بقلم: د .
محمد مبارك البندارى
عضو هيئة
التدريس في جامعة الأزهر
الحجّ مؤتمرٌ عالمىٌّ
جامع للمسلمين ، تلتقى فيه الدُّنيا بالآخرة ، مؤتمرٌ يجدُ فيه المسلمون أصلهم
العريق الضَّارب في أعماق التاريخ ، منذ أبينا إبراهيم - عليه السلام - ، فهو الذى
رفع قواعد البيتِ العتيق مع ابنه إسماعيل - عليهما السلام - وأمره الله بقوله " وأذِّن في الناس بالحج يأتوك
رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميق " ( الحج /26 ) ، وللحجّ أهدافٌ وغايات عظيمة ؛ إذْ هو
امتثال لأمر الشَّرع ، وهو شحنة إيمانيّة للرُّوح
، وفيه منافع دنيويَّة من بيعٍ وشراءٍ ، وهو مساواة عمليّة بين النّاس ،
وتطبيق عملىّ للسّلم والرّحمة والمودة ، ففى الحجّ التقاء للمسلمين والمسلمات من
كل بقاع الدّنيا ، فهو مؤتمر عالمى الهدف منه " الوحـــدة " ، حضُوره من
الذين منّ الله عيلهم ووهبهم الاستطاعه ،الطاعة التى تؤهلهم لشرف تلبية نداء الله –
عز وجل – ، والطواف بالبيت والوقوف على عرفات ، قال تعالى : " إنَّ أوَّل بيت
ٍوضع للنَّاس للذى ببكّة مباركًا وهدًى للعالمين " ( آل عمران / 96 ) .
وفى فريضة الحجّ مدلولٌ
اقتصادىّ كبير عبّر الله - عزَّ وجلَّ - عن هذا المدلولِ الاقتصادىّ بقوله سبحانه :
" ليشهدوا منافع لهم " ( الحج / 28
) قيل : منافع دنيوية في أيّام الحجّ ، وحملها بعض المفسرين على منافع
الآخرة ، يقول ابن الجوزىّ – رحمه الله – صاحب " زاد المسير في علم التفسير "
: " والأصحّ من حملها على منافعِ الدّارين جميعًا ؛ لأنّه لا يكُونُ القصْد
للتِّجارة خاصّة ، وإنَّما الأصلُ قصدُ الحجِّ والتِّجارة تبع " .
وبالطَّبع ليس في ذلكَ
حرجٌ ولا إفسادٌ للحجِّ ، فالكسبُ المادىّ
والكسب الرّوحىّ الأخروى جنبًا إلى جنبٍ
عند أداءِ فريضة الحجِّ ، قال تعالى : " ليسَ عليكُم جُناحٌ أن تبتغُوا
فضْلًا من ربِّكُم " ( البقرة / 198)
،
وسبب نزول الآية كما
جاء في البخارى عن ابن عباس – رضى الله عنهما – أنه قال : كانت عكاظ ومجنة وذو
المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم ; فسألوا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عن ذلك فنزلت " أى
الآية ، بل إنه قرأ بزيادة " في موسم الحج " ، وبالطبع هى تفسير للآية ،
وزيادة في مصحفه ، لكنها ليست قراءة متواترة .
وقال الأستاذ الإمام محمد
عبده : " كان بعضُ المشركين وبعض المسلمين في أوّل الإسلام يتأثمون في أيام
الحجِّ من كلّ عمل حتى كانوا يقفلون حوانيتهم ، فعلمهم الله تعالى أن الكسب طلب
فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ، وقال : إن قوله تعالى : ( مِن ربِّكُم )
يشعر بأن ابتغاء الرِّزق مع ملاحظةِ أنه فضل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة ،
ويروى أنّ سيدنا عمر – رضى الله عنه - قال في هذا المقام لسائل ٍ: وهل كنَّا نعيشُ
إلا بالتِّجَارة ؟ " .
وفى الآية إشارة إلى ما
أنّ ما يبتغيه الحاجّ من فضل الله ، مما يُعينه على قضاءِ حقِّه ، وفى ذلك قوّة
للدين ، ونصيب للمسلمين ، فهو أمرٌ محمودٌ
، ومتى ما استقرَّ إحساس في قلبِ الحاجِّ أنه بذلك يطلبُ مرضاة الله فهو إذن في
عبادة لله لا تتنافى وعبادة الحج .
والحجّ مؤتمر إسلامىّ
عالمىّ يساعدُ على حلّ كثير من مشاكلِ المسلمين ، من خلالِ الالتقاءِ وتبادلِ
الأفكارِ ، ومعرفة العاداتِ والطبائعِ الخاصَّة لكلّ مجتمعٍ ، ومن هذه المشاكلِ
المشاكل الاقتصادية ، فإنّه يفدُ إلى البقاع الطاهرة كثير من علماء الاقتصاد أصحاب
الخبرات العالميّة ، والتجّار الكبارِ في العالم ، وفى ذلك فرصة كبيرة لتنمية
العلاقاتِ الاقتصادية بين الدول الإسلاميّة ، وفرصَة سانحة لعقدِ جلسات نقاشيّة
لخبراءِ الاقتصاد ، ومدارسةِ الأفكارِ الاقتصاديّة
السليمة وبلورتها ، لتكون كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتىّ للدول الإسلاميّة .
وفى الحجِّ – أيضًا -
رواج اقتصاديّ للمسلمين ، فموسم الحجّ
يتطلبُ سلعًا وخدمات لازمة لأداءِ مناسك الحجّ ، فكم يُنفق من النقودِ على
المأكلِ والمشربِ ، والتنقل والإقامَة والذبائحِ ... إلخ ، وفى هذا الاقتصاد
أنموذجٌ جيدٌ للاقتصادِ الإسلامىِّ ، ودعوةٌ
صادقةٌ للبعدِ عن الربا والخبائثِ ، والاحتكارِ والغشّ والتدليس والجهالةِ ...
وعدم الإسراف والتّبذير ، والتَّرف الزَّائد .
ففى الحجّ فرصةٌ
لاغتنامِ منافعِ التّجارات والعملِ وكسب المعيشة ، وكذلك منافع البدن والذبائح
للفقراءِ والمساكين والمحتاجين داخل الحرم وخارج البلدِ الحرام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق