَنبِتِ نهدَيها قارورةَ عطرٍ
في ليلةِ عُرسي... خطَفَتها الغيلان
وانسكَبت في قلبي موسيقى الموت!
في مثل هذا اليوم، ولد الشاعر محمد عفيفي مطر، ولم يكن مجرد شاعر مصريّ فحسب، بل أباً لبعض تيارات الحداثة في الشعر المصريّ، ومولّداً لبعضها الآخر، فقد كان في طرف اليسار من قوى التجديد الشعريّ من أواخر الستينيات، ضدّ "الأصنام" التي كانت توقّفت أو تكاد عن التطوير، ودفع في سبيل ذلك ما دفع من أثمان، حتى أنه لم يتسنّ له أن يرى أعماله الشعرية الكاملة على الوجه اللائق، تلك التي أصدرتها "هيئة قصور الثقافة"، إلا بعدما طار إلى الرفيق العُلى.
كما كان صلباً في موقفه الفكريّ وتحمّل في سبيله الهوْل، سَجناً وتشريداً، حيث سافر إلى العراق منتصف السبعينيات، وكان يذيع من هناك في برنامج "صوت مصر الحرة" ما يرضاه ضميره عما يفعله "السادات" من تدمير لقوى مصر السياسية والثقافية والقومية، ثم سُجن أيام الغزو العراقيّ للكويت، أيام "المغدور" مبارك، ولو مدّ الله في عمره إلى اليوم لكان أشدّنا مراساً في مقاومة التيار الدينيّ الرجعيّ.
ولولا ما يسود الشارع الثقافيّ المصريّ الآن من أحداث مضطرمة، لكانت لذكراه شؤون أخرى، لكني لن أُفوّت الفرصة، تأسياً بصديقي الشاعر "محمد حربي"، حتى لا يقول، أو يتقوّل، أحد "وما أنسانيه إلا الشيطانّ"، وأضع بضعة مقاطع من شعره أمام الجميع، لمَن يعتبر، أو يُذكّر مَن يعتبر، كما حدَث لسميّه "أمل دنقل" من نسيان وتذكرةٍ بعد النسيان، فقد يفيق البعض ويذكُره، أو يُذكّر من يذكُره، فليس لمثل هذا الشاعر/ المولَى أن نعامله هكذا:
من قصيدة: (أغنية المغنّي اليائس)
أردتُ أن أكون قطرة مالحة من ثبج المحيط،
ومركباً تضمّ عاشقَين/ قاتلَين/ جثتَين،
والقمرُ المفضّض الجريح
اللغةُ الضيقة الخرساء
أنشوطةٌ تضيق حول الرقبة
وجثّتي المعذبة
تحملني أحملُها تنهشني تنهشُها ذبابةُ الحروف.
من قصيدة: (هجرة إلى الداخل)
أيتها النخلة... فلتميلي
ولتسمعيني مرةً... وقولي
حكايةَ الإصغاء للشمس وللهواء
ولترفعي راسي على يديك في الظلام
كي أعرف النوم على أسرّة الخضرة في الأعالي
أيتها النخلة... أطعميني وبدّدي وحشتي المخيفة
بصوتك المرويِّ بالشمس وبالنقاء
وانتشلي من هذه المدائن/ الصحراء
جمجمتي التي تملؤها صلصلةُ الحراب والسنابك.
من قصيدة: (معوذّة)
أعوذ بي مني، ومن تخبّطي في اللعنةِ المقيمة
أعوذ بالرفضِ وبالقصيدة
من نعمةِ الرضا.
من قصيدة: (مديح ثدي)
كانت شُعيراتُ الزغَب
تظهر في الضوء وتختفي
كان تفتّحُ المسام
ينشع في اللفائف.
كان احتدامُ اللون في الدائرةِ الصغيرة
عصفورةً تفتح في الشفاه
منقارها الدافئ. والعروق
ترقص في جنائن التكوير.
من قصيدة: (رفع القمع عن فراشة الدمع)
رأسي المقطوع
محشوّ بالأسلاكِ الشائكة الصدئة
والملحُ على أطراف الشفة المهترئة
صمتٌ منفجر مسموع.
كانت أصواتُ الأرض المنطفئة
قيداً ونداء رجوع،
لكن العربات الفارهة اصطبغت منها العجلات السوداء
ببقايا الأشلاء.
من قصيدة: (بكائية)
لو كنتُ أعرفه، لو كان يعرفني
لحملتهُ خبزي وحملتهُ كفني
وعرفت أن نداءه المذبوحَ يكشفني
نصفي يموتُ هناك
نصفي هنا يبكي.
فلتدمعي يا عين
هذا جدارُ البَين
قد مسَّحَتهُ الريح
فتآكلت أسماءُ من ماتوا.
ولتدمعي يا عين
ليست تردّ الريح
أسماءنا إلا بأن نبكي.
لا تأكلوا أسماكنا البحرية
فلحمهُ المهضوم
قد يرفعُ السكين، قد يقوم.
من قصيدة: (تطوّحات عُمر)
المرأة التي تنبت في أعراقها صبّارةُ الشهوة والعذاب
تخمشُ ما تراه من فاكهةِ الشوكِ التي تطلعُ في حدائقِ الجسد
تشدّ ما ارتخى من الثياب
من تحتها يرتعشُ السرير...
وانفتحت عن جثتي المشوّهة
مقبرتي، وعافَت الطيورُ لحمها
وردَّني التراب.
يا منقذي... لمن وهبتني الدماء!
أعرفُ أنها في جسدي وديعة
وجسدي يأكلني
وحفرتي تضيق
فلترمني بحربةِ العدوّ أو بحربةِ الصديق
كي أنزفَ الدماءَ في الشِعر وفي السنابل
كي أعبرَ المضيق.
من قصيدة: (العشاء الأخير)
أبي ضمّ فَضْلَ العباءة
على مِنكَبيهِ الهزيلَين، فاهتزّ تابوتُ قلبي
ونادَى: خُذ السُمسمَ المرّ، هذا رغيفُ الشعير
تبلَّغْ به لقمةً لقمةً، كي تذوقَ الدماء
التي أُشْرِبَتها السنابلُ.
وأمي التي عَصَّرت ثديَها للقبور
تعرَّى لي الصدرُ: خُذ يا فتاي الصغير
وقد شيّعَت سَبعةً من بنِيها
إلى الأرضِ. هذا دمي يا فتاي الصغير.
أبي ضَمّ أمي وقالا:
خُذ الآنَ هذا العشاءَ الأخير
لا تنسنا ليلةَ العُرسِ. فاهتزّ تابوتُ قلبي.
وحيدٌ أنا في مهبِّ الرياحِ
وقد فرّ قلبي من الأرض.
من قصيدة: (الأم المجنونة)
أمي... خطَفَت روحي بنتُ السلطان
دقّت في قلبي قنديلَ العشب
غرسَت في جَنبَيّ السيفَ القمريَّ المُخْضرّ
زرعَتني في مَنبِتِ نهدَيها قارورةَ عطرٍ
في ليلةِ عُرسي... خطَفَتها الغيلان
وانسكَبت في قلبي موسيقى الموت!