موجود يا فندي ..
قصة
قصيرة
هشام أبوسعدة
تلميحة: أجل، من أجل
هذا، بل وأقل منه بكثير، تقوم ثورات الشعوب؛
فتحية لشباب ثورة
اللوتس المِصرية، في الخامس والعشرون من يناير، في العام (2011م)؛
بل تحية لكافة ثورات
الربيع العربي ومستهلتها ثورة الياسمين التونسية.
الوقت فجر. اليوم الثاني من الشهر الأول من العام
الميلادي (3011م)، بعد ألف عام من ثورة اللوتس. مُعتقل قِفار، الركن الغربي من أرض
الرجفة، مبنى فولاذي ضخم أملس، تراه من بعيد يُخيلَ إليك كسفينةِ فضاءٍ إنما راسية
على أرضٍ جرداء مُمتدَّة في كافة الاتجاهات، تُطَّوقه كثبانٌ رمليةٌ ناعمةٌ لامعةٌ
برَّاقة، تتحرك فتُصدرُ أصواتاً مُحشرجةٌ، فلا يمكن لبشري أبداً تحمل الوقوف فيها
لبضع دقائق. أشعة الشمس في باطن الشتاء قاسية فما بالها في شهور السنة الحارة!!
طقسٌ قائظٌ تعدت حرارته الستون. الوصول إليه لا يكون إلَّا جواً، بطائراتٍ طوافة،
تنقل المحكوم عليهم كُلِّ ثلاثة أسابيع مرَّة، تأتي في الصباح الباكر، قبل توسط
الشمس في كبد السماء، تهل في الرابعة فجراً عند أول ضوء، لتُلقي بِحملها من
مُذنبين؛ لِتُغادر بعدها، حاضرين لتأدية العقوبات الأخطر في البلاد، محكوماً عليهم
بعقوباتٍ مُغلَّظة، لا تَهِمُ المدة، المُهم النفي طوال فترة الحبس. لم يعرفوا قط
أن مُذنباً استطاع الفرار من محبسه منذ فترة إنشاؤه منذ ثمانية وعشرون عاماً، يبدو
تصميم السجن من الداخل غيرَّ طبيعياً، لعلهم يقولون أُصيب المُصمم بحالةٍ مَرضيةٍ
هستيريةٍ نفسانيةٍ أثناء عمله في التصميم، أراد تلبية طلب الحكومة ليس لتمضية المحبوسين
لفترة العقوبة إنما لبعث القهر. زنازينه أسطوانيةٌ أنبوبيةٌ فضية. تلك أول مرَّة
يتم تصميم زنازين أسطوانية مادتها صلبة ملساء، فضيةُ اللونِ، لعلها تزيد بطبيعتها
من الإحساس بانعدامِ الفضاء والزمان فلا توجد فيها أركان أو زوايا يستأنس بها
البشريين كالمعتاد. مطلية بلونٍ فضي ومادة صُلبة لزيادة الإحساس بالوحدة والبرودة،
تسريان في نفس المسجون بغتة فتجعله يشيخ قبل أوانه. زنازين لها شباكٍ علوي وبابٍ
واطي. لا يعرف أحد لحّتىَّ الآن لماذا جاء التصميم بشكلهِ الأسطواني من مادةٍ
فضيةٍ صُلبة؛ إلَّا مُصممه، يقولون مات فجأة بالسكتة الدماغية قبل أن يُصَّرِّح
بالسبب؛ أو لعله قد قضى نَحْبَّهُ مغدوراً.
***
أنا
فيفي، أُرَّجِّحْ الثانية، فلِعل للحكومة يد في موته لحَتَّى لا يعرف أحد سرّ
البناء، أو لعلها لا تريد له تكرار تجربته في مكانٍ آخر. على مرِّ التاريح تكررت
مسألة قتل البنائين؛ منهم سِنمار، بنى قصراً لمليكه فقتله، لحَتَّى لا يبني مثله
لأحد، فكان المثل الشائع "جزاء سِنمار". قتل شاه جيهان عُمال بناة
"تاج محل" أشهر مبني في تاريخ الهند، كان قد بناه لمحبوبته حور محب. وإن
كان قتل سنمار لا تجوز معه الفكرة إنما كيف لرجلٍ لديه كُلَّ هذا الحب ناحية امرأة،
ليبني بناءً يُخلد ذكراها، ليكون لديه كُلّ هذا التعطش للدماء؛ فيقتل من بنوا له
ذكرى لمن أحب! .. شهقت فيفي باكية:
-
عجبتُ
لكم يا بنوا آدم، تدَّعون أنكم تُحِبون، في حين تعطشكم للغِّل والذبح والقتل
والقهر كبيراً جداً.
المشهد الأول- ستون ساعة
الثانية عشرة ظهراً، حكيم مُمدداً في محبسه في زنزانته
الاسطوانية الفولاذية الفضية؛ بشباكٍ علوي وبابٍ واطي. ثمان ساعات مضَتْ منذ وصوله
لمعتقل قِفار، في الرابعة فجراً، بمجرد وصوله عزلوه لخطورته الأمنية كما ادعوا؛ مُمدداً
يتفكَّر في حاله وحال البشر، يهمس فلا يسمع حَتَّى نفسه: الله حقّْ، الزمن حقّْ،
التجربة حقّْ؛ سُبحان مغيرِ الأحوال؛ ما بين غمضَّةُ عينِ وطُرفتها يغيرُ الله
حالٍ من بعدِ حال.
ستون ساعة مضَتْ منذ هَبَّ من نومهِ مَفزوعاً مُعتقداً
بفقده البصر الليلة قبل الفائتة. مضت كطرفةِ عينٍ. من بعد عز المدينة وترّفها
لظُلمةِ الحبسِ وتقييد الحريات في مُعتقل قِفار. ستون ساعة. مَرَّت كَأنَّها لحظة،
فيها أحداث عُمرّ كامل، من رفاهة الساحة الاحتفالية لدعابات شقة أعلى المطعم مع
مُطلقته الأولى رِيبا الفاتنة، لرجفةِ أرضٍ قوية، لشراسةِ هجمة الأوبئة وتوحش
الفيروسات، لطلاقه الثاني ووهَمْ التجليات مع سماء حبيبته المزعومة، لكفره بوهَمِ
حُبِ الواقع الافتراضي، لحَتَّى الولوُج لتُرَّهَات حبُّ المال والسلطة والشهرة
والجنس، لمرض الابن، وتحولات آلياتٍ لبشر، وبشر لآشباه، انتهاءً بالعُزلةِ والحبسِ
في المُعتقلِ وحيداً؛ من فرطِ العبثية في البرامج الحوارية للوقوف ضد الغوغائية
وصناع مافيا الواقع الافتراضي.
رحلة بدءها بلا دينية، مروراً بالتفتيش في تجربة الأجداد
في المخطوط الضائع في بحر الرمال العظيمة انتهاءً بدخوله المُعتقل، لتبدأ نيته في
قراءة ما جاء في المخطوط. لم تُمهله أحداث يوم أمس لقراءة ما جاء فيه، عرف أنه
يحمل حقيقة عن تشابه التجربة الإنسانية الفائتة مع تجربته الدنيوية الحياتية
الفعلية الحالية، فعلى الرغم من تغيرِّ الأزمنة والأمكنة تظل تجربة البشريبن
مُتكررة، ففي التاريخ العِبرَّة والعِظة.
-
فمن
يقرأ ومن يعرف!
قالها يبدو عليه الآسى، يعرف أنه يتمدد أصدقاءه في الزنازين المجاورة له، رائد الكوت
وزياد الوطوط والفقير بابا وسرّ الختم أيوب، معهم مذنبون آخرون جاءوا كُلَّهم على
متنِ نفس الطائرة الطوافة. طائرةٌ تصل في الرابعة فجراً. دخل أولاهم قبله بدقائق،
مُلفقين له تهمة إصراره على الترّشُّح لمقعد الرئاسة، زادها تطاوله على مدارات
اللوطي، رجل كُلّ العصور، الذي تصرف معه بغباوة كعادته. دخل الثاني في تهمة هزَّت
أرجاء المدينة، تتعلق بمافيا صناع الواقع الافتراضي. أما الثالث فأدخله إصراره على
عمل نقابة للإعلاميين لمواجة الظاهرة الصوتية في البرامج الحوارية والعروض
الكلامية في الفضائيات، أما ما زاد العداء عليه فمقالته الأخيرة عن الواقع
الافتراضي. لحقهم سرّ الختم أيوب بتُهمةٍ لفقها له رفيق نديم، مرؤوس أيوب في
العمل، صاحب الواسطة والمحسوبية، يقولون عنه مسنود من واحد كبير.. يوم حملتهم على
الفساد كتب في تقريره الرسمي أسباباً غيرَّ مقتعة عن تنحية أيوب له في قيادة
الحملة ما أدى لهروب بعض المُذنبين من المساجين، فلما كان صاحبُ حظوة آلب عليه
بعضهم فأدخلوه المُعتقل في انتظار المحاكمة، ..عحيبة! ليحتفط أيوب لحكيم بنسخة
فلاشة من المخطوط الضائع، وضعتها له أنا في الحافظة التي وجدوها مدفونة في بحر
الرمال العظيمة، حفظتها له لحظة اقتاده رجال الأمن لمحبسه.
-
أجل،
أنا فيفي الراوية، لا تسألون في كُلِّ مرّة اتحدث فيها من أكون؟ .. أسفة.. أتلف
الظلم أعصابي.
تَصادف موعد وصول ركبهم للمعتقل موعد الزيارة الدورية،
عرفوا ساعتها أنهم لم يأتوا في الموعد المحدد للوارد الجديد، جاءوا أربعتهم
بطائرةٍ خاصة، نظراً للتوصية عليهم، يجب أن يكونوا في المُعتقل قبل غروب شمس نهاية
هذا اليوم؛ أرادوا تنحيتهم بسرعة، لعل في الأمرِّ شيئاً فرياً! آلهذا الحد هم
خطيرون!؟ يأتي الزوار في الطائرة العمودية الطوافة لتحضر الوارد من المُذنبين
الجدد، هم القادمون كُلّ ثلاثة أسابيع لقضاء عقوبات؛ إنما غيرَّ محددة المدة.
مُعتقل قِفار؛ الداخل مفقود والخارج مولود. جئت أنا. أجل فيفي. قلت جئت مع طائرة
الوارد، استطعت الوصول لمن أتى ليَّ بتصريحٍ
للزيارة، مُدعية أني سماء ابنة الرابية النايل، الشبه بيننا لحد التطابق، كانت
توسطت أمها ليَّ عند عظمت الياقوت، رجل الدولة المهم، فتكلم مع اللوطي الرجل الأهم،
فأتوا ليَّ بتصريح دخول عاجل. ظن حكيم في البداية أنني سماء، عرفني عندما اقتربت،
وضعت أصابعي على شفتيه، ليصمُت، حَتَّى لا يفضحني.
-
يخرب
عقلك يا فيفي.. عملتي إيه في البنية يا دينا؟
هكذا صاح حكيم. كلما رأني تعجب، شعر لما رأني اليوم
بتغييرٍ كبير، ناولته في يده آلة دون أن يدري أحد، ولا حَتَّى أجهزة التنصت
المُعلقة في المكان التقطت مني شيئاً. لففت فناولته جهازُ عرضٍ مُتناهي الصغير،
حجمه أصغر من عُقلة الأصبع، خبأته كعادتي في مكانٍ سريٍ يَصعُب الوصول إليه.
زودتني دينا ورويدا بأجهزة تشويش فمن الصعوبة اليوم تتبع ما في داخلي، لا يتبين
أحد أني آلية، لستُ بشرية، تعديلات جديدة أجرتها عليَّ دينا لحَتَّى أصبح من يراني
يظُنني بشرية، من يقترب مني يتأكد أني بشرية، أشعر أنا اليوم أني بشرية. نقلت لهم
بعد تردد أخبار عن وفاة السيدة رِيبا الرايق مُطلقة حكيم الأولى، وجدوها مقتولة في
شقة أعلى المطعم، اتهمت الحكومة ظافر أمين بقتلها بتحريضٍ من سِمامة العبيط. زدت
دون قصد من أحزان زياد بمفاجأته بأنهم متهمون أيضاً بأن لهم اليد الطولى في
وفاة ابنته سُولاف، ألقوها عمداً من شرفة
شقة أعلى المطعم ثاني يوم العام الميلادي. ثم عُدت لإخفف الأمرَ على حكيم الذي بان
امتعاضه لسماعه أخبار وفاة زوجته وابنة صديقه، فنقلت له مُتضررة ما ظننت أنه سيكون
خبراً سعيداً لحكيم عن تعافي حبيبته سماء بعد هجمة المتحولين عليها في المعهد الذي
تعمل فيه بغية اغتصابها، لولا مرور حراس الأمن، وردية ليل، فخلصوها بصعوبة من
أيديهم تاركينها بين الحياة والموت.
***
-
تفتكروا
الفلاشة القديمة هتشتغل؟ .. مرَّ عليها ألف عام.
هكذا همس أيوب للجالسين معه في المطعم يتناولون طعام
الغذاء، الساعة الواحدة ظهراً. لم يردوا عليه، فالحراس يملؤون المكان كالمعتاد،
بيد أن الأخطر أجهزة التنصت المُتناثرة في الكُلِّ مكان تصور المُذنبين صوت وصورة،
لا تُفَّوِتُ دبة نملة. انتظروا لحَتَّى خرجوا لتمضية فترة ما بعد الظهيرة في ساحة
المُعتقل المُجهزة للتريض، فترة التريض مُمتدة من السابعة صباحاً لحَتَّى الرابعة
مساءَ، بعدها تُغلَق الزنازين لحَتَّى فجر اليوم التالي، حَتى المُهمين يباتوا
فيها من بعد العصر، مُمسكاً حكيم بالفلاشة مُحدثهم هامساً:
-
زياد
يعرف يشّغل أي حاجة، .. صحيح زياد؟
-
طبعاً
سهل جداً.. حكيم.. أنت كنت طلبت من فيفي إنها تروح معملي تجيب أصغر جهاز للعرض.
-
أيوه أنا فاكر حاجة زي كده.
-
يومها
أنا أرسلتها لدينا زوجة رائد، تعرف هي مُحترفة في هذا المجال، أصبحت تلك المسائل
سهلة..
-
إذن
فنحن نمتلك اليوم فلاشة جاهزة للعمل.
لم يستغرق تشغيل الفلاشة دقيقتين، سرّعت دينا نزار
المُختصة في التفنية فائقة الصغر من عمل الفلاشة، مرَّ عليها أكثر من ألفِ عام
مدفونة في رمال بحر الرمال العظيمة، اكتشفوا بعد دقائق أنها تعمل بكفاءة، حمتها
دينا بخاصية منع التنصت. أخفاها حكيم في مكان داخل جسده، فبات لا يمكن لأحد الوصول
إليها.
منعت الحكومة الشعب من الكلام في أيِّ شيءٍ
يَمِسها أو يَمَسُ النظام. يُمكنك الترتيب للاختلاف الظاهري معهم أحياناً، إنما
محظور الكلام إلَّا فيما يريدون أن يسمعوه، محظوراً على أحد أن يفكر؛ يعني تِشَغَل
عقلك، تِحَاوِل تتفلسف، يضربوك على قفا أمك بالجزمة القديمة، فقط ممكن همهمة. تتعالى همهمات في الزنازين
المُغلقة فلا تعرف ماذا يقول هؤلاء البشر المغضوب عليهم من النظام واتباعه من
البطانة الفاسدة، ظلوا يشاهدون معاً ما في الفلاشة، مُرعب، عَجيب، مُريب، .. كُلَّ
هذا الفساد يا بشر.
***
مضت ثلاث دقائق، بعد الرابعة فجراً، السماء
رمادية اللون كالحة، الطقس شديد البرودة، الإحساس بالبرودة يتنامى داخل الزنازين
المعدنية الفضية الملساء. أزيز الطائرة العمودية يملأ المكان، لها صوتٌ محشرَّج
مخيفٌ، وَيَكَأَنَّها وحشٌ بحري. يسمعها المُذنبون فيعرفون أن الواردَ قد وصل؛
المحكوم عليهم بالنفي هم القادمون. تعالت الهمهمة؛ لا تفهم مما يقولونه شيئاً.
يتقدم فرحان نبهان آمر السجن معه مساعده عرفان بحران يجري في ذيله كالفأر، تتبعهم
كوكبة من حراسٍ لا حول لهم ولا قوة؛ ينفذون اللوائح. هدأ الغبار الذي خلفه هبوط
الطائرة العمودية الطوافة ليظهر من وراء الضباب المندوب القادم معه الوارد:
-
تمام يا فندم.. اليوم معنا خمسة مُذنبون وزائرتين.. واحدة تقول أن اسمها
فيفي والأخرى طبعاً ديانا الكرامة، تعرفونها، أجل هي مقدمة برامجٌ حوارية وعروضٌ
كلامية؛ أستاذة في الجامعة العربية؛ زوجة المُذنب سرّ الختم أيوب.
-
الوارد اليوم خمسة فقط !؟.. أنتم تتكاسلون!! .. نريد المزيد.. هيء هيء
-
هوَام الفقري، غمامة نسيح، آسيان صاروف، ظافر أمين، هؤلاء أربعة، أين
الخامس؟
بعد فترة غياب تتحرك ظلالٌ في باطنِ
الطائرة، يأتي صوت المندوب مَبحوحاً، لا يكاد يتبينه أحد، يعقبه نزول المذنب، مُعلناً
المندوب ذا الوجه المُستدير والرائحة النتنة عن قدوم المُذنب:
-
سِمامة العبيط..
بهت آمر السجن فرحان نبهان لحَتَّى اصفر
وجهه كُرْكُمْ، كاد يُغمى على المساعد عِرفان بحران، يهمهموا دون أن يسمعهم أحد:
ليس لهُم كبير، لحَتَّى أنت يا سِمامة باشا، كانت تهتز لك الأرض، يرتجف الناس فقط
لمجرد سماعهم اسمك، ماذا فعلت؟ لا يمكن أن تكون الجريمة القتل، بل جريمتك كبيرة،
يبدو فعلت شيئاً نكرا، حاولت أن تلعب بذيلك في الخفاء؛ ما طار طيرٌ وارتفع إلَّا
كما طارَ وقع، ظننتُ أنك المتعالي، جاءوا بك لتذق من طعمِ ما فعلت، الشعب يريد إذلال
النظم، الشعب يريد القصاص.
***
-
المُذنبون.. سرّ الختم أيوب وحكيم
لادع فاصل خالص.. زيارة..
يتعالى صوت الحارس الآلي المسؤول عن الأمن. صمم
المِعمار مكان الزيارة بشكلٍ لم يسبق له مثيل، أسطوانةٌ دائريةٌ فيها عيونٌ
دَوَّارة، ليس فيها مكانٍ للجلوس، يقف المُذنب والزائر معاً متواجهين، بينهم حائط
زجاجي صلب لا يتبين منه إلَّا قضبان حديدية، يمكن للواقفين تلمس الأنامل من فتحة
شباك دائرية لا يزيد قطرها عن سنتيمترات، لا تسمح إلَّا بالسلامِ بالأنامل، أكُف
الأيدي لا تمرَّ منها، ممكن أصبعين.
-
بوب وحشتني.
-
أنتِ أيضاً يا ديانا.. قوليلي سمعت أنهم اعتقلوك يوم اعتقلوا الفقير بابا!
-
كلا.. لم تثبت علىَّ أيَّ تهمة.. لم أفعلُ شيئاً.. دموعها تنهمر.
-
حبيبتي، لا أحب أن أراكي تبكين..
-
لا أبكي.. أنت عامل إيه؟
-
أبداً تمام، مش عارف، الحمد لله،..
-
بعدت عني.
-
لم كن أعرف أن الأسر يسبب العذاب.. الحرية نعمة.
-
افتقدك كثيراً.
-
أعرف.. أنتِ في قلبي وعقلي.
-
أصبحتُ شاعراً..!
-
الحريةُ نعمة.. سأخرج قريباً.
-
قدمتُ الطعنَ.. رئيس وحدة الأمن العام واقف معك.
-
الواسطة ولاد الكلب والمحسوبية.
-
يعرف رئيسك أنك لم تفعلُ شيئاً.
-
لا تخافي، كلها أيام.
-
لا تخف عليَّ..
-
التفتي أنتِ لنفسك..
-
خذ أنت بالك على حالك..
-
عاملة إيه يا فيفي؟
صوت حكيم خافتاً ليس كعادته مزهواً بنفسه،
اليوم يشعر أنه مقهوراً، كان من الحكام، سار معهم فخذلوه لهفوة،، لفت الحلقة
الأسطوانية الدوارة، اختفوا ديانا وسرّ الختم ، ليبان في الأخرى حكيم وفيفي
تُجيبه:
-
أنا كويسة..
-
فيه حد بيسأل عليه؟
-
لا أحد..
-
سما سألت؟
-
لا أحد..
-
الرابية سألت؟
-
لا أحد..
-
مالك يا بطوط؟
-
قلت لك لا أحد غيري يسأل عنك..
-
زعلانة ليه؟
-
أنت حَتَّى لا تراني..
-
عملوا فيكي إيه يا منيلة؟
-
أنا منيلة!. أنا لا أفهمك..
-
ما بِك أصبحتي عصبية! ..
-
أنت لم تسأل عن أولادك!. ما بك!؟
-
آه .. الأولاد.. آه ..
-
يا أناني!
-
عندك حقّْ.. كيف حالهم؟
-
افتكرت الآن!!..
-
عاملين إيه!؟
-
البنت كويسة، إنما الولد ما زال في المشفى المركزي، شيخة ترعاه، تقول أنه
يتحسن.
-
لا تغيبي علي.. طمنيني عنك.. عن الكُلّ.
-
قلت لا أحد يسأل عنك غيري.. إفهم يا حمار..
***
-
تُعاقب
على شيءٍ لم تفعله لأنك لم تُعاقب على
شيءٍ فعلته.
هكذا أجاب الفقير بابا مُتفلسفاً على
سؤال حكيم له عن سبب اتهام سَليم حديد نادل المطعم له في حادثة مقتل طليقته ريبا وسُولاف
ابنة زياد، فنال خمسة عشر يوماً على ذمة التحقيق، .. ناظراً له من خلف نظارته
السميكة، ناظراً له حكيم، ثم مُلتفتاً لسرّ الختم
ورائد وزياد وآسيان:
-
عُدنا
للفلسفة الفارغة!
-
ليست
فارغة تلك حكمة إلهية.. أصل الحياة في التفكير.
-
أنتم
كلم تعاقبون على أشياء فعلتوها إلَّا أنا.
-
كيف
يا فالح؟
-
تقولون
أن الجزاء من جنس العمل، وأن العقاب يأتي لجريمة محددة.
-
من
قال لك ذلك!؟
-
الديانات
تقول من قتل يُقتل ولو بعد حين!
-
أيضاً
تقول وبشر الزاني بالفقر.. لم تقل بشر الزاني بالزنا.
-
أنا
لم أقتل ريبا كما أنني لم أقتل سُولاف.. أنتم تعرفون.
-
أولاً
لا أحد يعرف.. أين كنت أنت وقت وقوع الجريمتين!؟
-
كنت
موجود مع ابني المريض.. في المركز الطبي.
-
هل
هناك شهود؟
-
لحظة
القتل.. كانت معي فيفي.
-
لا
يأخذون بشهادة الآليين.. أنت تعرف.
-
لم
تعد..، أنتم تعرفون..
-
ماذا
تقصد!؟
-
لم
تعد آلية تحولت لبشرية..
-
أعقل
يا حكيم.. أحسن تخرج من هنا على الخانكة.
-
لم أقتل.. لم أقتل.. لم أقتل..
-
إنما
فعلت أموراً أخرى تستأهل عليها العقاب..
-
لا
.. لم أفعل..
-
بلى
فعلت.
-
فعلت
مثل كُلّ البشر..
-
أه..
إذن فعلت يا كذاب.
-
أردت
أن أعيش كما يحلو ليَّ، لم اتعرض بالأذى لأحد، الطموح مشروع.. تعرفون!
-
أيّ
طموح؟ .. طلقت رِيبا، طلقت تيا ابنة عظمت الياقوت، اشتهيت امرأة غيرك؛ سما زوجة
ظافر، أخذت رئاسة القسم من الفقير بابا، حرضت أصدقائك على فعل ما حرّم الله، تحديت
مافيا صناع الواقع الافتراضي؛ .. أردت الزعامة والسلطة؛ شهواتك غلبتك يا رجل.
-
كُلها
أشياء لا تستدعي العقاب،
-
هذا
رأيك أنت.
-
الاتهام
بالقتل خطيرٌ جداً..
-
معك
حقّ.
-
تعرفون
العقوبة.. الإعدام.
-
فتش
يا حكيم في حياتك.. أنت تعرف ذنبك.
-
تقصد
عدم الإيمان بالله..
-
أنت
قلتها..
-
أعرف..
-
دفعك
غيك لأن تستحل المال الحرام، الكسب غيرَّ المشروع، قتل الأبرياء، آذيت بني وطنك.
-
لا
تتذاكى علي..
-
أنا
لا أتذاكي يا أخي..
-
كلنا
نعرف أن عدم الإيمان بالله يجعل المرء مُستهتراً، يستحل الحرام، يستأهل العقاب في
الدُنيا والأخرى، العقاب بأيِّ شكل.. المهم أنه عقاب لا يُقارن بعِقاب الآخرة.
-
أصبح
عدم الإيمان ذنب يُدخِل المعتقل؟
-
حكيم
لا تستهزأ بكلامي.
-
لم
أكن أعرف.
-
لا
تسخر مني!
-
عدنا
من حيث بدأنا.
-
لعل
في الأمر حكمة.
-
الله
يخرب بيت أم الفلسفة..
المشهد الثاني- موجود يا فندي
امتلئت البلد بالمهمشين،
فسَليم حديد ليس هو فقط الصورة النسخية لمن عاش فيها، إنما هو الخارج منها ليحيا
في طبقة غيرَّ طبقته. أما الباقون ممن عاشوا في غياهب طرقات وحواري تلك المناطق
العشوائية، فلم يسلَم منهم رجلٌ وحيد من الدخول لعالم الحبس، حكم عليهم القدر أن
السجنَ هو الملاذ الآخير لبني وطني. وقف سرّ الختم أيوب معه رفاقه في ساحة
المُعتقل الفسيحة وقت التريض يتداولون:
-
عرفتم
.. جاء معنا اليوم الوارد الجديد.
-
يقولون
سِمامة العبيط وظافر أمين أتوا معهم.
-
تهمتهم
معروفة.. قتل الراقصة والصبية البريئة.. سرقة المال العام.. الكسب غيرَّ
المشروع..
-
هم
قتلة زوجتك يا حكيم، .. ألقو ابنتك يا زياد من الشرفة.. نهبوا فلوس البلد.
-
يقولون
انتحار.. السيدتين كانت بينهن علاقة آثمة، بكشفهن انتحرتا.
-
كذاب..
نهايته ستكون على يدي ابن الحرباية..
-
بل
على يدي أنا.. وحياة أمك يا سِمامة ما أنا سايبك..
-
أشك
أن تلك هي الحقيقية، .. فعل الرجل فعلة شائنة.. لعله كبش فداء أيضاً.
-
أتوا
معهم بصديقنا آسيان صاروف.
-
حيرهم
آسيان، فهم لا يستطيعون وضعه بين المُذنبين.
-
ياكلوه
يا بابا.
-
يجب
أن يعزلوه، فالرجل خطر على المحرومين.
-
رجل!
.. أيّ رجل!!
-
نعم
يا أخي.. لا يستطيعون وضعه في سجن النساء.
-
لعلهم
عليهم تشييد سجناً آخر للجنس الثالث، .. فهُم كُثُر.
-
وضعوه
في الجناح القريب من آمر السجن.. عينيه زاغت عليه الظاهر!
-
تعرفون
تهمته!؟
-
صناعة
الواقع الافتراضي.. أمسكوا بالكُلِّ.
-
الحكومة
الجديدة لديها رؤية.
-
يُنظفون
البلد من الحثالة.
-
يقولون
أن النجاسة تأتي بالفقر..
-
تعرفون
من أتى معهم؟
-
من
يا ترى؟
-
.. يقولون ظافر أمين التابع
المُخلِص لسِمامة العبيط.
-
ورجلين
من المهمشين.
-
أيِّ
مهمشون.
-
الأقرع ونسيج.
-
ياه..
هوَام الأقرع وغَمامة نسيج.. أعرفهم..
هكذا أنهى سرّ الختم الحوار مُتعجباً، مُقرراً لهم حكي
قصة معرفته بهوّام وغَمامة بعد أن تبين للجميع داخل المعتقل حبهم له، فهم يعاملونه
منذ يوم قابلوه في المُعتقل باعتباره صاحب فضل عليهم، لم يعتد البشر في بلدنا هذه
العلاقات الحميمة بين المجرمين ورجل من رجال الأمن العام. افترش أيوب الأرض فجلسوا
حوله يحكي لهم قصة معرفته بالرجلين؛ فبانوا كَأّنَّهم يشاهدون معه فيلماً
سينيمائياً درامياً عجيباً.
هوَّام الأقرع. أجل هذا اسمه. قصيرٌ، جسمهُ دقيق، نحيفاً،
زِبلة، مثله كمثل غالبية الجيل الجديد من أبناء أهل بلدنا، تراهم وهن العظم منهم، مرَّة من سوء التغذية ومرَّات من التعبير
الدال عن أن ضآلة البدن من ضحالة الفكر، قالوا في الماضي كُلُّ قصيرٌ لئيم. كنيته
الأقرع، لا يعرفون له أبٌ ولا أم ولا حَتَّى عائلة.
حلقَ شعر رأسه مقلداً لاعبي الكرة المحترفين. معروفٌ هو
في منطقة "تُهمة العشوائية" بولعِه بِلعبة كرة القدم، حاول عمره كُلّه
البالغ الأن الثانية والثلاثون عاماً أن ينضم لأي فريق من فرق كرة القدم في بلده
إلَّا أنه دائماً ما كان يفشل. ففي سنوات الحضرية الأخيرة أغلقت الفرق الرياضية
أبوابها على اللاعبين القدامى وأبنائهم، ثم المحاسيب والمعارف، لحَتَّى تدنت
اللعبة الشعبية؛ حالها مثل حال كافة الحرف والوظائف والأعمال؛ فلم يعد للكفاءة
والعلم والخبرة والتجربة مكان، فلابد أن يكون لك سند ومعرفة حَتَّى يمكنك الالتحاق
بأيِّ محل عملٍ من أنشطةِ الحياة، لحَتَّى الرياضة تغلبت عليها المحسوبية والواسطة
والرشوة والشللية والغش. فمهما خرج المسؤولين ليدعوا بأنهم يحاربوا آفة الواسطة
التي خرَّبَّت البلد على مدار سنوات طويلة إلَّا أنهم يخشون منعها، فمن أكبر واحد
فيهم لأقل واحد شأناً الواسطة عنده هي الأساس، لحَتَّى بات توريث الوظائف في
بلادنا سِمة عامة؛ .. التوريث معاليك؛ .. فاهم؟
تحول هوَّام بعد معاناة طويلة مع
الباشوات لبلطجي آراري، بدأ حياته لاعب في طرقاتِ منطقته العشوائية، صال وجال في
مسابقات كرة قدم شعبية تُنظم في شوارع وسط البلد، لَم فلوس يامه من عائد احتراف
اللعب لفريق ومراهنات الناس، إلَّا أنه نظراً لسوء التغذية وضألة حجمه لم يستطع
الاستمرار؛ البقاء في الملاعب لفترة يحتاج لبنية قوية وتغذية ورعاية، هو يعاني
اليوم من شبه أنيميا حادة جراء الجوع، جعلته بعد فترة يعتزل، ليبدأ في فِعلة
التسول. رحلته مثل الآلاف من البشر المهمشين، معه الملايين يملؤون طرقات المدينة،
حاملين مناديل ورقية وألعاب قادمة من الصين الشعبية، تُباع وتشترى بقروشٍ زهيدة في
إشاراتِ المرور وعلى أرصفةِ طرقاتِ المدينة؛ باتت ريفية. بات الأقرع من أشهر باعة
القطارات الحاملين لقوالبُ نعناعٍ وشيكولاته مُصنعةٍ تحتَ بئر السلم. يخرُج كُلَّ
يوم من قريته لمنطقة عشوائية متاخمة للعاصمة، يذهب فيها لفلتة نهار التاجر، مَسؤول
توزيع الأنصبة، يأخذها منه بالأجل، لا يدفع الثمن حالاً إلَّا بعد البيع. ليلف طول
النهار والليل، مرَّة يبيع ومرَّات يتسول، في آخر الليل تجده مَلقياً تحت كوبري
سيارات أو في أنفاقِ مُشاةٍ مُظلمة، يشم كُلَّة، يشرب سبرتوا، لساعات ما بعد
مُنتصف الليل، ثم مُغادراً للحي الذي يعيش فيه مُنهاراً، لتراه يتمايل مُخدراً،
يرمي بنفسه في أيِّ خرابة، ينام للصبح في الطل، صيف شتا، برد حر؛ رحلته يومية
دائمة؛ لا يعرف متى بدأت ومتى تنتهي. يعرف عنه سرّ الختم أسراراً تملأ مدونات، فهو
زبون دائم، مُتردد عليه من يوم كان مأموراً لسجن منطقة تُهمة. في البداية عامله
على أنه شاب صايع بلطجي خارج عن القانون مُتمرد مُنحل فاسد، يُمارس أعمالاً
مُنافية للآداب، يشرب المخدرات، يُمارس الدعارة أسفل الكباري وداخل الأنفاق مع
أطفال الشوارع كغيره من المهمشين في البلد، البالغ عددهم حوالي العشرة في المائة
من إجمالي الشعب. تُطلق عليهم البحوث الاجتماعية قنبلة موقوتة، يحذرون منهم،
يعرفون سرعان ما سينقلب السحر على الساحر ليسري يومِئذ في المُجتمع ليُحطمه. إلَّا
أن الاهتمام بتلك القنبلة لا يلقى أيَّ مردوداً فعلياً من المسؤولين. همهم كما
يقول هوَّام مقاعد السلطة وزكائب الفلوس، كَأنَّهم سيأخذونها معهم إلى الآخرة،
ليضحك سرّ الختم من دعابته:
-
يا
فندي ولا واحد منهم هيورِد على آخرة؛ لا جنة ولا نار. كلهم عارفين إن الدُنيا هنا
والآخرة هنا، مفيش حاجة هناك، .. هناك فين؟ .. والنعمة يا عم الحج هم متأكدين إن
مفيش دنيا ثانية ولا يحزنون.
بمرور الوقت نشأت بينهم علاقة خاصة من نوعٍ غريب. فكلما
جاء هوَّام إثر حملة من حملات القسم العشوائية على طرقات العاصمة، يراه سرّ
الختم ينذوي بمفرده في أيِّ ركنٍ يضعه فيه
المخبرين أو مُنفذي الحملة الأمنية، لا ينطق بكلمةٍ وحيدة. له نظرة عين لم يرَّ
مثلها من قبل، يحكي عنها لزوجته ديانا فتتمنى عليه أن يُعّرِّفها بهذا الشخص غريب الأطوار. بعد عدة
أشهر من الحملات التي تلمه مع أقرانه من مُتشردينٍ ومُهمشين، لاحظ عليه أنه لا
يعترض، لا يتألم، لا يبكي أبداً، لحَتَّى أنه لا يتبين على وجهه أيَّ علاماتٍ
للتأفف التي عادة ما كانت تصدُر من باقي الآتين معه في أيِّ حملة. كلما تزايد
الصفع من معاونيه على القفا والركل بالأرجل كلما تمادى في صمتٍ تامٍ، مُتعمداً
إلَّا تصدُر منه صرخة ولا نفخة ألم؛ تزداد في عينيه النظرة صلابة. يظل يُحملق من
فجواتِ أصابعِ قضبان نافذة حديدية، مُنفلتٌ من بينها أشعةُ شمسٍ في النهار وضوءُ
قمرٍ باردٍ في الليل. تراه يُدقق بشكلٍ غريبٍ بين قضبانها، مُركزاً عينيه في موضعٍ
وحيد، كأنه يُركز عينيه على شيءٍ يراه، فلا يراه أحد غيرّه. يقول سرّ الختم بأنه
أحس بذلك، فكان يتعمد الوقوف أمامه كلما جاء ليبدءوا معه ومع غيره التحية المعروفة
في أقسام الشرطة، حفلةٌ مدويةٌ من الصفع والركل. يراه ينظر لنفس الموضع، لم يهتز
له رمشٌ، لم يتحرك له جفن. أحس سرّ الختم بنظرات الرجل تحرق صدره، تحاول أن تنفذ
من بين ضلوعه، تروح لنقطة افتراضية في الخارج؛ كأنها نقطة لا
تتبين إلّا له بمفرده من وراء القضبان، صارخاً فيه
المعاون دابر وهيبه:
-
بتبص
على إيه عندك هناك يا ابن الجزمة؟
لم يرد، حَتَّى لم يهتز له رمش.. ظل يُحملق في البعيد..
-
رد
يا جزمة.. يلعن أبو أم اللي خلفوا أمك.. هتشتغلني باين؟
-
مُحملقاً
في البعيد: مفيش يا فندي؟
-
مفيش
إيه يابن الكلب!؟
-
بمرارة:
ابن الكلب!!؟ .. يا ريت..
-
بتقول
إيه يا روح أمك!؟
-
حَتَّى
الكلب أحسن من ابويه.
-
ليك
نفس تهزَّر يا بعيد!
-
مفيش
يا فندي.. لا كلب ولا أم..
-
اتعدل
لا أقوم أعدِل أمك.. أنت لقيط ياض أنت؟
-
وحيد،
لقيط، .. سجن كبير يا افندي، .. ممكن بس شوية كده!!
يحاول إزاحة الرجل بيديه من أمامه، ليعود لينظر من بين
القضبان للبعيد. في هذا اليوم، يحكي سرّ الختم
أنه لم ينم، ظل طوال الليل يحدث نفسه عما جناه هؤلاء المهمشون من اللقطاء
وأطفال الشوارع. رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ من كافة الأعمار ليس لهم إلَّا أحضان
الشوارع، لا هم للمجتمع إلَّا التلطيش فيهم ليل نهار. نعاملهم كما عامل الرومان
العبيد في العصور الوسطى، بل نعاملهم معاملة أسوأ من العبيد. نبدو اليوم نحن أشد فتكاً
من كفار ما قبل الرسالات السماوية، أبو لهب كان يعامل العبيد قبل الرسالة أرحم
مننا، هند بنت عتبة كان لديها عبدٌ حبشي تُطعمه وتكسيه مما تأكل وتلبس. ما لنا
أصبحنا أشد قسوة على بشرٍ هم إخوة لنا، لا نراعي لهم حرمة ولا إنسانية، هم في
نظرنا أقل من كلاب السكك، ماذا سنقول لرَّبِّنا يوم العرض عليه إذا سألنا عنهم؟ ..
هم أيضاً من الرعية. في اليوم الثاني واقفاً هوّام أمام أيوب يحقق معه:
-
قرب
يا بني أنت اسمك إيه؟
-
الاقرع
.. هوَّام الأقرع يا فندي.
-
تعرف
مين أبوك وأمك يا بني؟
-
مفيش
يا فندي.. الشارع والدُنيا الواسعة أبوية وأمي..
-
الحكومة
أهل اللي مالوش أهل يا بني.
هكذا بادره أيوب، ليرمقه هوَّام بنظرةٍ تقطُر سُخريةٍ،
ليعود لينظر في النقطة البعيدة من بين قضبان غرفة الحبس الحديدية، قضبان تكاد تملأ
غرفة المحقق، فيلحق أيوب سؤاله بسؤالٍ بصوتٍ هاديء هذه المرَّة يملؤه فضوله فبان
في سؤالة رغبة في المعرفة مع مِسحة حنان:
-
ممكن
أعرف إنت بتبص على إيه عندك يا هوَّام!؟
-
موجود
يا فندي.. أكيد موجود يا فندي..
-
ولّه
!!.. هتعمل مجذوب القرية.. هاؤوم الطش أمك.
-
مفيش
يا فندي، لا أب ولا أم.. سجن كبير يا فندي.. كُلنا في سجن كبير يا فندي، هنا في
الحبس مسجون بره في الشارع مسجون، .. مش قادر اتنفس يا فندي.. نفسي طابق عليه..
روحي بترفرف في صدري.. هَموت..
-
بتبص
على إيه بره الشباك يا هوَّام؟ .. تعرف حد بره؟
-
موجود
يا افندي.. كُلّ ما أجي الحجز أحس إنه بيشاورلي من بره، من ورا القضبان، بيقولي
أنه موجود.. موجود.
-
أنت
باين عليك غلبان..
-
غلبان
إزاي يعني!؟ .. أنا مين يا فندي!؟.... أنا ولا حاجة..
-
استغفر
رّبك يا بني.. حرام تقول كده.. رَّبِّنا كبير..
-
وأنت
يا فندي بتعرف رَّبِّنا؟
صفعةٌ مُدويةٌ تحُط على قفا هوَّام الأقرع من كف دابر
وهيبة المُخبر تزِّن، من أصحاب الكفوف الكبيرة، كَأنَّهم يختاروهم أصحاب كفوف
كبيرة، يعرفون أن عملهم الصفع على القفا؛ ضرب القفا بيضعف النظر. الصفعة قوية
تنطره لحد الشباك، يتعلق بيديه في القضبان، يظل ينظر لبقعة الضوء في الخارج. ينزف
دماً من أنفه من هول الصفعة، لم يبك، لم يصرخ. يقول سرّ الختم لأول مرَّة في حياته بعد السنين التي تعامل
فيها مع المُذنبين من كُلِّ صنفٍ ولون، أنه سمع شهقة لم يسمع مثلها من هوَّام
الأقرع، شهقة مسحوبة بذيل، يبدو مكتومٌ فيها ذُل الدُنيا، فيها صوت قهر كُلِّ
العبيد والمعذبين في الأرض من يوم ما خُلِقت الدُنيا لحَتَّى اليوم، حَتَّى اسمه
هوَّام، يعني الهائم على وجهه، المتنقل في الأمكنة. يومها طلب سرّ الختم من دابر وهيبة ومن معه أن يغادروا غرفة الحجز،
يدعوه بمفرده مع هوَّام القادم من عشوائيات "تُهمة البلد"، يعرف مثله
الآلاف، بل لعلهم اليوم بالملايين. طلب منهم قبل أن يغادروا إحضار طعام وشاي. فاجئه
هوَّام بعد إحضار الطعام والشاي ووضعه أمامه، لم يمد يده ليتناول الطعام، لم يشرب
كوب الشاي، لم ينظر حَتى ناحيتهم، ظل مُعلقاً نظره لخارج القضبان، لم يمسح الدم من
على أنفه ووجهه؛ تجلط الدم من تلقائه، لديه فقرُ دمٍ حادٍ، لحَتَّى النزيف يتوقف
من تلقاءِ نفسه. سأل هوَّام سرّ الختم دون
أن ينظرله بنبرةٍ تبدو جادة، ليس فيها شبهة سخرية أو استهزاء، إنما تبدو مُمتلئة
بقهر الدنيا:
-
قل
ليّ يا افندي؛ الحكومة بتاعتكم بتعرف رَّبِّنا؟
-
الحكومة
مش بتاعتنا يا هوَّام، الحكومة بيختارها الشعب.. الشعب بتاعنا زي ما الناس عارفة
شعب مؤمن بالله.. بلدنا يا هوَّام مليانة ناس مؤمنة.. أطرق بعدها أيوب كأنه يراجع
نفسه، ثم عاد لا ينظر لعيني الرجل: يعني فيه كده وفيه كده.
-
إذا
رِّبِّنا سألكم يا فندي عننا، هتردم هتقولم إيه؟
-
تقصد
إيه يا هوَّام!؟ .. يعني تقصد مين بِعَّنُّكم!؟ .. من أنتم!!؟
-
لو
رَّبِّنا سألك يا فندي بتضرب هوَّام على قفاه ليه.. هترد هتقول إيه؟ .. لو
رَّبِّنا سألك أنت ليه كُلّ يوم والتاني بتلم هوَّام من الشارع تديله طريحة هو
واللي زيه هترد هتقوله إيه؟ .. لو رَّبِّنا سألك يا فندي أنت ليه سايب هوَّام مرمي
زي الكلب في الشارع من غيرِّ شغل ولا أكل ولا شرب هترد هتقوله إيه؟ .. لو رَّبِّنا
سألك يا فندي هوَّام بيحب يلعب كرة ومفيش نادي يلعب فيه علشان واد وسخ بتاع شوارع
وهم أخدين ابن معالي الباشا والبيه والهانم والبرنسيسة بالواسطة والمحسوبية هترد
هتقوله إيه؟
-
هوَّام
أنا مش الحكومة.. الحكومة ديه نظام.. ناس كتير.. افهم يا بني!
-
لو
رَّبِّنا سأل النظام يا افندي هوَّام ابن مين.. النظام هيرد هيقوله إيه؟ .. لو
رَّبِّنا سئل النظام هوَّام واللي زيه مرميين في الشوارع أقل من كلاب السكك ليه..
النظام هيرد هيقول إيه؟ .. لو رَّبِّنا سألكم عننا يا بيه هتردوا هتقولوا إيه؟
-
الحكومة
والنظام عندهم مسؤوليات يا هوَّام؛ .. بلدنا مُستهدفة.. فيه أجندات خارجية.
-
الكلام
ده تقولوه في الجرانين يا بيه، .. في الفضائيات.. مش هينفع تقولوه لرَّبِّنا.
-
أنت
عرفت الكلام ده منين يا هوَّام!؟
-
صدّقني
يا فندي.. الحكومة والنظام اللي سايبة هوَّام واللي زيه مرميين في الشارع كُلّ
واحد يلطش فيهم شوية.. حكومة ما بتعرفش رَّبِّنا، حكومة ظنها إن رَّبِّنا مش
موجود..
-
هوَّام
أنت كده بتكَّفَّرّ الحكومة عيني عينك.. جريمة يعني!
-
عرفت
يا فندي أنا بادور على إيه.. والا لسه؟
-
تقصد
إيه؟
صمت هوَّام بعدها تماماً، لم يتكلم، لم يمد يده لطعامٍ
أو شاي، ليعود لينظر من جديد من بين القضبان المفتوحة. أظلمت الدُنيا في الخارج،
لاحت نقطة بيضاء، تبينتله بمفرده على إثر دخول أشعة ضوء القمر، فأنارت غرفة الحجز،
إلَّا أن هوَام لم ينطق ثانية أبداً. رجع يومها المقدم سرّ الختم أيوب بيته
مُنهاراً، حكى لزوجته ديانا الكرامة عما حصل مع هّوام الأقرع، لم ينظر يومها لطعام
عشاؤه، لم يتناول حَتَّى كوب الشاي، سألها مهموماً: هو كان بيدور على إيه؟ ليدور
بينهم حوار بائس:
-
هوَّام
كان بيدور على إيه من ورا القضبان يا ديانا؟
-
يكون
الواد مهبول يا بوبوس؟ .. الناس دول الجوع هبلهم.
-
عارفة
هوَّام الأقرع كان بيدور على إيه يا ديانا؟
-
مش
عارفة! .. قول انت!!..
-
هوَّام
كان بيدور على رَّبِّنا يا ديانا.
-
ياخبر
اسوح يا أيوب، انت باينلك اتجننت! .. استغفر الله العظيم.. مالك حتكفر!؟
-
هوَام
عنده حقّ يا ديانا..
-
مش
فاهمة!.
-
هو
رَّبِّنا صحيح موجود يا ديانا!؟
-
لا
إلا إلاالله.. طبعاً رَّبِّنا موجود.. استغفر الله العظيم..
-
الحكومة
عارفة يا ديانا إن رَّبِّنا موجود؟
-
مالك
يا أيوب الواد جننك انت كمان! ..الحكومة نظام..
-
لما
النظام هيقابل رَّبِّنا يا ديانا ويسأله عن هوَّام الأقرع.. النظام هيرد يقول إيه؟
-
موجود..
رَّبِّنا موجود..
مُهللاً يدخل غَمامة نسيج في لمتهم وسط الساحة مُقبلاً
لسرّ الختم في رأسه، ناظراً للمُلتفين
حوله، مُردِداً:
-
جابوه
معانه ابن العالمة.. كان فاكر إن مفيش رَّبِّنا.. موجود والله.. رَّبِّنا موجود..
يُمهِل ولا يُهمِل.. أوقات كتير بيتأخر شويه.. لكن بيجي.. دايماً بيجي.. موجود..
والنعمة الشريفة موجود.
يضحك الكُلّْ على غَمامة، عارفين بأنه يقصد بكلامه سِمامة
العبيط. يبتئس ثانية سرّ الختم؛ حاكياً لهم عنه: غَمامة نسيج واحد تاني من آلاف
الضحايا. بيلموه في حملاتهم على المُهمشين المَرْمِيِيِن في ُطرقاتِ البلد
ومواصلاتها العامة. غَمامة كُلِّ مرة بيلموه بيكون في واحد من قطارات المدينة
الرابطة بين شرق المدينة وغربها، كُلّ مرَّة بيقولوا فعل فاضح في الطريق العام.
-
عملت
إيه النهارده كمان يا غَمامة؟
-
تحرُّش
يا سعادة الباشا.. ضُبط مُتلبس معاليك..
صوت رابح جاويش، واحد من أصحاب الكفوف المفلطحة، قصيرٌ،
مدملكٌ، عريضٌ، لا يتعدى طوله المتر ونصف المتر، عليه كف إيد يمكن أربع مرات عرض
جسمه، كف مِترَكِّب لها بني آدم، كارثة لو بتكون الداخلية بتفصلهم مخصوص. رابح في
كفه ستة أصابع، عيب خلقي؛ رشحه بقوة لنيل الوظيفة. لم يكن غَمامة نسيج بأقل غرابة
من هوَّام، تراهُ رجلٌ رِبع، يرتدي الجلباب البلدي القديم، يلبسونه منذ ألف عام أو
يزيد، يلف حول رأسه عِمامة زرقاء بخطوطٍ بيضاء. أصله كان يعمل في حرفة صناعة
الملابس اليدوية، هو من ضمن من خرب بيتهم الأب لسِمامة العبيط. بمجيئة وتكوين
إمبراطورية الملابس المُصنعة الجديدة، لم تعد لصناعة الملابس ذات النسيج التقليدي
المُصّنَّعة يدوياً سوق. أغلق العبيط عليهم أبواب الرزق، شرَّد أسر كاملة تعمل في
هذه الحرفة، شرَّدهم ولطَّم عِيالهم؛ والحكومة ساكتة.. موالسة بقى ولا إيه!؟ ساهمت
حملة الخصخصة التي اتبعتها الحكومات المُتعاقبة في تشريد آلاف من العاملين في
الصناعات التقليدية من العمال والموظفين الصغار. زاد المهمشين. أغُلقت أسواق
بدخولِ رجالُ مالٍ وأعمالٍ لسوق بيع وشراء المُنتجات التقليدية المُصّنَّعة
يدوياً. اشتروا المصانع، شردوا العمال، أغلقوها، باعوها مرّة ثانية، أغرقوا السوق
باستيرادهم لأصناف شبه اللي بيعملها أولاد البلد الأصليين، جابوها من دولٍ مجاورة
على رأسها الصين وكوريا وتايلاند وماليزيا، بحجة إن صناعة البلد بتخسر، المستورَّد
أرخص وجودته أعلى. لم يجد غَمامة نسيج إلَّا الشارع ملجأ بعد أن رَموله قرشين
مكافأة نهاية الخدمة. صرفهم على العيال. بعد بضعة أشهر، سنة بكثيره، البيت مفهش
ولا مليم، الجوع كافر، العيال عايزة مصاريف، الولية أمهم قرفت منه، تسخر منه،
أسمته المَاوكُوس، المَاوكُوس راح، الماوكُوس جه. ضحكت الحكومة عليه، لبسته
السلطانية. يترك بيته من صباح رَّبِّنا، يَخُرج تاركاً زوجته وأربعة أطفال، يجوب
الطرقات. طول النهار يبحث عن مصدر رزق، لقمة للعيال. هو دقة قديمة، كهل تعدى
الخمسين، من يريد رجل كهل يشتغل عنده. هجرته زوجته، أخذت أولادها معاها بيت أبوها،
معقول هيروح هو كمان ليُصبح عالة على أبو مراته. لف في الشوارع كعب داير، ليالي
وأيام، تعب، هلك، انهار، ابتدى ينط في القطارات، باع مناديل ورق وأوراق تواليت
وكبريت فوسفور ونظارات شمس. دماغه لحستها الشمس والتعب والتسول من بعد ما كان رئيس
وردية محترم، آه.. سي غَمامة راح.. سي غَمامة جه، بقيِ متسول كحويل. خلوه
مَاوكُوس. بيشم كلة وبانجو، شرب سبرتو وطافية سجاير ومنقوع البراطيش. أطلق اللحية
ولبس المركوب، تراه تتصوره مجذوب القرية اللي بيكتبوا عنه في الروايات. واعي فاهم
كُلّ حاجة، مثل العاطلين والمتنطعين في عرض الطرقات وفي وسائل النقل العام.
استمرىء التسول والتحرش بالنسوان، يوم والثاني يجيبوه مضروب علقة موت، بعدين
يلاقوه مرمي في محطات القطارات، أو مسحوب من قفاه يترمي في الحجز أيام وليالي،
محدش يسأل عنه، هو لا يسأل عن أحد.
-
أنا
مَاوكُوس يا سيدنا الباشا؟
-
يعني
مش هتتلم يا راجل أنت؟
-
الحكومة
غدرت بينا سيادتك..
-
بلاش
تخريف يا غَمامة.. إياك تغلط في الحكومة.. لايمها.
-
قالولنا
معاش مبكر معاليك.. قرشين تعمل بيهم مشروع، صندوق اجتماعي، هتبقى رجل أعمال صغير،
تكبر وتكبر فلوسك، فلوسك تزيد تبقى رجل أعمال كبير. تعلم ولادك، تسافر تصيف في
تركيا، تعيش حياتك يا مَاوكُوس..
-
مالك
يا غَمامة!؟
-
صدقتهم
يا سيدي البيه.. كلنا صدقنا معالي الباشا وسيدي البيه، استثمار وضمان اجتماعي..
وعيشة هتبقى فلة..
-
انتم
عايزين تتمرغوا في الميري.. الحكومة غِلبِت معاكم.. انتم مش بتوع شغل..
-
يعني
السنين اللي فاتت يا باشا مين اللي كان بيشتغل! .. أمي!؟ يكونش معاليه واللي معاه هُمَّ اللي كانوا
بيشتغلوا.
-
إتلم
يا غَمامة يا نسيج..
-
اتلمينا
يا باشا.. خلاص حلال عليهم العمولة.. باعوا البلد وقبضوا.
-
ده
يخليك تتحرش بالنسوان يا فاجر..
-
مظلوم
يا باشا.. النسوان كدابين.. سيادتك عارف..
-
أنت
متجوز يا غَمامة؟
-
المرة
طفشت من الفقر.. بتقول عليه خرنج.. أنا خرنج يا باشا علشان سمعت كلام الحكومة..
الحكومة ضحكت علينا يا باشا.. الحكومة لبستنا السلطانية.. تاج الجزيرة يا باشا.
-
والله
ما أنا عارف أقولك إيه!
-
عالبركة
يا باشا..خرجني.. مرَّة وتفوت.. بلاها نسوان كمان.
-
غَمامة
نسيج وهوَّام الأقرع أنتم هتموتوني بدري..
-
البركة
في الحكومة يا باشا موتتنا بدري أنا وهوَّام والشعب كُلّه.
-
أنظروا
للشاشة لعلها أخبارٌ جديدة.
صوت حكيم فاتر يقطع عليهم الاستماع لسرّ الختم طالباً
منهم الالتفات لينظروا للشاشات الفضية، حيث يبان المختار درويش رئيس وحدة الأمن
العام في المدينة، معه زافر المرسي رئيس شرطة الأمن لمنطقة مركز المدينة، الاثنين
في واحد من البرامج الحوارية الليلية التي زادت فعمَّت كل القنوات الفضائية.
مقررين بأنه ثبت لديهم بالدليل تورط سِمامة العبيط وظافر أمين في حادثتي الراقصة
المعتزلة رِيبا الرايق والصبية سُولاف زياد، والتربح وكسب المال الحرام. يبكي زياد
بكاءً حاراً لوفاة ابنته، يعلم أنه بعمله مع مافيا الواقع الافتراضي تسبب في وفاة
ابنته. زاده حزنا حكم المحكة لنائلة زوجته بأحقيتها في الطلاق.
لتبدأ البرامج الحوارية في تناول قضية الساعة، بشكلٍ
فجٍ، خارجٍ عن المألوف. ليظهر الصحفي اللامع المتحول لمقدم برامج في غيبة من قانون
المهنة، فليس لمهنة الإعلام الفضائي حَتَّى الآن ضوابط أو شرائط مُنظمة للمهنة.
منتوف شعر الرأس، لونه بني غامق، قليل الذكاء والحكمة، ليشير إليهم بهمجيته
المعروفة أنه نفسه يقول حاجة، نسمع بعض: تعرفونها راقصة فاسقة، لها كُلّ يوم علاقة
جنسية، لتهل زميلته المُتخمة بمساحيقٍ ملونة رديئة الصنع، مُتسائلة بوقاحة كأنها
في ساحة رقص شرقي، تلعب بالصاجات في أصابعها: أنا عايزة أعرف حاجة، نفسي اسمع
محتاجة، هم اللي قتلوهم لبسوا البدلة الحمرا واللا لسه؟ تقصد ارتدائهم الزي الرسمي
للإعدام، بعد أن حكم عليهم في محكمة درجة أولى، مُهللة مُستبشرة بحكم الإعدام،
فرحانة أن روح بني آدم هتزهق. لم يعرف أحد ممن كانوا مجتمعين في الساحة من عتاة
المجرمين ما هو جنس ملة هذه السيدة التي تطير فرحاً لسماعها خبر إعدام بني آدم حَتَّى
لو كان من عتاة المجرمين. وهات يا ضحك ومسخرة هي والمتخلف اللي معاها، يمسح أنفه،
يلعب في جبهته، كلما ضحك. له نظارة بعين واحدة، لفقده لأذنيه أثناء الثورة
المُضادة، فلم يعد يستمع لأحد بالمرة! يريد الكلام فقط. عندما سألوه كيف يعمل
محاوراً وهو لا يستمع لأحد، أشار لسماعة موصلة بعصبوناته الدماغية، تمكنه من
الاستماع لنصف الكلام، فهو يرى أن خير السمع ما قل ودل. كلما حان موعد القضية ترتدي زميلته البالغة
السبعين؛ ملابس ملونة؛ ملونة لِكُلّ وجهها بأصباغ تجعلها مثل المهرجين، لحَتَّى ظن
هوَّام أن ثمة علاقة جنسية أثمة بين المذيعة المتصابية الشعنونة وسِمامة العبيط،
إنما نفاها له غَمامة نسيج في جلسة بانجو وكُلة داخل تخشيبة قسم بلدة تُهمة
العشوائية، ليؤكد نفيه مرّة ثانية في جلسة عقدوها في ركن ساحة المعتقل في الساعة
العاشرة صباحاً، جالسين معه كُلّ المحبوسين والحراس من حولهم ملتفين يشاهدون
الفضائيات، بيشموا كُلة:
-
ورحمة
أمي يا أقرع الراجل ده كان مرافيء المرة الساقطة ديه.
-
يا
راجل اتقي الله، .. رَّبِّنا موجود.. يسمعك..
-
أنا
غَمامة نسيج كلامي حد السيف، الراجل ده مش بتاع نسوان، أنا عارفه كويس! .. المرة
الساقطة ما بتعرفش رَّبِّنا أيِّ.. ده صحيح..
مُلعَّب أيِّ.. ده كمان صحيح.. مَفِهش كلام، بس هي حمارة، طرُبش.. مُتخلفة
بالفطرة.. يا عالم أنتم مش عايشين في البلد ديه؟ الكوسة كبرت، الست مرافئة طوب
الأرض.
يعتب عليهم رائد، الهزل في موضع الجد، ما زال مُتماسكاً،
شديد التهذيب، كعادته:
-
آلهذا
الحد تهون عليهم أرواح البشر!؟ .
-
محاورين
أغبيه يا سعادة الباشا، مش شغلتهم، واحد صبي عالمة واحدة كانت عالمة، إزاي الحال؟
-
كيف
يحق لهم تناول هذه الأمور بهذا القدر من التجاوز المهني والإنساني!؟
ليتبين على الشريط أسفل الشاشة قاطعاً لكلام رائد
المُنمق أخبار هذا النهار:
قبول النقض المُقدم من سِمامة العبيط
وظافر أمين،.. تأكيد محاميهم بأن لديهم مُفاجأت ستهز أركان القضية.. تورط شخص
أجنبي في مقتل سُولاف، أجندات خارجية، أصابع خفية، .. انفجار أنبوبة غاز بحي
تُهمة،.. رجفة أرض فائقة الشدة.
-
يا
لهوي يا لهوي.
المشهد الثالث- مرافيء لجنية
مرَّت ليالٍ، جمعَّت شهور أو سنوات. الدُنيا
رَمادية. وقت ما بعد العصر، مُختفية الشمس وراء سحابات شهر مارس الداكنة، لعلهم
أطلقوا على هذا الشهر اسم مارس تآسياً بإله الحرب والزرع عند الرومان.
-
نهايتك على إيدي يا ابن الحرام، .. يا عبيط.
يهمهم زياد ناظراً لناحية سِمامة العبيط
الواقف بين يديه جزرة برتقالية يلتهمها، بقية المُذنبين في الساحة يتأهلون لموعد
دخول الزنازين، وجوه لها ملامح باتت محفوظة، تبان عليها تعبيرات كلما حانت لحظة
دخول الحبس، تزداد دلالات حالة القهر والذل كّأَّنهم مُساقين لحبل المشنقة. يقضون
في زنازينهم اثنتا عشر ساعة متصلة، من الرابعة عصراً لحَتَّى الرابعة فجر اليوم
التالي، فترة زمنية لا تمرُّ فيها الساعات إلَّا بعد أن تكون قد أخذت من
المُعتقلين عُمراً كاملاً، لا كلام ولا سلام. تُغلق الزنازين بطرقعةِ بابٍ فولاذيٍ
واطي فتنحسر أرواحهم، لا يمكن التعبير عن ذلك الإحساس إلَّا لمن سبق له الدخول في
غياهب زنزانة ضيقة بشباكٍ علوي لا تسمح إلَّا بالحركة ثلاث خطوات في كُلِّ اتجاه،
يعود المسجون بعدها ليستلقى فيها على سريره في وسط الغرفة الاسطوانية لا حول له
ولا قوة. تضيق أرواح المحبوسين انفرادياً وَكَأَّنَّ شخصاً يمسكهم من تلابيب
أعناقهم، فلا تدخل الروح ولا تخرج، تظل مُعلقة في الحلقوم. المحبوسين معاً في
العنابر الكبيرة ليسوا أكثر حظاً، قد تُخفف اللمة من وطأة الشعور بالحبس، إنما
الإحساس بالقهر واحد، الكلام مع الآخرين يُسَّرِع من مرور الزمن، كلمة من هنا قفشة
من هناك يمرّ الوقت، إنما تظل تلك النظرة على الوجوه كلما اقتربت ساعة الدخول إلى
الزنازين عجيبة.
-
وحياة أمك يا سِمامة لاقتلك زي ما قتلت ابنتي.
صارخاً زياد، صارخاً سِمامة يستغيث:
-
لم أفعل شيئاً .. ابنتك انتحرت.. لم أقتلها.. الحقووووني..
-
وحياة أمك يا سِمامة لأربيك ع اللي عملته.. مش بس مع بنتي لأ مع الشعب
كُله.
هكذا اندفع زياد بكُلِّ ما فيه من عزمٍ
مدفوعاً بغله وحزنه على وفاة ابنته وطلاقه من زوجته وحرمانه من ولديه، لم يتبين
أحد حركته المُندفعة عكس اتجاه مغادرين الساحة إلى الزنازين، لم ينتبه أحد إلَّا
وهو قابع بجسمه النحيف على سِمامة، ينهال عليه ضربا ولكماً وتقطيعاً في وجهه بشوكة
كان أخفاها بين ملابسه وقت تناول الطعام، لم يلحظ الحرس أن الطقم ينقصه شوكة. التف
المُذنبون في دائرة حول زياد وسِمامة، كَأَنَّهم في حركتهم يمنعون الحراس من تخليص
الرجل من بين يدي المكلوم على ابنته، إلَّا سرّ الختم أيوب اندفع ناحية صديقه
الحميم ليحميه من قتل الرجل فتكون عقوبته الإعدام. يندفع أعوان سِمامة داخل الساحة
مُشتبكين مع زياد وحكيم وسرّ الختم، اشتراهم سِمامة قبل وصوله، يعلم أن نفوذه لن
ينفع، إنما المال سيد الموقف، ادفع تجد ألف كلب وكلب يلعقون لك أصابع قدميك. اندفع
المهمشون هوَّام وغَمامة وآخرون ليقفوا في جانب سرّ الختم؛ له مواقف إنسانية معهم،
لا يمكن أن يشتريهم سِمامة بالمال، ولائهم للرجل المحترم. دارت في الساحة معركة
حامية، استعملوا فيها كافة أنواع الاشتباك. الغريب أن حرس الساحة وأعلى الأسوار
لبثوا يتفرجون، لديهم أوامر بعدم التدخل، لعلهم حصلوا على رشاوى من سِمامة ليعطيهم
فرصة ليتخلصوا من المناكفين حكيم وزياد وسرّ الختم والفقير وآسيان صَّاروف الفتى
المدلل. أبلى آسيان في الاشتباك بلاءً حسناً كَأنَّه فارس من فرسان الساموراي
(خدمة الإمبراطور)، حاملاً في يده ماسورة خلعها من طاولات المطعم المجاور للساحة،
راح يقفز ويلف ويدور في كُلِّ الساحة، يتساقط من حوله رجال كالجدرانِ، تظنهم أحفاد
مُحاربي الصحراء، يتمايل ويلف ويدور بخفة الطير، راقص باليه، يقفز لأعلى مترين
لينزل بالماسورة على رقاب التابعين. سرّ الختم مارس هواية الملاكمة وكَأنَّ ديانا
حبيبته تنظر إليه، ضربات قاضية متتالية تسقط الواحد منهم تلو الآخر في لحظة
يفرفرون، قالوا الكثرة تغلب الشجاعة، إلَّا أن الأصدقاء الأربعة حكيم وزياد وسرّ
الختم وآسيان كانت معهم الشجاعة، أذاقوا سِمامة وأعوانه الأمرين؛ يراقبهم الفقير
بابا من بعيد كعادته سرحان في عالم آخر.
واقف فرحان نبهان آمر السجن مع المساعد
عرفان بحران خلف الحائط الزجاجي المانع لأشعة الليزر؛ يراقب. يبتسم بلؤم. يتمنى لو
من في السجن ماتوا، قضوا على بعضهم. سماوي، غليظُ القلبِ والمشاعر، نفوه في هذا
المكان بناءً على طلب من مدارات اللوطي، فعرفان زوج ابنته الثانية، ذاقت على يديه
من أصناف العذاب ألوان. مريضٌ عقلي، مثل بعض ممن يعملون في هذا المجال، ابن واحد
من الأعيان، ورث ثروة ضخمة، فلم تُغنه عن النظر لما في أيدي الآخرين، نقلوه ليكون
آمر مُعتقل قِفار، لا ليكون الحارس؛ إنما ليسجنوه، يقضي شهوراً محبوساً بين جدران
المُعتقل لا ينزل فيها إجازات، فلا يعرف أحد لِم يتحمل رجل لديه كُلَّ تلك الثروة
حياة القحط! كثيراً ما خرج ومساعده عرفان في جولة في الصحراء للصيد، يأخذ معه عتاة
المُذنبون، يختارهم ممن ذهبت عقولهم، يرتاد الصحراء الكثبانية قبل طلوع الشمس،
راكباً فرسه معه عِرفان بفرسٍ آخر. عِرفانٌ هذا يبدو عليه الذل، كَأَّن فرحان
يمسِك عليه ذلة، لا يستطع النظر لعينيه، لا يكسر له كلمة، تراه دائماً شارداَ
تائهاً في عالمٍ آخر، يقول الأطباء: مُصابٌ بمرض الفصام، في حين يدعي بعض
المُذنبين من الدعاة الجدد من مدعي المعرفة بأحوالم العالم الآخر أنه مرافيء لجنية
تأتيه في الليالي الفردية، في شهور ما بين الخريف والشتاء، لا تظهر له أبداً في
ربيعٍ أو صيف. عندما تظهر له لا يراها من حوله، يتبدل حاله، تجحظ عيناه، وجهه
يزنهر، تبرد يداه مثل الثلج، تأتي إليه في أوقاتٍ مُختلفة، ليس لها مواعيد، يراها،
يتكلم معها بلغة غريبة، لحَتَّى المشايخ لا يعرفون تلك اللغة. انطلقت صفارات السجن
عالية، اندفع الحراس نحو الساحة، ازداد عدد المهمشين المُنضمين لجانب سرّ الختم،
فأصبحت المعركة في مصلحته، نال سِمامة ومن معه علقة موت، ارتموا في فراغ الساحة
يفرفرون. فقد اليوم سِمامة العبيط واحدة من عينيه. هجم عليه هوَّام بجسده الضئيل
خاطفاً الشوكة من يد زياد واضعها بكاملها في عين الرجل، ظلت مشبوكة في عينه، يجري
بها في الكُلِّ اتجاه، ينهمرُّ منها النزيف كأنه نهرُ دمٍ أحمر جارٍ. أغلقوا أبواب
الزنازين ثلاثة أيام على المُذنبين المُشتركين في الَعَرّْكة، أخذوا قرار بعدم
خروجهم للساحة من آمر المُعتقل العنيف، ثم باتوا يُخرجوهم في الحادية عشرة صباحاً،
يوقفوهم في الساحة لحَتَّى الثالثة ظهراً؛ ليتأدبوا. تراهم مُنتصبين بملابسهم
الداخلية في أول النهار، قبل أن تقوى الشمس، ينظرون في اتجاه آسيان، تخرح من عيون
المحرومين شرارة، تكاد تحرق جسده، هو لا يعيرهم اهتماماً.
مرَّت ساعة، نارُ الله الموقدة، ناراً
حامية، لهيب. الغريب أنه في شهور الشتاء الباردة احتجبت الغيوم عن الظهور طواعية،
دنا قرص الشمس الأحمر المُلتهب من الآدمغة العارية فكادت منه تسيح. الوقوف انتباه،
بالملابس الداخلية، غيرّ مسموح بحركةٍ أو لفتة. ارتمى العشرات في الأيام الثلاثة
الأولى مَغشياً عليهم مَحمومين، أولهم غَمامة نسيج، لم يتحمل أكثر من ساعة، في أول
يوم، في أول ساعة نهار، انهار على أرض الساحة كالفرخة الدايخة يَهُرّ، ضحكَ
المُذنبون في البداية عليه، نهشوا عرضه بالقفشات والنكات البايخة، لم يتنبه، لم
يحرك ساكناً، لحَتَّى لم تهتز في جسده شعرة وحيدة، تخيل الحراس أنه يدعي، قالوا
حركة تمثيلية مسرحية ليستدر عطفهم عليه، ألقوا عليه الماء بالخراطيم؛ لا يتحرك؛ لا
يتنفس:
-
يبدو مات منذ أكثر من ساعة. لم يتحمل قلبه الضعيف المجهود الزائد.
هكذا جاء كلام الطبيب. أعلنوا وفاته بعد
يومين. بعد أن أنهى آمر السجن فترة التكدير، معلناً وفاة أكثر من عشرين مذنبِاً
جرَّاء الشمس الحارقة، لم يهتز له جفن، لم يتحرك له رمش، واقف مُبتسم بلؤم يلقي
البيان:
-
على إثر خلاف شخصي حاد بين بعض المُذنبون حصلت معركة شرسة قضى فيها أكثر من
عشرين رجل نحبهم.. قررنا نحن فرحان نبهان آمر السجن حرمان المُذنبون من فترات
الراحة واللعب والفرجة على الفضائيات لعدة أسابيع. قررنا عزل العشرون الأتي
اسماؤهم من الخارجين على النظام ومُفتعلي الأزمة لسجن التأديب لشهر كامل مع
حرمانهم من كُلِّ وسائل الترفيه والتسلية: حكيم لادع، زياد الوطواط، رائد الكوت،
سرّ الختم أيوب، آسيان صاروف، الفقير
بابا، هوَام الأقرع، فلتة نهار، سِمامة العبيط، ظافر أمين، غَمامة نسيج .. وافته
المنية، بولس تركمان، رؤوف عليان، سرميد بنيام .. وافته المنية، ليستمر في النداء
لحَتَّى انتهت الأسماء العشرون.. ثم تلاها بتحذيرٍ عام، بصوتٍ حاد: في حال تكرار
الانتفاضة ثانيةً ستصل الأحكام لحد الإعدام صعقاً بالكهرباء، .. يا ولاد الكلب ..
يا زبالة.
مضي الشهر. خرج المُذنبون المَعزولين من
ساحة التأديب. أغلبهم لا يقوى لحَتَّى على الشهيق والآخرون منهم مَسنودين على
أكتاف زملائهم الأشداء، عيونهم مكسورة، نظراتهم زائغة، لا يريد أحد منهم الكلام
عما لاقوه داخل ساحة التأديب. مُمتدة مساحتها على أرضٍ فضاء لا تتجاوز نصف الفدان،
فيها ثقوب محفورة في الأرض عمودياً، كأنها لحود واقفة على أقدام، ينام فيها
المحبوس واقفاً، رأسه فقط تُطل خارج الحفرة. محظورٌ على المُذنب إدخال جسده كُلَّه
في الحفرة، لا يحميه من طل الليل أو سقوط المطر شيئاً. الدنيا شتاء، البرد قارص في
الصحراء، يرتدون ملابس تكاد لا تستر أجسادهم، حفاة، عراة، ترافقهم الكلاب إينما
راحوا، تنهش في أجسادهم في الكُلِّ وقت؛ لأيّ لفتة. تلك المساحة من الأرض المتاخمة لمساحة الصحراء الخارجية
المُخصصة لصيد بعض نبات الصحراء ليستخدمها أطباء السجن لعمل الدواء اللازم لعلاج
الجروح الناتجة من التعذيب وأشعة الشمس. أقل غلطة يكون نتيجتها علقة حامية من
ثلاثة أو أربعة حراس أشداء، لا قلب لهم ولا روح ولا شكل، لا تكاد تتبين إلَّا
أعينهم، مُلثمين، يبدلوهم في الكُلِّ أربعة أيام، ليأتي غيرهم، لهم نفس الهيئة،
ذات الملابس، بتلفيحاتٍ تلف الوجوه. محظورٌ على المذنبين النظر في أعينهم أو
الكلام معهم من قريب أو من بعيد، محظوراً عليهم الكلام مع بعضهم، لا يفعلون طيلة
النهار إلَّا جمع الأعشاب المُلقاة في الصحراء الواسعة، يمشون على الرمال
المُلتهبة حفاة. في الأيام الممطرة يخرج مُذنبي التأديب وقوفاً تحت زخات المطر
المُنهمر في الصحراء كَأّنَّه الشلال، يزيل عنهم الغبار والرائحة النتنة جرَّاء
دفنهم أحياء في الثقوب المحفورة. يتذكر حكيم يوم كان يقف مع سَليم حديد نادل مطعم
الشاطيء تحت زخات المطر ضاحكاً لاهياً، يحب رائحة المطر المُختلطة بتراب الساحة
الاحتفالية المُطلة عليها شقة أعلى المطعم، وكر الغرام مع حبيبته، تهل هي عليه
تداعبه، تقبله، يصعد معها لشقة أعلى المطعم يمارس معها الحب الحرام لحَتَّى نزول
الليل. كره زخات المطر، كره رائحة الوحدة، كره اختلاط المطر برمال الصحراء، فها
هنا له رائحة غريبة. لم يعتدها. لم يألفها. في كُلِّ
عصور الإنسانية بُنيت مُعتقلات فيها كُلَّ لونٍ وصنفٍ من صنوف التعذيب والقهر. من
سجن الباستيل في عصور ما قبل الثورة الفرنسية مروراً بليمان طرة بدولة مِصر قبل
هبة السادات على أعداء الوطن لحَتَّى آخر المُعتقلات التي شيدها البشر للبشر.
أشهرها ما كانت من ابتكار قلعة الديمقراطية في العالم الحر، أجل، الغرب الأمريكي
قبل زوال سطوته في نهاية الحقبة المئوية الأولى من الألفية الثانية، مُعتقل
جوانتانموا في صحراء القارة الأمريكية اللاتينية بعيداً عن الشمالية فلا يكن لأحد
عليهم من سلطان. يحكون في شبكة المعلوماتية أنه مُعتقلٌ يشبه مُعتقل قِفار، فيه من
كُلِّ أشكال القهر الإنساني أطياف يتلذذ فيه البشر بقهر البشر. لا تعلم
فيفي من أين أتى البشريون بتلك العداوة لبني جنسهم، لا يوجد كائن حي وحيد على
الأرض يعرف التعذيب إلَّا البشر، فلا طير ولا حيوان لحَتَّى لو كان من الوحوش
الكاسرة يعذب فريسته بعد أن يمسك بها ليلتهمها، بل لم يرّ أحد من البشر طير أو
حيوان يعذب فريسته؛ الأسد ملك الغابة، تتمدد فريسته أمامه فلا يقترب منها ما دام
غيرّ جائع، إلَّا البشر لا يملأ عيونهم التراب، يُتخمون مالاً وطعاماً وشراباً
وجاهاً وسلطة، ليظلوا يدعون هل من مزيد؟ من أين أتى البشريون بتلك الهمجية!؟ من أين
جاءوا بتلك العداوة نحو إخوانهم في الإنسانية!؟ ما الذي يقولوه فَرحان نبهان
وعِرفان بَحران لحراسهم التابعين لحَتَّى يجعلوهم بتلك الشراسة والبلادة!؟ تأكد المذنبون أن الزبانية مرضى أدمغة بعد أن
شاهدوا عِرفان بحران لمرّات يُناجي رفيئته الجنية. يقف
في الخلاء طويلاً، ساعات تَمُّرّ عليه مُنتصباً لا يتحرك قيد أنملة، مُراقباً
للسماء، يتلفت في الكُلِّ اتجاه، يعود ليرنو إلى الأفق ناحية البعيد، يشوح بيديه
كأنه يتكلم مع أحد، يختلس النظر فيمن حوله، عينيه زائغة، يتكلم كثيراً قبل ممارسة
الحب معها في الهواء الطلق مُتجرداً من ملابسه، فلا يداري نفسه. الحقُّ يُقال، هو
مخلول؛ يقولون عيشة الصحراء تجعل السَليم سقيماً. يظل شيخ المسجد في مُعتقل قِفار
يُقسم بأغلظ الأيمانات:
-
الجنية ليست راكبة الرجل، .. هي زوجته يا عالم.
يُناجي الشيخ المصلون كذباً، أكثرهم تافهون
واقفون يستمعون فاغرين أفواههم، يتمنى كُلِّ منهم لو أنه مرافيء لجنية. عالم الجن
حقّ؛ فجعلوا التلبس حقّ، المحظوظ من يعاشر جنية، يرافِئها، المحظوظة من تتزوج من
جني ليعاشرها كالأزواج، الإنجاب غير مُحتمل، إنما عشقٌ وغرامٌ ولقاءاتٌ جنسيةٌ بين
بشر من ترابٍ وجن من نارٍ وارد. يا سيدنا .. لماذا لا نرى في العالم كله جني يركب
بشري إلَّا في بلادنا!؟ يا شيخنا إذا استطعنا تسخير الجن وعمل علاقات معه فلماذا
لا نستفيد منه في جعلِنا ملوكاً لبني البشر!؟ أنت نفسك يا شيخ الشيوخ تقول أنك ترى
الجن.. لك معهم علاقات.. لماذا لا تجعلهم يساعدوك على أن تكون سلطاناً ذا سلطة
ومال وجاه وبأس!!؟ .. يعني بدلاً من رميتك كالجيفة في المُعتقل!
-
موجود
يا فندي.. أكيد موجود يا فندي..
يظل هوَّام الأقرع ينادي في حفرته طول الليل، بعلو صوته،
ينزل عليه الزبانية ركلاً وضرباً على قفا أمه، لا يستطع منعهم بيديه ولا برأسه،
تنهش الكلاب لحمه؛ يهذي كالمحموم:
-
هتقول
لرَّبِّنا إيه يا فرحان لمه رَّبِّنا يسألك عذبت أخوك هوَّام ليه؟
-
هتقول
لرَّبِّنا إيه يا عِرفان لمه رَّبِّنا يسألك ضربت أخوك هوَّام بالجزمة على راسه
ليه؟
-
هتقول
إيه يا فلتة لما رَّبِّنا يسألك عن الدجل والشعوذة.
-
اصمت
يا ابن البلغة..
***
حكى لهم
سرّ الختم عن فلتة نهار، تاجر الوهم، عنده من كُلِّ أصناف البضاعة المغشوشة؛
أسطورة بئر السلم، مافيا بيع الوهم. حكى فلتة لأيوب في لحظة صفاء، بعد أن شاهد مع
رفيئته في ليلة غبرَّة برنامج حواري يتكلم عن الجن والعفاريت، يقولون أنه نام فحلم أن المرأة النائمة بجواره
تحولت لجنية، مارس معها ليلةَ حُبٍ في المنام، حينما فاق في النهار وجدها ميتة.
ماتت المّرة تحت منه من غيرِّ ما يحس؛ روحها طلعت منها دون أن يشعر. أصابه خبل.
ختل. تحول من يومها لمعالجٍ من المّس، يُقسم أن الجن حقٌّ، أن المّس حقٌّ، أن اللّبس
حقٌّ، صار من سادة المشعوذين، ظل الناس يُشاهدوا الشيخ مرتدياً لجلبابه، أبيض فل،
يقسم بأن الجن موجود، فيرد عليه شيخٌ آخر: الجن حقٌّ، ليعود ليُقسم: الجن يمّسُ
البشريين، فيرد عليه الشيخ: المّسُ حقٌّ، ليعود ليُقسم: الجن يدخل جسم الإنسان،
إعلم أن الجن الرجل يرافيء المرأة من الإنس والجنية المرأة ترافيء الرجل من الإنس؛
ليظل يهاتي في البرامج الحوارية والقنوات الفضائية وأمكنة الدجل والشعوذة التي
يمتلكها:
-
أنتم
سميتمونا دجالون ومشعوذون، إنما نحن نفعل مثلما فعل النابهين منذ ألفي عام أو
يزيد.
يقولون أنه يُخرِجُ الجن الشرير
فيحرقه بالتعاويذ. ذاع صيته، اقترب من الحكام، هناك ملايينٌ تُصرف في كُلِّ عامٍ
على الدجل والشعوذة. دجالٌ ومشعوذ لِكُلِّ مواطن. ترك الناس في بلادنا الحبيبة
العلم والحكمة وتعاليم الدين اتبعوا كلام الدجالين والمشعوذين؛ صاروا نجوم
الفضائيات؛ يا لطيف. فلتة نهار، سُفَيِّفْ، لحيته مثل كفار الجاهلية، ابتسامته
صفراء كالحة، لها معنىً وحيد؛ استخفافه بمعارضيه، فاهم، واعي، عارف، كُلّ من حوله
جهال، الرجل الذي سلمه الجن مفتاح الكرار، صار منهم وصاروا منه. طالما بين لنا
الله أننا بيننا وبين هذا العالم الغيبي حجابٌ وشُهب، إنهم إذا حاولوا العبور
إلينا يُصيبهم شهاب. أصبح فلتة نهار من المُتعاقدين مع فريق من الجن يأتيهم بعقودِ
عملٍ في دُنيانا ليمرحوا فبات المصابين بالأمراض العضوية من صرعٍ وشلل رعاش، من
التزاهيمر وشيزوفرينيا وبارانويا ورهابٌ فكري، كُلّهم راكبهم جن. حَتَّى بعد قدومه
لمُعتقل قِفار بعد موت ابنة مسؤول أمني كبير بين يديه جرَّاء الضرب المُبرّح، بحجة
إنه راكبها جن، عفريتٌ مُلعّب، فصار الداعية الوحيد في المُعتقل، صاحب كلمة
مسموعة، قام بالناس في المسجد إمام، ثم أوهم عِرفان بحران بأنه محظوظ بأن بنت ملك
الجان اختارته ليكون شريك حياتها، قال له بالحرف الواحد أمام المساجين فاغري
الأفواه:
-
ابسط
يا معالي الباشا .. برياتا برياني خروف، ابنة ملك الجان، اختارتك أنت لترافئك في
الحلال، بدون زواج، إنما انت لها وهي لك، إفعل ما تؤمر، يا محظوظ يا بن المحظوظة.
في مقابلة فضائية في برنامج حواري صرح
بِملء فيه، ابتسامته فاجرة:
-
الجني
يُمكنه مُعاشرة المرأة مُعاشرة الأزواج.
-
يا
بن الزانية يا فلتة يا نهار جننت الراجل!
حكيم يصرخ ضاحكاً بمفرده على كلام سرّ الختم، يبتسم رائد
وزياد والفقير بهدوء، هوَّام ومن معه يسمعون وكَأنَّ على رؤسهم الطير، يبدون
مُصدقين لكل كلمة قيلت عن فلتة نهار، الراجل مبروك.. الجن حقّ، المّس حقّ، ثم كُلّ
منهم بكلمة: أنا ليَّ قريبٌ ممّسوس، أنا أعرف صديق مرافيء لجنية، أنا أعرف زوج بنت
خالة أمي يعاشر ثلاث جنيات في ليلةٍ واحدة، تعرفون فكري بنهان، كُلَّ هذا البريق
في وجهه لأن زوجته من الجان.. الراجل مبروك يا بقر.. إيش فهمكم؟!! .. من أنتم!!
***
مرَّت
ليالٍ، كُلمَّا حَلَّ الليلُ تسمع همهمة في المُعتقل. ما زالوا جالسين في الساحة
الخارجية بعد تناول الطعام، الكُلّ مُنشغلين بألعابهم في الساحة؛ انتحى خمسة منهم
رُكناً شرقياً، دافعاً سرّ الختم أيوب لحراسهم رِشوة محترمة لئلا يزعجهم أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق