العرب والغرب في عزلتهما
بقلم: كلاديس مطر
ويحدثونكم عن الفكر الوحداني الذي لايؤمن الا بذاته ولايرى الا ذاته. ويقولون لكم إن هذا لمن صلب العقيدة وإنه
لمكتوب هنا وهناك في فقرات مقدسة فوق النقاش . ثم لا يأتونكم بالبراهين
وإنما ينفذون ما يؤمنون بأنه صواب بطرق توقف شعر الأبدان، وبقلوب قدت من
حجر الصوان.
لهؤلاء
أقول : لربما كان السبب الوحيد بأن مطلق انسان قادر على رؤية هذا الكون
أمامه هو لكون هذا الانسان مازال راغبا في اعتبار نفسه جزءا من هذا الكون .
ولعل السبب الوحيد الذي بإمكان أي أحد التحدث لأي أحد إنما لانه قادر على
ان يكون أيضا هذا الشخص الذي يتحدث اليه . ولربما كان السبب الوحيد الذي
يجعلني قادرة على التحدث معكم من خلال هذه السطور هو رغبتي في أن ادعكم لكي
تكونوا (أنا) بطريقة ما، ولأنني، في حديثي معكم، أرغب في أن أكون " أنتم" .
وهذا العدد المهول من الاعراق والافكار والنظريات والاديان والاتجاهات
الفكرية التي ظهرت عبر تاريخ الانسانية والتي مازال العدد الاكبر منها
حاضرا بقوة قاهرة في مجتمعنا العالمي، إنما لخير دليل وبرهان على أن
الغزارة والتشابك والتلاقح والتعاضد البيولوجي إنما هو سمة هذا الكون وليس
أي نظرية انعزالية اخرى حتى ولو ادعى البعض انها (قادمة ) من عند الله . إن
هذا " الله " الذي يتحدثون عنه إنما هو على مقاسهم وليس على مقاس الطبيعة.
لهذا، فانني أميل لكي (أتعاون) مع إله الطبيعة الكلي لانه المرجعية الاكثر
برهانا ووضوحا وصدقا بالنسبة لعقلي.
إن الفضاء، مهما كان
تعريف هذا الفضاء، أكان فضاء الفرد كفرد، أم فضاء الكون الفيزيائي،
إنما تخلقه وتعطيه أبعاده وجهة النظر. يكون ضيقا هذا الفضاء اذا (رآه )
الفرد ضيقا ويكون رحبا بوسع الكون اذا (رآه ) صاحبه رحبا وسيعا. ولهذا، فإن
كل فكرة قد تتحول الى كون بكامل ماديته اذا اصر الفرد على وجودها في عقله
باستمرار. فاذا كان قانون الفردية الانعزالية يقول " انه لا يمكن لشيئين أو
انسانين ان يحتلا مكانا واحدا "، فان هذا القانون يصبح صلبا ويخلق كونه
الخاص الذي يُفرض بقوة على الجميع. فاذا اصر جاري انه لا يمكن ان اقطن معه
في نفس المبنى، او ابن وطني ان اعيش معه في نفس مدينته، فان الدنيا حوله
وحولي ستتحول الى ( حالة مستمرة من تطبيق وتنفيذ ) لهذا القانون. اولا،
لأنها في عقله باستمرار باعتبارها وجهة نظر، وبالتالي فهو يخلقها كل لحظة
مهما حاول ضبط نفسه من التفوه بها. وثانيا، لأنها كفكرة - والفكر يأتي
بمرتبة اولى قبل المادة- سوف تجد كل مبرراتها في الكون المادي وستعثر على
كل وسائلها لكي تتحقق وذلك لأنها (نية) رغب فيها صاحبها بقوة. ومن يعتقد من
الماركسيين أن المادة تأتي قبل الفكر من الصعب عليه ان يفهم لماذا لم
نسترجع فلسطين الى هذه اللحظة ولماذا تنهار الحضارات وتختفي عن بكرة أبيها .
أنها تنهار وتختفي بسبب (الموافقة) البشرية على انهيارها وليس لاي سبب
مادي آخر. كل شيء مادي موجود في هذا الكون هو موجود بسبب الموافقة
الانسانية الفردية أو الجماعية على وجوده، والا فانه سيختفي في الحال.
الموافقة على وجود شيء او عدم الموافقة على وجوده هي التي تحدد وجوده من
عدمه. الموافقة هي قرار، والقرار هو نية صاحبها بالابقاء على الاشياء كما
يريدها هو.
فاذا كانت فئة ، مهما
صغرت أو كبرت، من شعب ما تؤمن بأن لها الحق وحدها في احتلال حيز الوطن
بحدوده الجغرافية، فإن توازن واستقرار هذا الوطن هو في حالة خطر كبير
ومستمر حتى ولو لم تنفذ هذه الفكرة في الحال وعلى نطاق واسع. يكفي ان تكون
في عقل البعض ليتبدل المناخ كله ويتسمم بها وينصاع لها.
في سوريا كانت الغالبية
تعتقد، عند اندلاع الحرب في عام 2011 ، أن مثل هذه الافكار الطائفية
الانعزالية غير موجودة ولم نسمع بها واننا احباب كنا واصحاب. لربما كان هذا
صحيحا بالنسبة لهذه الغالبية ولكن حتما كان هناك قسم من الناس يحمل هذه
الفكرة بين اضلعه ويعمل بها سرا أو حتى علنا في بعض الظروف . وعندما سنحت
الفرصة ( حرب ، فتنة، ثورة) شعرت هذه الفئة إنها تريد تنفيذها علنا وبكامل
الشغف. اذن، من المستحيل ان يلد شيء من لاشيء وانما كانت هناك قناعات
فكرية خفية يؤمن بها البعض ويتطلع الى تطبيقها، والا لكان المناخ في سوريا
عصيا على التخريب.
الخطأ ليس في ان أحدا ما
لديه قناعاته وافكاره الخاصه، ولكن الخطأ والخطورة تكمن في تربية العقول
على تبني قناعات لا تتناسب مع بقاء الشعوب والأمم واستمرارية وجودها.
إن الحضارات والشعوب
تندثر والثقافات تنقرض بسبب تبني مثل هذه الافكار اللابقائية . وبمراجعة
بسيطة لتاريخ البشرية ندرك ان هذه الحضارت لم تندثر فقط لانها لم تملك
تقنية تحفظ لها تراثها وتعينها على الاستمرار وإنما أيضا لأن ثقافات هذه
الحضارات لجأت الى الماورائيات والسحر والدجل الفكري الذي أوصل إنسانها الى
البلاليع بدلا من شده الى قمة الرقي والاستمرار الانسانيين.
إن التشريعات التي تحفظ
بقاء الانسان وتؤمن استمراريته هي تلك التي تتعامل مع حقيقة الانسان وميوله
الطبيعية وقوانين الكون حوله. اي تشريعات ماورائية اخرى هي مجرد إلهاء
للوقت وتضييع له. ومثال فاقع على هذا اقول ان زوال دولة اسرائيل قد لا يأتي
من حروبها مع العرب - وهو امر شبه مستحيل اليوم بعد ما رأيناه خلال سنوات
الربيع العربي الدامي- ، فالعرب ملتهون بقتل بعضهم البعض امام عيون اسرائيل
الشامته والضاحكة - وإنما لأن العرب ليس لديهم النية ولا الموافقة على
انهاء الاحتلال، ولأن هذا الكيان - من بين أسباب اخرى أيضا- قد بني على أسس
دينية سخيفة مليئة بالمغالطات التاريخية والجغرافية ، مصرا على تسمية نفسه
وتمييزها من خلال هذه المغالطات. إن أنتهت اسرائيل فسيحدث ذلك بسبب طبيعة
الافكار التي بنيت عليها هذه الدولة ، وإن انتهى العرب فأيضا بسبب طبيعة
الافكار والمعتقدات التي بنوا عليها وجودهم، ولن تقدم لهم قيمهم الدينية،
كما يفسرونها ويتبنونها، أية فرصة للبقاء على قيد الحياة وإنما سوف تساهم
أكثر، كما نرى اليوم بكل وضوح، في دق المزيد من المسامير في نعوش حضاراتهم.
إن الدول التي لا تبني
صروحها على الحقيقة والحقائق انما هي الى زوال عاجلا ام آجلا. ولن تقوى لا
ترسانة نووية ولا حتى ذرية على زعزعة هذا القانون البسيط أو هزه أو لفه
بغلالات التطير والكذب السوداء.
إن العقل هو
اول و أخر وأهم أداة يمكن التعويل عليها في البناء وفي الدمار معا . عدا
عن هذه الاداة (العقل) لا يوجد شيء على الاطلاق يمكن التعويل عليه.
حين يتوجب علينا دراسة
التاريخ مثلا فلا يجب أن نفعل ذلك من منظور اسلامي او مسيحي وذلك كما يفعل
الكثيرون من الباحثين في طول هذا الوطن الحزين وعرضه، وهي نظرة حبسوا
أنفسهم بها بقدرة قادر، و أنما علينا مقاربته انطلاقا من قدرة العقل ، في
مرحلة ما من مراحل الحياة الانسانية ، في الإبقاء على الثقافة أو الحضارة
حية ومستمرة. إن التاريخ من المنظور الديني، أيا كان هذا الدين، إنما هو
تاريخ الارغام وليس تاريخ الحريات. إنه تاريخ الادلجة واحتكار الحقيقة
ورؤيتها من طرف واح ثم استخدامها من اجل المزيد من الهيمنة وسبي العقول.
لقد كان من واجب الدين أن يحرر الانسان . لربما هذه هي وظيفته الوحيدة؛
اعادة الإنسان حرا ونفض غبار التعقيدات الاجتماعية التي يراكمها الاقتصاد
والتكنولوجيا على روحه. واجب الدين ان يعيده الى حريته الاولى البعيدة عن
أي فخ فكري او بروتوكولي وأن يتطابق هذا الدين مع فطرة الانسان السليمة .
لكنه بدلا من أن يفعل ذلك، عبث في العقل البشري وجعله رازخا أمام اطنان من
المحللات والمحرمات التي تعتبر كل واحدة منها بمثابة الحاجز امام اي حرية
او ابداع انساني مفترض. لقد فشل الدين فشلا ذريعا مع الاسف ولم تستطع
أدبياته ان تدافع عن وجوده وإنما زادت من ورطته. والازمة النفسية الكبرى
التي يجد انسان هذا العالم نفسه فيها اليوم هي شكه الكبير بكل هذه الادبيات
مقابل الخوف من نتائج عدم الانصياع لها . إن مثل هذا الصراع الداخلي
المستمر سوف لن يترك للانسان فسحة واحدة او وحدة انتباه واحدة لكي يصرفها
على تطوير ذاته او مجتمعه. إنه مشغول طوال الوقت بترهات سخيفة لاتقدم أو
تؤخر. مسكين!
إن الحرية لا تُفرض ولا
تُغتصب عنوة وليست بحاجة لثورة ولا لقبضات مضرجة بالدم ولا لأحزمة ناسفة
والا فإنها تتحول الى ( الحاجز أو العائق ) باسمى تعريف وتطبيق له.
إن المهووس بالحرية إنما
يكون جل انتباهه على الحائط او الحاجز الذي امامه ( يريد تحطيمه) اكثر من
انتباهه على الفضاء الرحب على جانبي هذا الحائط او الحاجز. إن الحرية ليست نقيضا للعبودية كما
هو معروف و منتشر من دون تفكير، وذلك لأن العبودية، كموقف نفسي، إنما هي
مكونة من قرار فردي واضح بالاستسلام والرضوخ. أما " الفخ " فهو النقيض
الفعلي لمضمون الحرية وذلك لان الفخ مكون بشكل أولي وأساسي من ( أفكار)،
أغلبها أفكار الآخرين التي وجد الانسان نفسه مسجونا فيها حتى مماته. لهذا
فان عملية التحرر تكون اولا وآخرآ عملية عقلية روحية بحتة. يمكنك ان توقع
انسانا في فخ اي فكرة تريدها وتجعله يشعر انه مقيد بها . يمكنك ان تعكس
بحيلة ما قضبان سجن من ظلال على الرمال وتصطاد احد بها . يمكنك ان تقول
لاحدهم أنه اذا خالف هذه ( الفكرة ) فإن الشياطين ستنقض عليه ويموت وهكذا
تسجنه للابد فيها . يمكنك أن تسوق أن هناك حائط ضخم ( يمكن صنعه على طريقة
الهولوغرام أي الصورة الوهمية الشبيهة تماما بالواقع) يفصل بين حيين في نفس
المدينة وتقول أنه ممنوع على احد تجاوزه لانه مكهرب، وهكذا تقطع خطوط
التواصل من خلال هذا الجدار الوهمي بين شطري المدينة. يمكنك ان تبني سجونا
لانهائية من الافكار وان تحيك الفخ للاخرين بمنطق عقلي لالبس فيه. هكذا
تقتل حريات الآخرين بنصب الفخاخ الفكرية لهم. أما هدم بيت جارك الذي يختلف
عنك بالعقيدة او قتل ابنه او اغتصاب زوجته لا يمكن ان يجلب الحرية لا لك
ولا لأي احد من اهلك او عشيرتك وذلك لأنك بأفعالك هذه فإنك تبني حاجزك وفخك
الابديين بيديك.
إن العقل الخائف يمكن له
ان يرتكب افظع الجرائم . فإذا كان الانسان خائفا من مواجهة كينونته ( أي
من هو)، اذا لايمكن له ان يكون حرا أبدا، ولن يعرف كيف يطالب بأية حرية
مهما كان موضوعها. أما سبب الخوف الوحيد من مطلق أمر فهو جهل الانسان به
وبالتالي عدم قدرته السيطرة عليه وإدارته. وهكذا، فان هذا (الشيء) غير
المفهوم او الذي لا يستطيع هذا العقل التحكم به او ادارته يتحول الى بعبع
شيئا فشيئا أو حتى إله لا يمكن مناقشته. ولهذا نلاحظ ان الانسان الذي يفهم
أمرا ما وقادر على ادراته لايكون خائفا منه، وبالتالي فان هذا الامر لا
يستعبده او يوقعه في اي فخ. الواقع، ان الجهل بالشيء، التفكير به، الخوف
منه، تجنبه، يجعل منه امرا صلبا وأمرا واقعا وفخا بدرجة امتياز. وهذا تماما
نقيض الحرية.
لو قدر لنا ان نسأل كل
إنسان يقف في أي مجموعة هائجة تشتم وتصرخ وتلوح بقبضاتها، من أنت، وما هي
الحرية التي تبحث عنها؟ لما عرف الجواب . كيف يخرج هؤلاء مثل قطيع من دون
أن يدركوا تماما الى أين هم متجهين ولماذا يصرخون؟ ولماذا لم نستفد من دروس
التاريخ حين كان يخرج مثل هؤلاء تحت عناوين جميلة لينتهوا هم وأوطانهم في
برك من الدماء ! ونظرة صغيرة الى الثورات التي حدثت في تاريخ الانسانية نجد
ان القتل وسفك الدماء كان عنوانها الاكبر، وهكذا فشلت جميعها. لقد ارتكب
"روبيسبير" سفاح الثورة الفرنسية والمدافع عن الديمقراطية كما كان يقول ،
مجازر توقف شعر الابدان لمن أسماهم أعداء الثورة لينتهي هو مقتولا بفعلته.
الحق، من المستحيل أن نصدق أن القبضات المضرجة بالدماء يمكن أن تنقل
الثقافات والحضارات الى واقع أفضل وأكثر بقائية لشعوبها.
واذا، ماالعمل ؟ الواقع،
إن تثقيفا لعقول الناس وسحب الافكار الخاطئة اللابقائية منها يمكنه ان
يعيد تأهيل هذه العقول وبالتالي تأهيل الاوطان بفترة قياسية . إن تعلق
الإنسان القلبي بهذه الدنيا وافتراض أن هذا الانسان ليس سوى جسده ، أمر قد
يكون هو سبب هذا البلاء الكبير الذي علقنا في فخه جميعا. إن صورة الانسان
الساجد لأحد منتجاته المادية التي يصنعها بيديه يمكن أن تعتبر الصورة
النمطية لإنسان ليس هذا العصر فقط وإنما لكل العصور الإنسانية السابقة .
فإذا كان الانسان كروح هو مسبب كل هذه الحضارة بكل تبدياتها وتقنياتها
المادية التي حوله فلماذا اذا يسجد لها بكل هذا الجنون والتبعية والانسحاق؟
لماذا هذا التعلق القلبي بمنتجات تعتبر في موقع أقل من الروح التي صنعتها.
إن الدين، مع الاسف لم يتوصل الى هذه اللحظة لفك أسر الانسان من هذا النوع
من الفخاخ ولم يقدر إلا على اعطائه روشتات جاهزة لأمراض لم يعانِ منها الى
هذه اللحظة. ليس من وظيفة الدين بالمطلق أن يقترب من الفطرة والمنطق
السليمين في الانسان ولا ادلجتهما ولا اعادة تشكيلهما ولا اعادة تصنيعهما.
إن الفطرة السليمة الطبيعية في الانسان هي التي يجب ان تقود الدين - اذا
كان لابد من ذلك - الى حيث يجب ان يكون؛ أي ترك الانسان حرا كما ولد من دون
اغراقه وبرمجة عقله بأفكار لابقائية سامة.
إن اي توجه لايكون الى
العقل يعني اننا لا نتوجه الى لب المشكلة الاساسية. إن الحرية لا تكون
باستعادة الاراضي فقط وإنما باستعادة هذه القدرة الفطرية لدى الانسان لكي
يكون ذاته خارج اي فخ فكري يمكن ان ينصب له، وأن يملك بوصلة اخلاقية متينة
تعينه على طريق حياته. فاذا كانت هذه الفطرة والمنطق السليمين هو أن يحب
جاره مهما كان مختلفا عنه، اذا لا يجب على اي دين او فكر آخر زعزعة هذه
الفطرة . واذا كانت الفطرة السليمة تقول ان القتل عن سابق تصور وتصميم غير
مقبول بالمطلق( ما عدا الدفاع عن النفس) اذا لايجب ان تأتي افكار مهما
كانت لتقول له ان هناك جهادا باسم الله يسمح بالقتل وتبعاته. واذا كانت
الفطرة تقول له أن الخيانة أمر معيب فلا يجب ان تأتي عقيدة ما مهما كانت،
لتقول له أن هناك احيانا اسباب ملزمة تجعل من الخيانة أمرا مقبولا. يجب ان
لا يكون هناك اي جهد فلسفي او وجودي أو مادي في تغيير هذه الفطرة السليمة .
إننا نغرق حياتنا بالشروحات الكثيرة ووجهات النظر الخلبية فنقضي من دون أن
ندري على أية فطرة اخلاقية سليمة اخرى فينا. والإرغام الذي يمارس على عقل
الانسان من أجل حشره في نمط فكري يناسب أحدا ما أو مجموعة ما إنما يبعد هذا
الانسان ملايين الاميال عن حريته. يمكنك ان ترغمني على أن اكون احدا آخر
ولكن يوما ما - بما أنني اصبحت لست نفسي - توقع مني ان أقوم بالانقلاب عليك
لأنك أدخلت كل العوامل الاعتباطية الى عقلي وأصبحت شخصا لايمكن توقع ردود
فعله لانه ليس نفسه .
إن
عملية الفتوحات الدينية كلها عبر تاريخ البشرية قامت على الارغام وذلك لان
أحدا ما كان يحتقر الاخرين لدرجة اعتقد فيها انه اكثر فهما منهم وأقوى عدة
وعتادا، وبالتالي فإنه يحق له أن يدمر حضارة نجحت بالبقاء قبله لأنه يعتقد
ان نسخته هي الافضل. إن مثل هذا التدخل في الصيرورة الزمنية والمكانية
لتاريخ اي حضارة او ثقافة او شعب ومنع تطورها الطبيعي مع كل وسائل الانتاج
الخاصة بها إنما من شأنه أن يستدخل الفوضى الى هذه الصيرورة لمئات من
السنوات لاحقة.
فالفتوحات
العسكرية مهما كانت دوافعها لايمكن أن تعتبر ظاهرة انسانية- وذلك على عكس
ما يظنه بعد فلاسفة الغرب - وإنما مؤشرا كونيا على انحطاط وهبوط القيم
الاخلاقية للانسان. فالشعوب ككتلة انسانية لا تميل الى تبرير ظواهر الغزو
العسكري والتوسع ، وهي ظواهر قد تتواجد حصرا في افراد بعينهم يعانون من
تضخم في الغدد الاستعمارية، وشبق السلطة، أو في أفراد آخرين ملحقين بهؤلاء
قد يطلق عليهم مجتمعهم اسم مفكرين أو مثقفين برروا ظاهرة الفتح العسكري
وأشبعوها تحليلا، وخلقوا لها الاسباب من دون ان يتطرقوا مرة واحدة او يلقوا
اللوم على قضية الاخلاق لدى الانسان الفرد، أكان في مركز السلطة ام فردا
عاديا. فليس صحيحا ان الغزو كعملية توسعية هو الذي يخلق المجموعات
الانسانية، وليس صحيحا ان اوروبا الغربية مثلا تدين بوجودها الى قبائل
الفرنك والغوط والنورمان التي توسعت لتتحول الى امبراطوريات دول كبرى، وذلك
لأنها غير موجوده اليوم بنسخاتها القديمة. إن الامبرطوريات التي انطلقت من
مدينتي روما واثينا اندثرتا الى غير رجعة. وكذلك اندثرت كل من
الامبراطوريات الاخرى القديمة كالبابلية والفرعونية والرومانية والاسلامية
والمغولية والعثمانية ......الخ ....كلها غير موجودة الان لأن الاسباب التي
انطلقت منها كانت لا اخلاقية وحدثت بقوة الارغام والقتل وسفك الكثير من
الدماء.
إن
كل هذا النشاط المهول الاستعماري إنما انطلق من فكرة أيدها العديد من
مفكري حقبة القرن التاسع عشر حينما قالوا أن ( الاقوى هو الاصلح)، فكرة
حصدت الأخضر واليابس على مستوى الشعوب والحضارات. لا، الحرب ليست ظاهرة
انسانية بالمطلق - كحاجة روحية واخلاقية للوجود- مهما تكرر حدوثها في
التاريخ وذلك لأن الشعوب لاتؤمن بها الا اذا كانت في حالة دفاع عن النفس
امام قوى تريد ان تستجلب الظلامية بالترهيب، كما هو الحال تماما في سوريا
حيث لم يكن هناك سعي لا من قبل الدولة ولا حتى الغالبية الكبرى من الشعب
الى الحرب، ولم يطلبانها وإنما حاولا إبقاء مركبهما متوازنا من دون غرق،
مستعيدين في كل مناسبة تاريخ الوطن السوري العريق والقديم، ومذكرين بحضارة
يعز على الجميع التفريط بها او دكها من قبل افكار هستيرية لابقائية يروجها
افراد مأسورون اصلا بأفخاخ العقائد التي يؤمنون بها.
واذا
كيف يكون ( الاقوى هو الأصلح ) في مثال الإبادة المهولة التي تمت من قبل
الاوروبيين لسكان اميركا الشمالية الاصليين ( الهنود الحمر) حين أرادوا
احتكار القارة كلها لهم من دون مشاركة حتى سكانها الاصليين معهم؟ وكيف يكون
هذا القانون صحيحا في مثال الشعوب التي ارغمت على تغيير افكارها وعقائدها
حالما دخلها الفتح الديني؟
إن
الحروب يجب أن لا تأخذ نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي مثالا لها، فتقوم
بتصفية الكل والابقاء على الأقوى. من هو الأقوى؟ وكيف تخلق الحروب
والابادات الطاحنة أي فرد قوي؟ وما هو تعريف القوي أصلا؟ هل هو القوي جسديا
الذي نفد من كوارث حرب ما؟ أم هو من لم يتأثر بها وكان دوره دور القاتل
فيها؟ لم يحددوا لنا من هو القوي الذي يبقى على قيد الحياة! ولم يقتربوا
ولو مجرد بوصة واحدة من تعريف القوي بالمعنى الاخلاقي للكلمة.
إن
الافراد الذين يطلق عليهم أقوياء لمجرد بقائهم على قيد الحياة بعد حرب
طاحنة ، هم أفراد تركت هذه الحرب آثارها النفسية العنيفة على أرواحهم. صحيح
أنهم باقون على قيد الحياة ولكن بقاءهم هو مجرد بقاءعلى قيد الحياة لا
أكثر ولأ أقل. الحقيقة، إن استمرار أية أمه كثقافة لا تستطيع أن تعول
كثيرا على افراد شوهتهم الحروب وشحنتهم بالرغبة في الانتقام ورد الصاع
صاعين. اذا ما هو المطلوب ؟
المطلوب
الحكمة التي هي قمة الاخلاق . وكمثال توضيحي على ذلك اريد ان استعين
بالتجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية. حين دمرت الولايات
المتحدة ( كما تفعل دائما) اغلب المدن اليابانية بالقنابل الذرية وتركت هذه
الامة فريسة الجوع والعوز لسنوات لاحقة، عمد قادة اليابان، لكي ينهوا آثار
هذه الحرب، الى المحافظة قبل كل شيء على الوحدة الداخلية لليابان . صحيح
لم يكن هناك سلطة مركزية فعلية بعد الحرب المدمرة بينما كان هناك فرق كثيرة
من المعارضة بعضها كان مؤيدا لانهاء كل هذه المرحلة بتوقيع معاهدات
استسلام واخرى كانت تريد من امبراطور اليابان التنحي عن منصبه، والتوقف عن
كونه زعيما أوحدا، لكن الحكمة التي تحلى بها الجميع جعلتهم راغبين في وأد
اي خلاف داخلي، وعدم اللجوء الى التعاطي بين افراد الامة الواحدة عن طريق
السلاح. فالدمار التي خلفته تلك الحروب على اليابان كان كارثيا وكان هذا
درسا أخلاقيا وانسانيا كبيرا وجد اليابانيون أنفسهم أمامه. إن الاعوام
التي تلت كل هذه المجازر الاميركية إنما كانت من أسوأ الفترات التي مرت على
اليابان قاطبة . لقد ذبح الانهيار الاقتصادي الدولة ذبحا فندرت السلع في
الاسواق وبدأ شبح المجاعة يطل برأسه فوق هلع الجميع في طول البلاد وعرضها .
ظهرت الاسواق السوداء وارتفعت الاسعار الى درجة مهولة وفوق هذا وذاك قامت
الولايات المتحدة الاميركية كدولة محتلة بتفتيت الجيش الياباني كلية وحولت
افراده الى عاطلين عن العمل. لقد كان هذا درسا كبيرا لليابانيين الذين
انتبهوا جيدا الى هذه الورطة الكبرى فما كان منهم الا الالتفات الى الزراعة
والصناعة الحرفية لاستيعاب هذه الاعداد الكبيرة من العاطلين . لقد كان
هناك قرارا واحدا شعبيا من قبل الجميع، المعارضة وغير المعارضة، وهو
الانطلاق في البناء واعادة الاعمار في الحال وهذا ما حصل. لقد دمرت اميركا
بكل قوتها هذه الدولة كما تفعل عادة في كل دولة تحتلها وتقضي على جيشها،
غير أن اليابانيين قرروا بناء الاقتصاد بعد أن رتبوا بنية العقل الياباني
جيدا، مبرهنين على أنه عقل وطني بالدرجة الأولى، الأمر الذي عجل في لملمة
الجراح والانطلاق الحثيث في بناء الاقتصاد والدولة والانسان.
إن
المطلع على التربية اليابانية وهذه القواعد الاجتماعية والاخلاقية الصارمة
التي يتمتع بها الفرد الياباني يعرف تماما أنه ليس شركات السيارات
والكومبيوتر العملاقة، مثلا، من يدفع بهذا البلد الى القمة ولكن الاخلاق
اليابانية الفريدة . لقد توجهوا الى العقل وضبط النزوات الفردية التي لا
تساعد على النهضة، وكللوا ذلك كله بالكثير من القوانين المدنية والانسانية
التي لها صلة بثقافتهم وتراثهم. هل هم أحرار كأفراد وكشعب؟ نعم، إنهم كذلك
وبقدر كبير، ذلك لأنهم غربلوا الكثير من العادات والقواعد السلوكية في
البلاد وتخلصوا من تلك التي لا تفيد في بناء الانسان الياباني الجديد
واحتفظوا بالسليمة منها وعملوا على تطويرها وتحسين أدائها. ليست التجربة
اليابانية كاملة بالمطلق، فليس هناك مطلقات في هذا الكون، ولكنها درس كبير
جدا لتلك الدول التي قضت عليها حروب ساهم الاهل والجيران في اشعال فتيلها.
ليعطوا
السوريون اليوم درسا لكل العالم بالانضباط والالتفاف على بعض، والانطلاق
في اعادة اعمار العقل قبل الحجر. لقد عرفنا تماما ما هي العوامل التي اشعلت
الدنيا حولنا. اذا لنتوقف عن اعادة احيائها حتى لو كانت لازمة في كل
ادبياتنا . فإذا لم تدفعنا مثل هذه الحرب الطاحنة للتغيير اذا ماذا
سيدفعنا!؟
انني
ارجع ورطتنا الى قلة الاخلاق بل الى عدمها..وأجزم أنه علينا البدء من هذه
النقطة وسوف لن يكون هناك خائن يفتح الباب على مصراعيه لوحوش العالم لتدخل
الى الوطن وتغتصبه . ربما هذه هي فرصتنا الاخيرة في الحرية.
هناك تعليقان (2):
عزيزي استاذ احمد
الف شكر لنشر مقالتي
و لكنها مع الاسف ليست كاملة و الأخرون يأخذونها عن مدونتك و ينشرونها غير كاملة و هذا يسيىء لي وللمقالة .
ارجو اعادة نشرها كاملة
و اقبل مني كل محبة و احترام
كلاديس مطر
www.gladyola.com
تم تصحيح الخطأ
كل التحية والتقدير والاحترام
إرسال تعليق