رقصة الديناصور
بقلم: محمد الكامل بن زيد .بسكرة .الجزائرجذب نفسا عميقة ثم ردد بنبرة متثاقلة جدا :
- يا لهذا الشيب اللعين ؟
جلوسه الطويل والممل أمام المرآة هذه المرة ..جعله يغوص في متاهات ما لها قرار ..اجتاحته نوبة عظيمة من الذهول والانبهار ..مد يده المرتعشة ليلامس فصيص المرآة ..انعكاس الشمس المتسللة عبر النافذة ..أشعره أن صورته المتشكلة فيها الكثير من الأسى و التأوهات ..شعره ..شاربه ..لحيته ..بياض كثيف اكتسح اليابس والأخضر ..تجاعيد مفزعة وغريبة توزعت عبر كامل تقاسيم وجهه.. تجره إلى سؤال واحد تتشعب منه أسئلة أخرى ..كيف مضى به العمر ؟! ..هل حقا مضى منه ما يكفي ؟!..وهل يكفي ما بقي منه ليفعل ما لم يفعله فيما سبق ؟!.. ثم نظر بعيون ذابلة بعيدا في المرآة وراح يتساءل مرة أخرى :ما الذي لم يحققه ؟!..لعب ..درس ..سافر ..تخرج من الجامعة ..تعب من البطالة ..عمل ..تزوج ..رزق بثلاث أطفال بنتان و ولد..له سيارة ومنزل ..سيرته الذاتية مباركة من الجميع .. بين هذا وذاك لا يزال في قرارته يشعر أن شيئا لا يزال معلقا في عنق الزجاجة المتوارية في العتمة ..لملم شتات قواه الذهنية لاستثارة جميع أحلامه وذكرياته ..انكمش على نفسه شيئا فشيئا للحظات ليتصدع الستار الرمادي بعد جهد عن لحظة هاربة من لحظات العمر ..تسمّر في مكانه وأحس بغصة في الحلق ..لم يدر كيف سمح لنفسه أن ينسى مثلها ..أن ينسى لحظة وقوف والده متأملا عبر فتحة باب غرفته ما كان يصنعه ..إنه يذكر الآن كيف جمع من حوله ألعابه من الدمى بعد أن صعد فوق المقعد الخشبي وأخذ يخطب فيهم بأعلى صوته " أيها الناس ..أيها الأحباء ..مالكم غيري ..أنا البطل أنا منقذكم من التهميش والمذلة .." دوار خفيف جعله يبحث عن سريره ليتمدد فيه قليلا ..لم يستوعب ما حدث ..نعم ..هذه لم يقدر على فعلها وبعد هذا الشيب لن يقدر بالطبع ..أخذ يتأمل حالة السقف البيضاء ..هل حقا عجز أن يكون المنقذ ..البطل؟!. ..عجز أن يكتب في صفحات عمره شيئا يستحق أن يقرأه الآخرون؟!. ..يا الهي كم هي صفحاتي بيضاء!!... كادت رموشه أن تنطبق فوق بعضهما البعض من شدة الارهاق لولا انتباهه إلى صوت ولده في الغرفة المجاورة يردد كلمات غير مفهومة تبيّنها حال وقوفه عبر فتحة باب غرفته ..كم كان المشهد رائعا ..الولد فوق المقعد الخشبي ومن حوله ألعابه من الدمى يصرخ بأعلى صوته " أيها الناس ..أيها الأحباء ..مالكم غيري ..أنا البطل أنا منقذكم من التهميش والمذلة .." لم يجد حرج في أن يبتسم ابتسامة تشبه ابتسامة والده من قبل ..
تغزيريت، تيزي وزو يوم 24 أوت 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق