الصفيح المحترق..........
بقلم: رولا حسينات
لملم أشلاءها
الممزقة وطار بقدميه لا يثنيه وقع القنابل ولا القصف، وأيٌّ مما يحيطه من بقايا
أناس قريته، اصطكاك قدميه والدم المنشخب منهما، والمترهل من بدنه قد تعرى مما تمزق
من قميصه المائل للصفرة، ولكنه قد مال لحمرة قانية...
صوتها يصيخ في أذنه:" كامل الشيخ عبد
السلام رزق بولد ليلة أمس حين غاب الديك عن الصياح، كان وليمة حساء لزوجته نصرية.."
أومأ برأسه وقد فهم، لما فاتته صلاة الفجر؟؟ فقد
أولم الشيخ عليه حساء لزوجته النفساء، ولكنه لم يولم اليوم؟؟ قطعت حبل أفكاره وهي
تحمل حقيبته، وشفتاها المكتنزتين ما زالتا تتحركان بصفوف الكلام:" لقد شحذت
لك السكين، قول الله على رزقك ورزق العيال.."
نظر على احتراز حوله، دار صامتا في نفسه:"
العيال كم تحبين ترديد هذي الكلمة يا زريفة؟"
تمتم في نفسه وهي تلهو بجديلتها وتلملم شعراتها
الشقراء عن جلبابه الأزرق الذي يغطي ثوبه البني يرتديه في الشتاء، وفي الصيف يعدل
عنه لقميص مائل للصفرة..
" وهو الذي
تمزق من ثقل جسدك، زريفة تحبين الزلابية الممتلئة بالقطر وتتوهمين أنه الوحام لقد
تورد وجهك زريفة، صرت يا امرأة أحلى وأجمل، ما أحلاها يدك الزبدة عندما تدفعين بها
جسدي، فتظل تعمل فيه دوائر من الذبذبات.."
ولكن الحي معتم هذا الصباح وبيت الشيخ عبد
السلام بلا أفراح ولا زغاريد، أتراها حلمت بمنام زريفة وروته له حقيقة، ولكن
الوجوه عابسة تطل إليه تتمايزه وهو يحمل حقيبته، وفيها عدة الرزق: الموس والقطن
والمطهر والشاش..، ولكن العيون الحانقة تشكه في الأرض كدبوس وما يرمقه من تحت أكوام
اللحم المتهدل على الجفن، تنخزه نظرات الشيخ فتحي..
"عجبا ما لي
لا أكاد أفهمهم اليوم نهاري عدم، دون صلاة الفجر، ولا عجب أن زريفة شكت من شخيري..
يقيم الميت من بعد الممات.." تمتم حين تعلقت قدمه بالخف البلاستيكي الأزرق أول
درجات الدار الخمس، كانوا جميعا مطأطئين الرؤوس، لا أحد يريد أن ينبس بحرف، سلم وإجابات
متلعثمة ردت عليه بفتور هنا، واكتفت بالإنصات هناك..
غفت الشمس في مكانها فلم تبارحه طيلة ساعات من
بعيد صحوتها..
"اليوم غريب.."
همس وهو يلوح بيده كمروحة ليزيح الثقل عن صدره، أصوات النسوة شق جدار الصمت صياح
وعويل، وأرجع الرجال أصداءها وأخذت تتقلب أكفهم ذات اليمين وذات الشمال..تلهج
ألسنتهم:" لا حول ولا قوة إلا بالله، لحقت بالولد.."
أدرك كامل المطهر أن الولد قد مات فجرا، ولحقته أمه
بعد ساعات حين أكتفت الشمس بوشاحها الأسود، وبينهما أولم على الديك، وما استيقظ
لصلاة الفجر.."
ومن بعيد دوى
انفجار كبير رج الدار وتخلخلت عظامهم من مفاصلها، والدخان الأسود بدا يعتلي أسطح
المنازل عند البيرة وهم في قريتهم دير
نظام على بعد ساعتين من قلبها ومساكن الأتقياء والشيخ يوسف، بالسيارة المتهالكة
التي يبقي أبو جابر يومه يحركها على المناويل، وفوق ذلك يكدس فيها الكتل البشرية فوق
بعضها، مع أكوام البيض وأقفاص الدجاج البلدي، ولم يكن هناك ديوك غير ديك الشيخ عبد
السلام الذي قد ذهب ضحية لوليمة بفرح مسروق، والمنسوجات تتطاير عند كل عثرة في
الطريق الترابي، وصياح الحاجة رملية خوفا على منسوجاتها يتراشق مع بعض التعنيف، كل
منهم يريد أن يعرض ما لديه في السوق الكبير عند الجامع القديم وبير الماء، وفرصة
للتبرك بقبور الأولياء الشيخ شيبان والشيخ يوسف، ولكن سالم دوما يجلس القرفصاء
بمؤخرة السيارة الصالون مع أكوام الأقفاص، دوما متكتلا على جسده قابع في صمت دفين،
النظرات تمزقه.." مال سالم والبيرة؟؟ أين يذهب ساعات يختفي عن أنظارهم وهم
يحملون بضائعهم، كأنه فص ملح وذاب؟؟!"
ولكن زريفة دوما
تقول عند سالم حكاية وحكاية كبيرة كثير، عندما ذهبت وكامل للتبرك عند الشيخ يوسف
ولتشرب من ماء الحياة عند البير، وما تزال تذكره في كل حين وهي تحرك السكر في
استكانة الشاي، قبل الخلود للنوم دوما تقول:" جدتي أم الحنايا، كانت داية
والنسوان يشكون قلة الحمل والخلفة فتنصح بكوب الشاي الثقيل قبل النوم.."
لكن كامل لم يجد علاقة منطقية بين كوب الشاي
الثقيل والخلفة، وزريفة تعشق العيال في باكورة كل صباح تفتح قن الدجاجات وتتفقد
منهن من فقست بيضها ومن لم تفعل، فتهرع ببقايا كسر الخبز المبيت المشبع بالماء،
تضعه أمامها لتطعم صيصانها..
زريفة لم تكمل الثامنة عشر وتزوجها كامل وهو في أواخر
الثلاثين، فقد مات والديها في طريق العودة من تجارتهم بالدجاج على طريق البيرة،
بتفجير قنابل نسفت الطريق ومن عليه قيل:" لم تكن هناك أشلاء لتجمع، فلم يدفن أحد
حينها.."
كان ذلك قبل ثلاث
سنين ولم يبقى لها غير محمود وهو في القدس، معلم شاب تخرج من الأزهر الشريف بعد أن
درس في مدارس البيرة، محمود يحمل أفكارا عدائية للأنجليز وللصهاينة، وينادي
بالجهاد يروي قصصا حدثت، لكن كامل كان منشغلا بتطهير الصبيان دقيق في عمله يكسبه
المال صنعة ورثه عن أبيه، ولكن والد محمود ملك المال ليذهب به ولده إلى الأزهر، ويتعلم ليصبح معلما في القدس أو
البيرة، قصصه عن عز الدين القسام أثارت حميته وكاد أن يحمل موسه ويقطع به الرؤوس،
ويهوي مشرحا جسد العدو المستوطن أرضه، وتاه أياما وليال في المنام، وهو يشد على
زريفة بقبضته وهي تصيح وهو في المنام يركض وزريفة تصيح وهو يلهث والعرق يتصفد على
جبينه وكرشه يتصاعد ثم يكرع كسنسلة سقطت من دوي ما، وانتصر وما بيد زريفة غير أن
تنشب أسنانها في يده ليخلي سبيلها، فقد تحطمت عظامها من الضرب والركل.. أخذ شخيره
يتصاعد وهي تزيد بالعض حتى استيقظ كامل من نومه العميق وبدا كالغارق في الماء،
عيناه الدائرتين تقطران وحمرة تملؤهما، وشعره المتبقي الملتصق على صلعته قد انزلق
على جبينه، نظر إليها وعلامات الغرابة قد صكت وجهه، وهي ما زالت منشبة أسنانها في
يده، وقد تلاقت العينان، فانسحبت ولسان حاله ينبض بالشك حول رغبتها في إيذاءه وهي
تتأوه من ضرباته الموجعة ومتيقنة أنه يؤذيها، وكيف لها أن ترزق بالولد وكامل
يركلها؟؟ ولكنها اعتادت عليه وهو اعتاد على الحلم، فبات يمثل دور المنتصر منذ
البداية، ومحمود يلصق أحلاما عن البطولة، وأن الإنجليز اندحروا بهمة الأبطال ولكن
الصهاينة حلوا مكانهم..
فما تراه يفعل كامل؟؟!
فليس معه غير الموس وصنعته..
بات الوضع مقلقا والخوف يزعزع فيه كل قوته، هو
يخاف من الموت ولكن زريفة تملئ عينيها بالحياة والموت معا، فهي تريد الولد فقط
تكويرة صغير تكفيها، ثم تموت وما تفتأ تذكره أن يحسن طهوره وغسلها..
ولكن لماذا لا يند لها جفن عند ذكر الموت؟ لماذا
هي أقوى منه؟؟
بات القصف أشد والناس بدؤوا ينفرون.. كل لوجهته
والنساء يتصايحن وخرجن من بيت الشيخ عبد السلام، والطفل والزوجة يصيحان:" إكرام
الميت دفته.."
لكنه أمام أن يموت إلى جنبهما متوكئ على أحزانه
العرجاء، حلمه بالولد خمسة عشر عاما انقضت في ليلة، وما أطل الفجر إلا بعرس ميت، وقضت
نصرية وانتهت المسرحية وما عاد غيره البطل، والقصف يشتد والسماء ملبدة بالغيم الأسود
سراعا يمضي إلى أرضهم ينتشر وبندقيته في صدر المضافة، حيث يستعيد ذكريات بطولة آبيه
وجده في دحر الإنجليز والكمائن لعصابات الهاغانا، ولكنه هو هنا وهي معلقة تناديه
طيلة تلك السنين، ما عاد يربطه بالحياة شيء وكل ما عليها انتهى، وقلب أرضه ينزف
وبندقيته معلقة، بدت الصورة أكثر وضوحا ومعالم الطريق قد برز على طولها الدخان
المتصاعد، كغيمة عالقة بين السماء والأرض، رفع يديه ليلتقط البندقية فارتمت بين أحضانه،
تشكو الفراق..
وطاف بعينيه مودعا الوليد ونصرية وخرج، وما أن
خرج من الدار حتى فجرتها قنبلة هوت عليها دون سواها ..
تمتم بجلادة
القتيل:" هاهو يا نصرية إكرام الميت.."
ولم يجد الشيخ عبد السلام نفسه وحيدا أمام
الطريق المعبد بالدبابات، بل كانت كتفاه متلاصقة مع الكثير من رجالات قريتهم وحتى
النساء خرجن، كل خرج من داره والقصف يشتد ودمدمة الساعة بدت أقرب وأقرب، وبدا
الليل أقرب منه إلى النهار، فقد اشتعلت الشمس وغابت بلا عودة هذا الصباح، فهو ليس كغيره
من الصباحات..
فلم تفطن زريفة أن تعطر ثوبه المائل للصفرة فهو
سيعيد ارتداؤه فهي إطلالة شمس الصيف حين تخرج الحياة بكل دفئها إلى السطح، عندما
عاد من كثرة القصف ليطمئن عليها كانت تجلجل بصوت متهدج وتروح جيئة وذهابا في أنحاء
غرفتهم المغلقة، ضيقة الدار كما هي ضيقة عليه اليوم، وما أن أحست به..كان قد نزع
رداؤه الثقيل وقد وقع بصره عليها على غير حالها قفزت من مكانها وهي تتأمله ملتصقا
به جسده، أخذت تئن بصوتها المتهدج:" إنه وقت الفراق إنه وقت الفراق يا كامل،
ولم يأت الولد بعد، وسأموت قبل أن تطهره.."
أصمته الموت، رائحته تفوح في المكان وهي تشعل
ناره في صدره..:" سأخرج بسكين لأقتص لدم أبويَّ، هاهم قتلته جاؤوا إلى حتفهم.."
أخذت تهرول إلى النافذة الصغيرة المقوسة..:"
هاهم هاهي دباباتهم تعوي كالذئاب تهوي لقصعتها.." وهي تلوح إليه ليأتي ويرى
الصورة كاملة، ولكنه قد عرف ذلك قبل أن تتفوه به فهو يراهم أمامه كما في الحلم، كل
تفاصيله أمامه، تعاد بنفس الترتيب، وهاهو يستل موسه من حقيبته ليؤوي لجدار سميك،
ثم ينقض على الصهيوني ويقتلع عينيه، ثم يقطع شرايين الحياة وأوردتها، وهاهي تفر
زريفة كما النسيم يقبله قبلة الوداع إلى الموت، حيث ستدافع عن كل ما فيها من حفنات
للتراب، ولتمت بعد ذلك فلن تهوي لتغتصب هكذا أمام أعين الكون الأبكم، هي ستموت
لتعيش أجيال بعدها ثم تموت ولتعش أخرى، وهو ينظر إليها هاربا من صمته وقلة حيلته،
ليقف أمام الكون بصورة أكثر واقعية دون أن يبالغ في وضع المؤثرات..
هي كما هي بمؤثراتها وبموسيقاها الملهبة للحماس،
حيث تهوى الرؤوس وتقتل الأنفس أمام المدافع والرشاشات، فلا يبين ضوء النهار..
وهاهو يركض رشيقا كما لو لم تكن تملئ حشاياه
الشحوم، ما باله غير أن يعمل بموسه قتلا في الصفوف، هو يقاتل بموسه المدافع
والوجوه الجزعة من وراء الصفيح المحترق، وهو العالق بين أنفاس الموت والحياة، وكذا
هم جميعا يتراكضون هنا وهناك بكل ما لديهم، ومن بين فسحة الدخان الأسود كان سالم
من وراء الجدران يطلق القنابل..
سالم لديه قنابل وهي تهوي على الدبابة فتفجرها
وتحرق قنابله الأرتال المتتابعة، وهاهم أهل قريته يضرمون النيران ببنادقهم، وبسكاكينهم
يبقرون بطون أولئك الصهاينة، وهو يفعل فعلهم وصرخات زريفة تقتل هنا وتقتل بسكينها
هناك، صيحاتها تشد من أزره والدخان يحرق أفئدتهم ويخنق أنفاسهم، لتدوي قنبلة المدفعية
بين صفوفه، جعلتهم يتطايرون كالورق الهش إلى أشلاء مبعثرة، تلاصقت وأجساد الأحياء
والجدران والصخر على جنبات الطريق الترابي، ورائحة الدم تزكم الأنوف المسكونة
بوشاح السواد..
طفق يبحث كامل عن زريفة ولم تبين صيحاتها، وقلبه
اهتز بين جدرانه وأخذ يقلب الأشلاء لم يدرك منهم شيئا، هذه يد الشيخ عبد السلام من
الخاتم ذي الفص الزمردي وهذه قدم الحاجة رملية، فقدمها صغيرة وحذاؤها ذو وردة حمراء..
ولكن أين زريفة؟؟ هذا البطن الصغير المتكور
يعرفه، بل قد إلفه إنه جزؤها العلوي، وقد تناثرت ساقاها إلى حيث أصبحت أوتادا لحرب
أخرى..
هو لن يكتفي بالركض يحملها والحلم في أحشائها
وشعرها الأشقر المغمس بالدم يتهدل على كتفه، ودماؤها تملئ ثوبه المائل للصفرة...
أخذ يصيخ السمع والبطن المتكورة ترتل..:" إلا
تحزن أبي فادفني في رحم أمي الأرض..تلك أشهر معدودة ثم ستلدني حين المخاض والآلاف
مثلي..."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق