2015/09/18

لماذا الانغماس في الكتابة ليس دائما بالأمر الصحي بقلم: علي شاكر

الغرق في بحر من الكلمات
لماذا الانغماس في  الكتابة ليس دائما بالأمر الصحي
"المقالة كتبت ونشرت في مجلة The Writer الصادرة في الولايات المتحدة، كما ظهرت بموافقتهم في دورية New Zealand Author الصادرة عن اتحاد الكتاب في نيوزلندا وترجمها الكاتب بموافقة مجلة The Writer للنشر بالمدونة"
بقلم: علي شاكر*
شرعت في الكتابة قبل ثمان سنوات، في الثامنة والثلاثين من عمري كنت مهاجرا مضطرب المشاعر تتصارعه الأفكار والعواطف ... اتخاذ قرار الرحيل عن بغداد لم يكن سهلا، لكن العنف والفوضى التي عمت المدينة التي ولدت وعشت فيها معظم سنوات عمري جعلاني أشعر باليأس والغربة فغادرت الى الأردن الذي أمضيت فيه عامين قبل أن أشد الرحال من جديد الى نيوزلندا التي أحمل الآن جنسيتها
الشهور الأولى من الرحلة كانت الأصعب والأشد وطأة، كان عليّ خلالها التعاطي الشبه يومي مع الكثير من المتغيرات، الأمر الذي أصابني بالتوتر والانهاك فصار التذكّر طوق النجاة الذي تشبثت به كي أثبت لنفسي أني لا زلت أتمتع بكامل قواي الذهنية ... اجتاحتني سيول من الصور والأصوات والأحداث اناء الليل وطوال النهار حتى انتبهت الى اتساع الفجوة التي باتت تفصل بين الحيز والزمان الذي أتواجد فيه جسديا وذلك الذي تجول فيه خواطري، قررت الكتابة في محاولة للخروج من دائرة الصراع الشيزوفريني المستعر في داخلي وبناء جسر يربط بين ضفتي ماضيي وحاضري لكن فعل البوح عن مشاعري وقناعاتي الحقيقية كان تحديا جديدا تحتم علي مواجهته
ارتجف القلم بين أصابعي عند ملامسته الأولى للصفحة البيضاء أمامي ما اضطرني الى التوقف وأخذ نفس عميق فكتابة عكس ما كنت أؤمن به هو ما اعتدت على فعله طيلة سنوات وجودي في العراق ... في دروس الانشاء والثقافة الوطنية كان يتحتم علينا أن نسطّر الصفحات في تمجيد القائد العظيم المنتصر، مقت كذبي ونفاقي لكن لم يكن عندي خيار آخر حينها فالتصريح بكرهي للرئيس ولمشاهدة صوره التي تحاصرني في كل مكان وقناعتي المطلقة بأنه دكتاتور مضطرب نفسيا لم يكن سيؤدي بي الى الرسوب في امتحانات المدرسة والجامعة فحسب ولكنه كان ستضع نهاية محتومة لحياتي وربما حياة كل من يمت لي بصلة دم، حدث ذلك بالفعل للآلاف من العراقيين خلال عقود حكم البعث وأسفر عن نشوء أجيال مجبولة على السكوت وحبس الآراء والصرخات عميقا في الصدور
عندما نُشِرت مقالتي الأولى باللغة الانكليزية في موقع اخباري شهير وتوالت تعليقات القراء عليها أدركت أن الوقت قد حان لطي صفحة ممارستي للعمارة والفن التشكيلي، تشقق جدار الصمت السميك مُطلِقا دفقات من الحكايات التي كانت بحاجة الى أن تُروى، لكن كتابة القصص ليست بالأمر الهيّن خصوصا عندما تكون عن أشخاص عرفناهم جيدا وأحببناهم ثم فقدناهم في الحروب المتعاقبة أو مجرد أحداث أعادت تشكيل مفهومنا عن السياسة أو الدين والحياة بشكل عام
تحتم على سردي أن يحافظ على مصداقية وجلال الحدث المذكور وشخوصه دون الانجرار الى الميلودرامية المفرطة أو الظهور بمظهر منفر للقارئ المعاصر المُتطلّب والقليل الصبر، كان علي أيضا توخي الحذر الشديد في اختيار مفرداتي وصياغتها خشية أن أسيئ ترجمة ايماءة هنا أو تعبير وجه هناك وهو ما كان سيتسبب في ظلم بيّن للحكاية برمتها ... انتابني احساس بأني كمن شاهد فيلما صامتا مؤثرا وصار لزاما عليه أن يسرد أدق تفاصيله لصديق ضرير
أمضيت خمس سنوات وأنا أستمد الشعور بالرضا عن النفس من كتابة نصف صفحة في اليوم، لكن حتى ذلك لم يكن بالانجاز المتاح دائما فكثيرا ما كانت الأفكار تتمرد عليّ وترفض التجاوب معي، الأمر الذي كان يتركني في حال مزر مثير للشفقة ... تنفست الصعداء عندما صدر كتابي الأول “A Muslim on the Bridge” وعقدت العزم على أن يكون مشروعي التالي روائيا، ظننت أن الوقت قد حان كي أختبر صنفا أدبيا أقل وطأة على النفس من المذكرات الشخصية والكتابة السياسية، لم أتدبر حينها أني كنت كمدمن ينتقل من تعاطي صنف من السموم الى صنف آخر لا يقل عنه ضررا
لعل من أسوأ الأعراض الجانبية التي اختبرتها خلال كتابة روايتي هي الشعور الغامر بسلطة خلق الشخوص والتجريب في رسم مسارات حياتهم وتحديد مصائرهم، الأمر الذي أسكرني تماما ... لم أعد بحاجة الى لقاء أصدقائي الحقيقيين والاختلاط بهم فقد صار لي أصدقاء من خيال أكثر جاذبية وطاعة لي، جبت برفقتهم العالم، ضحكنا وبكينا وحلمنا، أحببنا وكرهنا وانتقمنا،  عشنا معا في عالم حميم من صنعنا، عالم غني مكتف بذاته
حاجتي الماسة لكتابة نصف صفحة في اليوم لم تنقطع، لكن الأمور اتخذت منحى أشد تعقيدا عندما بدأت الأفكار في ذهني تحاكي نظام التشغيل على حاسوبي المحمول، ادركت فجأة أني صرت أفكر وأعيش في عالم افتراضي من النوافذ، بعضها باللغة الأنكليزية وأخرى بالعربية ... لو صدف أن مرت بجواري صديقة من العاملين في المكتبة العامة حيث أكتب عادة في أوكلاند وسألتني عن حالي، فان الأمر سيستغرق مني بضع ثوان أقوم خلالها بتصغير النافذة الذهنية التي أستعملها وفتح نافذة جديدة وربما تغيير اللغة المستعملة أيضا، في الوقت الذي أكون فيه قد تهيأت للاجابة على السؤال العابر غالبا ما تكون صاحبته قد تجاوزتني بامتار عديدة
لم أدرك مدى انغماسي في عالمي الوهمي وكيف أن سنوات ممارستي للكتابة قد حولتني من كائن ناطق متكلم الى آخر صامت مكتوب حتى علمت بنبأ وفاة والدي في مطلع هذا العام ... انعقد لساني وصدرت عني أصوات هجينة من كلمات متكسرة وأنين وأنا أحمل هاتفي الجوال، هرعت الى حاسوبي تعلقا بأمل واه أن باستطاعتي أن أغير مسار القدر كما اعتدت أن أفعل مع شخوص روايتي، أوشكت على كتابة أن الأطباء في المستشفى تمكنوا بأعجوبة من انقاذ حياة الرجل العجوز وأنه قد عاد سالما الى البيت لكنني لم أستطع، عوضا عن ذلك كتبت: رحل أبي ... حينها فقط أدركت خسارتي وأجهشت في بكاء حار كولد صغير
الآن وقد صدرت"كافيه فيروز" روايتي الأولى باللغة العربية وعلى الرغم من حقيقة أن في جعبتي الكثير من الحكايات التي تستحق أن تروى، أعتقد أن الوقت قد حان لوضع هوسي بالكلمات والجمل على الرف لبرهة أعود خلالها الى ممارسة حياتي الطبيعية بكل ما تعنيه العبارة من ضجر وعبث وحتى ازعاج ... لا أزال مترددا بين الالتحاق بالجامعة لمتابعة دراساتي العليا أو ربما البحث عن عمل نهاري تقليدي في مكان ما، مجرد التفكير أن باستطاعتي انتشال نفسي من بحر الرمال المتحركة قبل أن يبتلعني تماما وأني قادر على التشبث بأرض صلدة يمنحني شيئا من الطمأنينة وان كنت أخشى أن حاجتي لكتابة هذه المقالة هي الأخرى عارض غير مطمئن 
 
* مهندس معماري وفنان تشكيلي عراقي/ نيوزلندي، حاصل على بكالوريوس في العمارة من جامعة بغداد عام 1992 له كتابان هما A Muslim on the Bridge (Signal 8 Press, 2013) و كافيه فيروز: رواية باستثناء فصل واحد (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2015) بالاضافة الى العديد من مقالات الرأي والأعمال النثرية باللغتين العربية والإنكليزية منشورة في صحف ومجلات أدبية في العالم العربي وبريطانيا والولايات المتحدة ونيوزلندا حيث يقيم الآن وهو عضو في جمعية المؤلفين النيوزلنديين

ليست هناك تعليقات: