في الطائرة ..
هشام أبو سعدة
حكيم في الطائرة مُغادرًابمفرده، يتابع قراءة بعض ما جاء
في المخطوط الضائع المعنون "زمن الحمير". قطعًا عرفتوني، أجل، أنا فيفي.
عُدت أحكي من جديد، أملاني حكيم سطورًا ودونت البقية مما وجدت في ورقاته المنثورة
في الهنا وهناك. كلا البتة، والله لم أكتُب شيئًا من تأليفي، لا تظلموني، ستتيقنون
أنني لم أكذب عندما تعرفون أني لم أتحول كُليًا لبشرية، ظلت فيَّ أشياءٍ أبقتني
آلية. الآليين لا يكذبون. أعرف ثقتكم في البشر باتت مَعدومة؛ كذابون، مُنافقون،
فاسدون، أيضًا هم غيرّ مؤمنين، أخ.. أسفة.. أسفة، نسيت أنا أكلم بشريين. أهٍ..
عرفت.. عرفت، الصفات السابقة السيئة هي لبعض البشريين فقط، حَتَّى كلمة البعض
لمحتها منكم. عُذرًا. من فضلكم. لا تظنوا بيَّ الظنون. وددت يومًا أن أتحول لبشرية،
أردت أن أكون مثلكم بشرية، أحب، أتحب، أسعى في دنيا الله، أعيش اختباراتكم، أموت،
انتهي نهايتكم، إنما لم استطع تحمل أفعالكم. أكادُ اليومَ
أن أبكي، لا أريد أن أتذكر ما فعلتم في مايا الساكت وابنتها آريج؛ الصبية وأمها،
ماذا فعلن لكم؟ قتلتم رهيف اليمام في ساحة التحرير كالخروف لأنه دافع عن الحرية
والعدالة والمساواة، نَبذ الظلم والفساد، ماذ فعل لكم؟ ماذا فعلت لكم نوار الحائر
لتُغرقوها في مياه المحيط؟ حَتىَّ زربون
الفالت رجلكم التابع المُخلص لكم قتلتموه حَتَّى لا يشي بكم. أما أمس فقتلتم ريبا
الرايق وسولاف زياد وسَليم حديد، آذيتم الأطفال، سرقتم الأراضي، شردتم الكبار،
ثكَّلتُم النِساء، ماذا فعلوا؟ أردتم السلطة والشهرة والمال والجنس. سامحوني بدلت
رأي، لم أعد أرغب في حياتكم البشرية، أنتم تعيشون في زمنٍ صعب، حَتَّى أنا لا
استطيع أن أعيش في هذا الزمن.. أعذروني..
***
-
لحم أم دجاج أم أسماك.. أم وجبة خاصة؟
يفيق حكيم على صوت مُضيفة
الطائرة ينظُر إليها مُبتسمًا. فتُعيد عليه السؤال مُندهشة، فكان في غفوةٍ يقرأ ما
فات، مُتخيلًا كأن الحياةَ مشاهدٌ مُصورةٌ مُتتابعة لا تتجاوز دقائق معدودة.
فيخالها رؤية النبي يوسف عليه السلام، سبعَ سنواتُ عجافٍ تليها أعوامُ نماءٍ، إنما
فيما بين يديه تبدو كانت وَكَأنَّها بِضع حِقبات؛ لعلها سبعْ أيضًا. هامسًا: ليكن
أمرّ الله، ثم بصوتٍ خافت دون أن ينظر للمضيفة:
-
من فضلِك، سمك ساخن، .. مع بعض التونيك.
-
للأسف لا يوجد تونك، .. أترغب في بعض المياه الغازية؟
-
شكرًا، سأكتفي بكوبِ مياهٍ طبيعية، .. من فضلك، كم تبقى من زمن الرحلة؟
هكذا استوقفها هو
بلطفٍ بعينيه مُستطردًا، لتُجيبه هي بتهذيبٍ شديد اعتادت عليه:
-
قضينا أكثر من نصفها، .. فلعل الباقي من الزمن أقل من الساعة.
بادئًا في تناول
الطعام، واضعًا على أذنيه سماعة الطائرة، ناظرًا لقنوات خاصة باينة في ظهر المقعد
أمامه، يُشاهد فيها برنامجًا حواريًا مَبثوثًا في وطنه. تبان ديانا الكرامة بعد أن
أصبحت مُقدمة حوارات مُحترفة. لم تترك الجامعة، كما لم تترك الغناء بل أصبحت
أستاذةٌ جامعية ومطربةٌ مُحترفة، ثم مثلها مثل بقية من في بلادنا أصبحت إعلامية
كبيرة، ليست مُذيعة بل مُحاورة. مُستضيفة اليوم رائد الكوت بعد خروجه من المُعتقل،
لم يعُد نَضرًا. تغير الكُلّ بعد تقييد الحريات. كليهما كانا من ضمن أصدقاء حكيم،
مِمَّن بقوا في أرض الرجفة حبكًا لنجاح خطة البحث عن المخطوط الضائع الثاني، بعد
خلافهم مع أذيال النظام، فلم يخرجا معه في رحلته النيلية الطويلة، انتظروا لمرحلةٍ
تالية؛ لحَتَّى لا يشك فيهم أحدًا. استمعا معًا (فيفي وحكيم) لحوار يبدو دائرًا عن
لزوم وجود مشروع قومي للنهضة، فذلك الحوار هو المازال سائدًا في الوسط المجتمعي
العام والخاص لبضع سنوات فلم يفعله أحد. بعد الترحيب، بدأت ديانا الحوار:
-
سيد زياد احتلت قضية المشروع القومي مساحةٌ من الطرح على مدار السنوات
الفائتة، فلعل المشاهدين، وأنا قبلهم بطبيعة الحال، نرغب في معرفةِ وجهة نظرك
فيها.
-
لا يوجد ما يُمكن أن يُطلق عليه مشروع قومي يا هانم، فتلك حجة من يريد
الإلهاء.
-
إلهاء، بمعنى؟ .. لا أفهمك!!
-
أجل، إلهاء، فبالنسبة ليَّ أنه يجب أن يكون لكُلّ إنسان مشروعه القومي
الخاص.
-
مشروع قومي خاص، أما تلك فجديدة.. قومي وخاص.. كيف؟
-
جدير بأن يكون لدىّ كُلٍّ منا مشروع قومي خاص به هو، مشروع يُصيغه من خلال
ثقافته وتوجهاته ورؤيته الشخصية للحياة وما بعد الموت. فقط المطلوب منه ألّا
يتعارض مشروعه الخاص مع مشروع الدولة التي يحيا فيها مهما كانت طبيعة تلك الدولة.
أنا لا أقصد هنا موطنه الأصلي المولود فيه إنما إيّ دولة عاش فيها، أو حَتَّى كان
مهاجرًا إليها ليعمل، ليحيا؛ ليعيش.
-
تلك الرؤية تشوبها الأنانية، فبهذه الكيفية كُلَّ منا لا يفكر إلّا في
نفسه، ناسيًا أو مُتناسيًا الآخر في إطار مشروعه الخاص.. فكيف إذن هو قومي وخاص؟
-
من قال لك هذا؟ .. إذا ما تفحصت المسألة بدقة ستجدين أن الحياة مُتشابكةٌ
فإن كان مشروعُ الفردَ الشخصي أن يكون أستاذًا نابغًا نابهًا- مُشيرًا إليها بكلتا
يديه- فبالضرورة سيعود نبوغه في كافةِ الأحوال على طلابه القريبين.
يعرِفها أُستاذةٌ
نابهة نابغة، تبتسم له ابتسامةٌ لئيمة، خبيثة. تحولت ديانا بعد الزواج من فتاةٍ
خجولة تكاد لا تنظر لأحد في عينيه لامرأةٍ قاسية، يَفِرُّ منها أعتى الرجال. زاد
جمالها، تفجرت أنوثتها، اتخذتَ مناصبًا شتى، ليس بسبب تفوقها العلمي فحسب إنما أيضًا
بسبب ارتباطها بالضابط سرّ الختم أيوب، الذي تبوأ مناصب مهمة، فتفتحت لها أبوابًا
كثيرة كانت مُغلقة. عرفتم لماذا رفضت فيفي أن تكون بشرية! .. حَتَّى ديانا الفتاة
النابهة الخجولة الحنونة، من كانت لا تُطيق أن ترى بوبوس خطيبها يعامل المتسولين
بقسوة، اليوم هي تضرب رجال ونساء بكعبِ حذائها، رأت نفسها باعتلاء زوجها المناصب
فرعونة صغيرة، بل كبيرة؛ ما علينه.. ستقولون أني أغيرُ منها، كلا أنا لا أغير، قلت
لكم لستُ بشرية.. أف.. أمم نصف آلية- نصف بشرية، أنما لا أغير. أسفة عطلتكم دعوني
أترككم تتابعون مع حكيم برنامج ديانا الكرامة مع رائد الكوت بتقنية اليو تيوب. يبدوهو
يشرح ما يريد أن يقوله برفق ترمقه هي شذرًا مُتحفزة لأي خطأ منه:
-
هذا النابه إن فعل فعلته التعليمية بكفاءة، سيعود بالنفع على المجتمع
بالكافة، فهو بالقطع غيرّ الأستاذ الذي ليس لديه مشروع قومي، فالعملية التعليمية
بالنسبة له تحصيلُ حاصل، حصص تلقين واختبارات وكادر وإثابة وجودة وكفى.
-
كيف ذلك؟ .. تقصد أن الفائدة ستعُم على الدولة إن دربنا أنفسنا أن يكون لنا
هدف خاص نحيا من
أجله، فتتماس أهدافنا مع أهداف الآخرين، أيّ أقصد مشروعاتهم القومية الخاصة.
-
أحسنتي يا هانم، اقتربتي.
-
فاهمة، .. تقصد فنصنع بذلك المشروع القومي العام؟
-
المشروع القومي صانعه هو الفرد ذاته، فكُلُّ فرد مُنفصلًا يجب أن يتعلم أن
يكون مشروعه مُتفردًا لشخصه إنمًا قوميًا في المُجمل.
-
فهمت تلك، ... إنما ما دور الحكومة هنا؟
-
دور الحكومات تسهيل إدارة الحياة لأفراد الشعب ليقدموا مشروعهم الخاص دون
عناء.
-
....
-
لتفض الاشتباكإن كان ثمةً تعارضًا بين المشروعات الافتراضية الذاتية، لأننا
ما زلنا بشر، فينا الصالح والطالح.
-
....
-
أما الأكثر أهمية، أن الحكومة لا يجب أن تتبع نظامًا مُعنونًا قط، إنما
أيَّ فردٍ في الحكومة يجب أن يكون لديه مشروعه الخاص في عمله.
-
اعطيني أمثلة من فضلك.
-
إن كنت رئيس لحي مدينة مثلًا، فإنه إن لم يكن لديك مشروع خاص مُتعلق بفكرة
إدارة إحياء المدن إنما رحت فقط لتؤدي عملك الإداري فستكن تلك هي المأساة، فاليوم
بهكذا فكر أصبحت موظفًا إداريًا، .. فلا رؤية ولا همة.
-
فهمتك، أنت تطلب العمل من خلال منظور الذات، من خلال صياغة هدف واضح لكُلِّ
إنسانٍ يرغب في تحقيقه في هذه الدنيا، لمصلحته أولًا وبما لا يتعارض مع مصلحة
الآخرين. إنما الحكم هنا لمن؟
-
للضمير وقانون المجتمع الأخلاقي.
-
تمام.. تمام.. تقصد القانون الوضعي إذن.. ماذا عن الرسالات السماوية؟
-
أفضل بكثير، سهلتي عليه المسألة،فإن كنتِ تؤمني بوجود الحياة الأخرى
"أيّ أقصد بعد الموت" فالمسألة هنا ستتخذ بالضرورة مسارًا آخر، ليبدو لك
ما أقوله أكثر صدقًا في رأيِّ.
-
كيف؟ .. لم أفهمك!
-
ها هنا لا بد لمشروعك القومي الخاص من أن يرتبط بمشروع أسباب وجودك على
الأرض، أيّأقصد أسباب الخلق وما تحمليه معك إلى رَّبِّ العالمين في النهاية،
لتنالي الثواب أو العقاب في الآخرة، وإلّا ما الوازع للعمل من أيِّ نوعٍ لأيِّ
سببٍ م الأسباب؟
-
تقصد أن المؤمن الحقيقي يجب أن يكون لديه وازعًا دينيًا وأخلاقيا ذاتيًا
يدفعه لاختيار مشروعه القومي بصدق أكثر مِمَّن لا يتبع ديانة؟ .. عفوًا تقصد أكان
ملحدًا أم لا ديني؟ .. صحيح؟
-
بلى.. وصلتك الرسالة.. نحن بالفعل نتحدث ها هنا عن تأدية الأمانة..
يتبين على شريط سفلي متحرك في شاشة عرض المقعد الأمامي لحكيم في الطائرة
خبرٌ عاجل بلونٍ أحمر بفنطٍ عريض:.. "اختفاء أربعة أفراد من رجال الأمن
العام في ظروفٍ غامضة"..
-
لم تكن غامضة أبدًا! .. هاها .. تابعي البرنامج يا مدام.. مالك!؟
قالها حكيم مُبتسمًا،
ثم مُشيرًا لجارته في المقعد المجاور عندما التفتت إليه؛ ليعود إليها مُبتسمًا
ابتسامة مُصطنعة، ما زال مُتابعًا للحوار الدائر بين رائد وديانا:
-
هل لك أن توضح لنا مغزى الإيمان في القصة.. ماذا عن تأدية الأمانة!؟
-
المؤمن الحق يعرف إلى أين المصير عبرّ مشروعه الحياتي الذي يفعله لوجه الله
تعالى، مع الاستفادة القصوى عبرّ عائدات عمله عليه، فإن فعل فسيكن من الفائزين أما
إن قَصّر فسيكن أول العارفين.
-
بمعنى؟
-
بمعنى؛ فاتحًا علامة بين الهلالين بأصابعه: "إن أنجز عرف وإن قصَّر
عرف"، فالمعرفة هي البوصلة. بكذا
منطق فالمؤمنٍ يعرف نهايته، بعد الموت، بعضهم يقول لا يوجد موت، هم لا دينيون،
وهناك كفرة.. مُلحدين.
-
كلامك يبدو فيه رائحة غيرّ مريحة، مُربكة، إِلامَ تجُرَّني؟
-
مُبتسمًا: معكِ حقّ، مُعتدلًا في جلسته، مُتابعًا لكلامه: أشك منذ زمنٍ
غيرِّ بعيد أن نسبةً كبيرةً جدًا من أفرادِ شعبنا لا يدينون بحقٍّ لله، إنما
كثيرون مما نعرفهم باتوا مِمَّن يُطلقون على أنفسهم اللادينيون، فمشروعاتهم إن
لاحظتي لا تتسم أبدًا بأنها لوجه الله، فها هنا دُنياهم وآخرتهم، صدقيني... هم لا
يؤمنون بوجود خالق، حَتَّى المُدَّعين بأنهم مؤمنون، هم فقط عقائديون، إنما أنظري
إليهم في المعاملات؛ .. هم أشد قسوة من المُلحدين.
-
اتهامٌ خطير، آلديك بينةٌ؟ .. مُستنداتٌ؟ .. لا أُريد كلام مُرسل..
-
لا توجد مُستندات، فهم الآن يتحركون في الظلام، فلا يمتلك منهم أحدًا
الجرأة ليقول "أنا غيرُّ مؤمن بوجودِ إله."، إنما الشواهد دالة بما لا
يدع مجالًا للشك أنهم لا يدينون لأحد إلّا أنفسهم، فغالبهم يعتز بأن يرى اسمه
ولقبه على نواتج عمله قبل أن يُتقن عمله، ليظل يُنادى باسمه في كُلِّ وقت.
-
تقصد أنه من اللازم ألّا أضع اسمي على مشروعي.. لأكون مُتدينًا؟
-
أبدًا، ليس في المُطلق!
قالها برقة، قاطعته مُبتسمةٌ
بزهوٍ يبدو من وجهها تباشير الانتصار عليه في الحوار، أوقعته في الخطأ:
-
ألّا ترى معي أنها حجةٌ واهية؟
-
أن تكون فارضًا لاسمك، أو أن معاونيك فارضين اسمك واسم اسرتك في كُلِّ مرّة
تقوم بعملِ شيءٍ، إذن فالعمل هنا ليس لوجه الله، إنما بغرضِ الشهرة والمجد، بل
واستمالة الآخرين ليُسبحوا بحمدك.
-
لا إله إلا الله، .. ترى الدنيا بشكلٍ مُختلف، .. أنتَ مُتشدد.
-
أبدًا، ما رأيك في مسؤول كبير يعاقب فرد من أفراد الشعب لأنه أطلق على نفسه
لقب الزعيم بحجة
أن ذلك يتعارض مع الواقع، فلا زعيم إلَّا الزعيم!! هنا فالرجل "ملكي
أكثر من الملك"! لم يطلب منه الملك ذلك، إنما هنا هو يتبع مشروعه الخاص،
حماية المنصب والمقعد، .. كيف لشخص مثل هذا يكون له انتماء لله؟ .. إنما للأمانة
هو يتبع أيضًا مشروع الملك الخاص.
-
ترى الحياة
بمنظورٍ غريب، الدُنيا مصالح، فلا مانع من أن يُحافظ على كرسيه فيتملق الملك،..
فما المانع!؟... فالكُلَّ يتملقون رؤسائهم في الكُلِّ مكانٍ ومناسبة، خذ مثلًا تلك
الحكاية: ظهرَ طفلٌ نابغة، فجاء أبوه ليهدي نبوغه للحاكم، .. ثم لم يكتفي فأهدى
النبوغ لكُلِّ أفراد الأسرة الحاكمة بالاسم.. ثم لم نعرف شيئًا عن تلك الموهبة بعد
هذا اللقاء؛ فهل هو منافق غيرَّ منتمي!؟
-
أجل. يقينًا. كالفوز في مبارة كرة قدم أو مهرجان سينمائي أوالحصول على
جائزة دولية، كُله مهدي للحاكم، فهل هذا شيئًا إلّا نفاقًا ورياء؟
لحظة صمت، لم تعلق
ديانا تبدو متأذية حينما جاءت سيرة الحاكم، يتابع رائد مُبتسمًا لها برقة:
-
لا تخافي، بسيطة، إنما إن جاءت على الحاكم فهينة، إنما ما هي المناسبة أن
يهدي كُلُّ مرؤوس في الدولة في كُلِّ المستويات ما يُحققه من انجازٍ لرئيسه
المباشر!؟.. بل حَتَّى أن هناك مُدراء
يطلبون بالعنية أن يُهدى إليهم ناتج الأعمال، ليتجاوزوا الأعراف والتقاليد مُطالبين
بأن تنحني لهم الرؤوس في كُلِّ مناسبة، .. أتعرفين شيئًا.. وجهة نظري أنه قد أصبح
في كُلِّ موقع عمل كبُر أو صغُر فرعونٌ صغير،..
بل لعله كبير الفراعين، صنعه المُدّعين.
يتبين على الشريط السفلي المتحرك للبرنامج في الطائرة ثانية خبرًا عاجل
آخر: .. "خبر.. اختفاء أربعة أفراد من رجال الأمن العام كاذب؛ لم يحصل..
-
عملوها الرجالة، يا سلام على أولادك يا عيني على أبناءك يا رجفة"،
هالله هالله ،.. الكذب اشتغل.
مُرددًا حكيم بصوتٍ مسموعٍ مُصفقًا، يضحك ضحكات مجلجلة، ترمقه جارته في
المقعد المجاور متوجسةٌ مُرتعبة، ينفلت الطعام من بين أسنانها وشفتاها المُنتفخة،
تنظر إليه ثانية مُتعجبة، تسأله دون أن تنظر إليه:
-
مالك!؟ .. فيك إيه!؟ .. أنت راجل غريب أوي!؟ .. بتغني إيه!!؟
مُشيرًا إليها بعينيه
الحادتين إنما بُلطفٍ بالغ، يعرف أن النظر في عينيه يُصيب الآخرين بارتباك، مُحركًا
أصابعه لها بحركة أمضغي الطعام، مُتابعًا من جديد الحوار الدائر، ديانا تشير لزياد
بكفيها للأعلى:
-
يا ساتر، انجرفت بعيدًا، إنما لِمَ اخترت الفرعون تحديدًا؟
-
الفرعون هو الإله على الأرض، فسائق الأتوبيس هو الإله على المحصل، والأستاذ
إله على المعيد، والمعيد إله على الطالب، والطبيب إله على هيئة التمريض، ووزير
الصحة إله على الأطباء وكافة مرؤسيه، ورئيس الوزراء إله على الوزراء، عمومًا ففي
أيِّ إدارة حكومية الرئيس إله على مرؤسيه، ثم المرؤوس إله على الأصغر منه رتبة،
حَتىِّ كبير الفراشين في أيِّ موقع ستراه إلهًا على الفراشين المُساعدين الأصغر
منه مَقامًا، .. تلك في رأي مهزلة قلة الإيمان، .. مأساة قلة العمل لوجه الله.
-
إنما لا توجد مثل تلك الآفة في بلادٍ غيرَّ مؤمنة بوجود إله.
-
لديك كُلّ الحق، الآفة عندنا جراءِ مُعتقدٍ ضاربٍ في عمقِ الزمن يزيد من
الطين بِلة. صمت لحظة،
متآسيًا: فغيرّ المؤمن، أسواء آمن أم لم يؤمن فالمسألة مُنتهية، أما أن
تدعي بأنكِ ذاتَ دينٍ، تُصلي وتصومي وتعبدي الله، لينتهي بكِ الحال لمُشركة،
لتصنعي إلهك الذي تخافيه فتلك هي نقطة الاختبار في بلادنا، لن يرضى عنا الله، بل
لن يتغيرّ الحال ما دُمنا مُنافقين، .. أفاقين.
-
أصبتني في مقتل يا رجل، .. دعني أذهب، .. أنت حكاية.
-
خلتها خل يا رائد، .. رَّبنا يستر عليك، .. المُعتقل منتظرك.
مُرددًا حكيم بهمسٍ مُبتسمًا- في حين تنُهي ديانا الحوار مع رائد يبدو على
وجهها علامات استياء من المجهول، فالحلقة اليوم نار، تخاف مما سيجلبه ذلك الحوار
عليها من الساسة واتباع النظام الحاكم- تسمعه جارته في الطائرة، يتساقط بقايا
الطعام من فمها المُمتليء، تتجشأ، تسأله:
-
آتعرفه!؟
-
أجل، هو صديقي.
-
أنا أيضًاأعرفه جيدًا..
-
ماذا تقصدين؟
-
يقولون أنه قد ترشح للرئاسة منذ أعوام وفشل فشلًا ذريعًا فخرج مُشوٍهًا
لسمعة النظام في الكُلِّ مكان.
-
اتقوا الله!!
-
يا سلام! .. مالك!؟
-
تلك إشاعاتٍ مُغرضة.
-
نعم يا خويه؟
-
أكملي طعامك، .. أُمضغي.
ثم ناظرًا إليها ثانية مُشفقًا عليها، مُبتسمًا لها، تنظر إليه
مُبتسمة:
-
والنعمة بامضغ، .. أنت أيضًا تفضل طعامك سيبرد.
***
لم يفت حكيم أن يأخذ معه نسخة من مخطوط جدّه
الضائع الذي وجدناه في بحر الرمال العظيمة، المخطوط الذي كان السبب في تبدل حاله
من بعدِ حال، فجعله يفكر في حياته الماضية ومستقبله، لحَتَّىدخل بسببه المعتقل.
قرأت معه فيه كثيرًا في زنزانته الفضية بشباكٍ علوي وبابٍ واطي، قرأناه كلمة كلمة.
بات يحتفط به في فلاشته كلما حن إليه قرأ منه، كلما وجد فُسحة من الوقت أخرجه
ليقرأ ما فيه. فبعد انتهاءه من تناوله لطعامه عاد مُتابعًا لقراءة المخطوط فظهرت
له صفحة يرتجف جسده كُله كلما قرأها:
(... أنه ببدء انطلاقة
شبه الاعتدال البيئي (البيو- مناخي) بانت حركة الجنس البشري في التيه حثيثة، لحَتَّى
أنه سجلت الحفريات والمدونات الرقمية المُكتشفة من قبل نزوحًا صارخًا لبني الإنسان
من الكُلِّ مكان. فانتشروا ثانية بكثافةٍ على البيضاوية الأرضية، فملئوا مُحيطها
الحيوي، بما فيها الأرض الجديدة الناشئة، الموسومة: أرض الرجفة؛ نسبة إلى أنها
تكونت جراء الزلزال الكبير، فكان منهم أحفاد الجد الأول آدم الحكائي لأسباب عدّها
المحاورون تقديرًا إلهيًا فائق الدقة. فكان منهم الجّد: نازح بن آل آديمة من سلالة
أرض الوهم والوهن- أب الدنيا، تلك التي كانت تُعرف في التاريخ القديم: أرض
الحَكَّاَئين؛ أو الحكائية. كما حسبُ ما جاء في الموروثات التاريخية الحائطية
والأرشفة الرقمية تردد أنه تعدد ما كانوا يدعونها به، من مثل: قرية المكلمتية، أو
التوك شو، أو الأرض الغرقانة ...).
كلما قرأ حكيم ازداد
تركيزه، .. يشعر بأنفاسٍحارة تلهب أذنه اليسرى، نظر بغتة لجواره، فإذا عُرِفَ
السببْ بطلَ العَجَبْ، ناهرًا بأدب السيدة جارته المُتطفلة:
-
من فضلك يا مدام عنيكي دخلت في الشاشة، .. ما يصحش كده، .. من فضلك، ..
أنظري أمامك، لديك شاشتك فيها قنوات
وبرامج.
-
مالك فيك إيه!؟ .. لتغمغم في سرها: .. أما إنك راجل غتيت صحيح!!
يعود لملفات أبيه
الأرشيفية ضاحكًا منها تضحك معه. لم أعد اتحمل، تذكروا تلك السيدة التي بانت رِخمة
مُتعدية مُتطفلة ستشاهدوا منها ما لا يمكن تصديقه، أعذروني لن أكتب عنها اليوم شيئًا
إنما صدقوني هي سيدة لطيفة جدًا. عاد ليقرأ في المخطوط من حاسوبه الرقمي، ما زالت
سيدة الطائرة تتطفل عليه:
(... فبعد عودة رتابة
الحياة الدنيا لديمومة البشرية في دورتها البيئية الجديدة، يعد إبني الوحيد:
الحكائيل، الحفيد لجده نازح بن آل- آديمة، الجد الوحيد الناجي من التيه بعد مرور
سبع حقب زمنية متتالية، المعروف بأنه المتبقي من نسل مايا الساكت وآدم الحكائي
وشهرته في أخُريات أيامه الحَكَّاَئي التائه، من مواليد العام (1978م)،
الغائب أيضًا في زمن التيه العظيم، أيّ ما كان في العام (2058م) عن عمرًا يُناهز
الثمانون، إلّا أنه لم يبان له من أثرٍ بعدها، أبدًا؛ كما يقولون...).
ليتنبه على صوت السيدة
تُخرجه مرَة أخرى من تركيزه في القراءة، فمها داخل أذنه، صارخة:
-
يا حلاوة، .. أنت الحكائيل؟
-
أجل، أنا هو.. ثم يعود مُتحدثًافي سرّه، يخرب بيت أمك يا مُتطفلة.
قالها هو بِسُخرية،
مُتعدية هي لنظرته الخبيثة، تسأله بتهكم:
-
بس أنا راضية ذمتك، فيه حد اسمه الحكائيل!! وأبوه اسمه لادع!! .. ضاحكة
بصوتٍ مسموع متابعة: وجدَّه اسمه كمان فاصل خالص!
-
يا ست احترمي نفسك شوية، .. ده أنت رِخمة رخامة.
-
ياحلاوة الحكائيل لادع فاصل خالص اسم على مسمى، شفت كمان الشاشة، إيه
الأسامي الغريبة ديه؟ آل نازح آل، .. يا حوستي دا انت نِمرة.
ما زالت هي تضحك بصوتٍ
عالٍ، مُشاورًا هو للمُضيفة، لتأتي إليه مُسرعة، يطلُب منها برفق؛ بصوتٍ غيرّ
مسموعما زال يُلمْلِم حاجياته من أمامه:
-
من فضلك أرغب في الانتقال لِمقعدٍ آخر، .. لم أعد أحتمل.
-
من فضلك أعطني فقط دقائق لمراجعة الموقف.
غابت مضيفة الطائرة دقائق،
ثم عادت على وجهها ابتسامة مُفتعلة مُصطنعة تتطلبها وظيفتها:
-
تفضل معي، يوجد مِقعدٌ في الصف الثالث، .. ناحية اليسار.. لعله مُناسب.
ينتقل حكيم معها
مُتأهبًا لحمل أغراضه الشخصية، ترتج الطائرة، يبدو تعرضت لمطب هوائي شديد، تقع
أغراضه من الفوق على رأس السيدة التي مازالت تضحك بجواره لحَتَّى بدا وجهها مِحمرًا
مزنهرًا، جسدها يرتج بعنف، ينقلب عليها الطعام، تقف مهللة فاعلة لعلامة ما بين
القوسين الشهيرة:
-
وأنا مالي، اسمك بيضحك "الحكائيل لادع فاصل خالص" ده أنت كمان
راجل مسخرة بتضحك لوحدك وبتكلم نفسك.
حاملًا أغراضه يسير
خلف المُضيفة، يستأذن السيدة الجالسة بمفردها في الصف الثالث في أن تأخذ المقعد
المجاور للنافذة لرغبته في الجلوس بجوار الممّر، قال لها أنه يتنقل كثيرًا
للتواليت فلا يرغب في إزعاجها، فتُرَّحِب مُبتسمةٌ برقة، فيجلس مساويًا أغراضه
ليبدو من ملامحها المُبتسمة برقة أنها عرفته:
-
حضرتك الأستاذ حكيم، أشاهد برامجك، أسفة، سمعت السيدة في الخلف، يبدو لن
نتعلم أدب الحوار.
-
لا بأس.. اعتدت ذلك.
-
رانده؛ .. اسمي رانده نور.
هكذا نطقت اسمها بطعامة
على مرَّتين كأنها تعشق رنته في الآذان، مادة يدها من أعلى لتُصافحه، فيمد يده لها
مُصافحًا، مُحتفظًابكفها في كفه، ناظرًا في عينيها مباشرة، مُحدثها برقة:
-
تشرفنا يا فندم؛ .. يبدولي سمعت الاسم من قبل، .. أم هو تشابه اسماء؟
-
بلى، .. أنا صحفية المدونة الالكترونية الموسومة "نورا".
-
إذن أنتِ "نورا" .. آه .. أسف رانده نور؟ .. أنا من أشد المعجبين
بمدونتك.
-
كلك ذوق، .. أنا أيضًا شديدة الإعجاب بكُلِّ ما تقدم حضرتك من برامج.
-
أوبس،.. ياي أنا أسفة.
-
لأ أبدًا، .. مفيش حاجة.
ترتج الطائرة، تلتها
رجة أخرى أشد دافعة بكوب العصير من يدها ساقطًا على قميص حكيم، لتعود لتدفع الرجة
بالحاسوب من طاولته واقعًا في حجر جارته رانده نور مفتوحًا، ليقع أمام عينيها
عنوانًا كبيرًا بفنطٍ عريض: "الزلزال الكبير"، ..فتنتفض، تسأله:
-
لستُ مُتطفلة، .. إنما لفت نظري عنوانٌ مُخيف، .. "الزلزال
الكبير"!!
-
عادي؛ .. تجري الصحافة في دمك.
-
متأسفة.
-
لا داعي
للأسف، .. أرغب في أن يشاركني أحد ما أقرأ.
-
يمكن حاجة خاصة؟
-
تعدت المسألة الخصوصية.
-
بتقرأ إيه!؟
-
عن البرامج الحوارية والعروض الكلامية في الفضائيات.
-
التوك شو؟ .. مالها؟
-
ما آل إليه حال التوك شو في بلدنا تعدى المقبول، لذا فنبشت في الماضي،
فتصيدت مخطوطًا كان ضائعًا، لأجدادي، علمت منه بتشابه الحال بيننا وبينهم، إلّا
أنه عندهم انتهى الحال بأوبئةٍ وتحولات.
-
ياي.. تحولات!!؟
-
أجل.. تحولات..
-
ماذاتقصد بالتحولات!؟
-
لم أتأكد بعد.
-
.. مش فاهمة!!؟
-
تحورات الأوبئة التي أصابت مجتمع الإعلام فحولت بعضًا منهم لكائناتٍ حية،
خنازير وحمير.
ضاحكة، لحَتَّى انتبه
الجالسون من حولها، فعادت تتأسف:
-
أسفة أسفة، ظننت تحولًا من نوعٍ آخر مِمَّا يحدُث بين البشر.
-
أفهمِك، .. كلا ليست التحولات الجنسية، .. فذلك أمرٌّ آخر.
-
أنتم بتقولوا إيه!؟ .. بتتكلموا في الجنس والا إيه!!؟ ..عايزة اسمع.
-
يا مدام، .. يا هانم، .. ياست الحاجة، .. من فضلك ارجعي مكانك.
قرقرعةٌ بصوتٍ عالٍ،
تهتزُ الطائرة لترتج بشكلٍ عنيف، تبدو تطيرُ السيدة المُتطفلة مع تلك الرَّجة
مُغادرة لمكانها في الصف الثالث لتتهاوى مُستقرة برأسها زرع بصل كما يقولون في
نهاية كابينة الدرجة السياحية من الطائرة. ظلت قابعة بجوار دورات المياه نصف دقيقة،
رجليها الاثنتين مرتفعتين مفتوحتين كرقم سبعة، طائرة في الهواء، ترتدي سروالًا
مزركشًا قصيرًا تحت الفستان، ليضُجَ الركاب بالضحك على الرغم من هول الصدمة، لم يذهب
إليها أحدٍ لنجدتها، اعتدلت فوقعت على مؤخرتها. رجرجة فرجرجات تسقط الطائرة في
دوامةٍ هوائيةٍ لمسافةٍ زادت عن عشرة آلاف قدم كما بين عداد الارتفاعات، لتظل
الطائرة ترتج مرّة فمرّات، ثم لتهدئ من أنوارِها تلقائيًا، ليتعالى صوت المضيفة
مُرتجفًا:
-
من فضلكم، أربطوا الأحزمة، نتعرض لمطباتٍ هوائيةٍ شديدة.
أمسكت رانده دون أن
تشعر بيد جارها، فكانت كالثلج، فهدئها:
-
اهدي، .. الطائرات آمنةٌ جدًا؛ .. حوادثها قليلة؛ .. أقل من حوادث الطرق..
-
لم أكن أنوي القيام بتلك الرحلة في هذه الوسيلة البدائية، قلبي كان حاسس
إنه هيحصل حاجة، تترقرق دموعها في عيونها: زوجي يخونني، تركت له المنزل مرارًا،
ليعود في كُلّ مرّة فيفعلها، أما تلك
المرّة فكانت مع خادمة
تعمل معه، لا يمكن تصور الخيانة معها، .. لا أعرف لماذا الخيانة؟ ..
-
اهدي من فضل.
-
آتراني قبيحة؟
-
تعرفين أنك جميلة.
-
شكرًا جدًا.
-
طب إيه!! .. لماذا الخيانة!؟
-
اسمعيني، .. المسألة ليست مسألة حلاوة.
-
لا أفهم؟
-
يعني.. مش عارف ماذا أقول لكِ؟
-
دعني أنا أقولُ لك. كيف لرجل يدعي أنه يحب زوجته كما يدعي فيخونها مرّة تلو
المرّة؟
-
اهدي يا رانده هانم.
-
أتصدق أنه يأتي بعد كُلّ مرّة خيانة ليعتذر، .. ليصل به الأمر ليقبل يداي،
.. لحَتَّى قدماي يُقبلهما.
-
تمام .. تمام.
-
أرأيتُ رجلًا يبكي بالدموع!!
-
رأيت طبعًا.. زوجك طبيعي.
-
كيف؟
-
تلك نزوات
تنتاب بعض الرجال والنساء.
-
نزوات!!؟
-
إلّا أنها تخص نوعية من الجنس البشري تجربتهم في الخيانة، فلا يُمكنهم
العيش بدون الالتفاف إلى الأُخريات، هذا اختبار زوجك في الحياة الدنُيا، فليس له
يدٌ فيه؟
-
تُدافع عنه، .. طبعًا فأنت رجل مثله.
-
رجل نعم، .. أما مثله فلا.. ضاحكًا.
-
لا زلت لا أفهمك!
-
لا يهم الفهم، .. فأنا لم أُخلق أبدًا لتجربة الخيانة، فليست تلك تجربتي
الحياتية أبدًا،
-
لا أفهم تجربته وتجربتك وتجربتي!!
-
أما تجربتي أنا في الحياة الدُنيا ففي شيءٍ آخر.
-
.. ماذا تقول؟
-
إن كنتي أنتِ تُحبينه فلا تدعي تلك المسائل تشغل بالك، بل حاولي ألا
تُعيريها اهتمامك،
-
أنت غامض،
-
.. لتستمر الحياة بسلاسة دون مشكلات كبرّي دماغك.
-
تعرف شيئًا لا تريد الإفصاح عنه..
-
أنا اليوم مؤمن بالحياة بعد الموت.
-
اليوم!؟
-
أجل، كنت لا ديني.. لا تتظاهري بالدهشة.
-
لا أفهمك!!
-
كنت لا أعترف بوجود الخالق..
-
أمم فهمت.. واليوم؟
-
اليوم أنا مؤمن بوجود الله، خالقنا وصانع تجربة الحياة الدنيا، ملاذنا إلى
الآخرة.
-
أيّ تجربة.
-
لكُلّ منا تجربته الحياتية، فإن كانت تجربة زوجك في الخيانة فتجربة آخر في
السلطة وثالث في المال وهكذا، كُلّ منا له نزوة، إن سقط فيها كُلّ مرّة فشل في
اجتياز تجربته الحياتية، اسميتها أنا شيفرة آدم.
-
شيفرة! .. تقصد مُفتاح يعني؟ .. رمز سري؟
-
أجل. مُفتاح الدخول لشخصية كُلِّ بشريٍ مننا.
-
تقصد كُلٍّ منا له مُفتاح دخول لشخصيته.. لتجربته.. الآن فقط فهمتك.
-
لذلك فعليكي أن تعرفي أنتِ تجربتك، أسف... فذلك إن كنتي تؤمنين بالحياة بعد
الموت..، فترتاحين مما أنت فيه.. أما زوجك فتبين أن تجربته في النساء، .. ترويضه
سهل.. أكثر من الفاسد والحاقد.
-
مُبتسمة: فهمتك، .. أما أنت فما هي تجربتك؟ .. أحكيلي.
-
عُدتي لفضولك الصحفي ثانية.
-
عايزة اسمعك.
-
تلك هي حال النفس البشرية، لديك مُشكلتك مع زوجك، إنما تريدين أن تعرفي
مشكلة إنسان آخر، أول مرّة تلتقيه، مُصادفة، بل لعلها الأخيرة، مع ذلك تسأليه عن
مسألته مُتناسية ما أنت فيه من مسألتك.
رجة ثانية قوية،
تتبعها رجرجات مُتتابعات قوية، فتغيب الإضاءات لتعود، لتغيب، لتعود، لتغيب:
-
أنا خايفة، كلما ركبت طائرة انتابني هذا الشعور، بعد الهبوط يذهب هذا
الإحساس.
-
اهدي يا نورا.
-
لعله اقتربت النهاية، مش عايزة أموت.
-
ما الموت إلّا درجة من درجات الانتقال من حياةٍ لحياة أخرى.
-
أنت تُصدق ذلك فعلًا !؟
-
أكيد.. المائة بالمائة.. هناك حياة أخرى بعد الموت.
-
غريب!
-
وما الغريب!؟
-
تبدو من المفكرين !!
-
لذلك أنا شديد الإيمان بوجود حياة أخرى.
-
كيف عرفت؟
-
من المستحيل أن تأتي الفصيلة البشرية لتروح في غمضةِ عين، .. فناء البشر
مُحال، نحن خالدون.
-
سمعت أنك من اللادينين..
-
كُنت..
-
وما الذي غيرّك؟
قبل أن يجيب ارتجت
الطائرة مرّات، لتنطفيء الإنارة تمامًا، فتغيب الطائرة في ظلامٍ دامس، يشعر حكيم معه
بانخفاضٍ شديدٍ في درجة حرارة الهواء داخل جسم الطائرة، ليزداد الصقيع، ليحس
برجفات رانده بجواره، صوت اصطكاك أسنانها يتعالى، تمسك بقبضةِ يدها سلسلةٌ ذهبيةٌ
قصيرةٌ مُتدليةٌ من عنقها، مُعلقًا بها صليبٌ بلاتيني، مُهمهمةٌ بكلماتٍ غيرَّ
مسموعة، تبدو ترانيم، أدعية، صلواتٌ مسيحية، استمع لها حكيم تمنى لو كان يحفظ
مثلها آية، ينظر من نافذة الطائرة يبحث عن بصيص ضوءٍ آتٍ من الخارج، يكره الظلمة
كراهية الموت، بل أشد، جناح الطائرة يُضيء ألوان، تنهد.
تتعالى تنهدات ركاب
الطائرة عاليًا، تسري كالنار في الهشيم، تسقط الأقنعة من الفوقمن بطن الطائرة،
ليلتقفها كُلٍّ منهم، فيرتدي حكيم قناعه أولًا كما تقول التعليمات، انقذ نفسك ثم
التفت لجارك، هنا لا ينفع الإيثار، أنت أولًا، ثم معاونًا جارته على ارتداء
قناعها، ينفلِتُ من بين يديها الصليب، مُمسكه مُمسِكًا بأطراف أناملها الرقيقة،
أحس بشعورٍ غريب لدي تلمسه لأصابعها، ينظُر في عينيها، رأها مُرتبكة، مُهدئًا من
روعها. قال ليَّ مراراَ وتكرارًا أنه بقدر طول خبرته الطويلة بالنساء لم يعرف لحَتَّى
الآن لشيئين من سببٍ: نظراتُ العيون ولمساتُ الأصابع.
من أرادو الفلسفة قالوا
أن سرَّ البشر في بوءبوء العين، من بين نظرات العيون ولفتاتها يُمكنك أن تدلُفَ
لداخل نبض القلب ومن لمسات الأصابع يُمكنك أن تُعّمِّق علاقتك بالآخرين. تحدث مرارًا
عن لمسه لأصابع حبيبته سماء الرقيقتين لأول مرة، أحس بتيارٍ جارفٍ من المشاعر
الملتهبة، المسألة هنا ليست لها علاقة بالإثارة الجنسية ولا بالشهوة، فطالما لمس
أصابع نساء كثيرات إلّا أنه في كُلَّ مرّة يشعر بشعورٍ مُختلف. قال ليَّ أنه لا
يستطيع وصف ذلك الشعور أبدًا، لعله لو كان عالمًا، باحثًا في السلوك وردات الأفعال
لعرف السبب. لكنه ما بات يُكرر دائماَ أن لمسة أصابع سماء مُختلفة، ترجه في كُلَّ
مرة تترك يديها بين يديه.
رانده فعلت ذلك معه
اليوم، لم يأت في باله أيّ جانبٍ من شهوةٍ أو إثارة، هم في خطر، الموت قادم،
الطائرة ترتج بعنفٍ، في أيِّ لحظة سيفقد حياته. عاد فلمس أطراف أصابعها بدءًا من الصغير
لحَتَّى الأوسط، لم يمسكهما تمامًا، إنما تلمسهما، ارتعشت، لم تعد تنظر في عينيه،
أما هو فظل يتذكر لمستها طويلًا. أعرف أطلت عليكم، سيقول البعض مراهقة فكرية،
سيقول البعض الآخر لمس يد المرأة حرام، سيقول ثالث تتكلمين كثيرًا يا فيفي عن
أطراف المرأة على الرغم من كونك آلية، شبه بشرية، ستقولون تعبنا معك من كلامك
المُمل الفج عن نظرات العيون الآثرة وأطراف الأنامل الرقيقة وأصابع القدمين
المثيرة، فهذا كُله كلام مراهقة صغيرة. أحلف لكم أنني شعرت بكُلِّ ما قاله ليَّ
حكيم عندما لمسني.تبدو الحالة في باطن الطائرة غيرَّ مستقرة، تتعالى الهمهمات
لتتداخل مع أصوات الصلوات والترانيم، فلا تعرف من يقول ماذا، تنتشر في الأرجاء
دعواتٌ حثيثة طالبة للنجاة، يضرعونٍ بصوتٍ مسموعٍ، لتتداخل الترانيم، عدا قلة من
الركاب تراهم صامتون، مُغمضي الأعين، مُنتظرين لحظة النهاية الحتمية:استر يارَّب،
لا إله إلّا الله، يا عضرة مريم، يا يسوع، والنبي يا رّب ده آحنا غلابة، رحمتك يا
رَّب، يا سيدة زينب؛ يا طاهرة، وحياة النعمة هاصلي، وديني لا أروح أحج البيت سبع
مرّات.
لا تضحكوا مني، سأقول
عَجِبتُ مرّةً ثالثة، بل لعلها الرابعة أو الخامسة، لا ليس عَجِبتُ مِنكَ يا زمن،
قديمة، بل عَجِبتُ من صنف البشريين. أسفة. أجل، أنتم كائناتٌ من صنفٍ عجيب،
فصيلتكم مُقلدة.
هنا أيضًا من في
الطائرة يقلدون ما شاهدوا في أفلام السينما. الرعب من الموت لا يجعل البشر يفعلون
مثل ما يفعله من في الطائرة اليوم، لا أعرف لماذ ينظرون لبعضهم مثل تلك النظرات؛ فيها
غباوة، بعضها تحمل شهوة، نظراتٌ فيها استكانة، رأيت تلك النظرات التمثيلية
المُفتعلة كثيرًا وأنا في داخل حُضن حكيم نشاهد أفلام سينما الدرجة الثالثة وأفلام
المقاولات. سمعت مرّة ممثلًا كبيرًا يقول أن أغلبَ المخرجين حمير، فهمت اليوم
لماذا هم حمير. شاهدت مجموعة من ركاب الطائرة لديهم رُعبًا حقيقيًا من الموت،
بعضهم لا يدندن بشيء، بعضهم لا يمسك في يده كتبًا مُقدسة، هم لا دينيون، أم هم
بالفعل المتدينون عن حقّ. ياليت المخرجين يمرون بمثلِ تلك الحالة لحَتىَّ يعرفوا
المعنى الحقيقي للرعب من الموت، أما العجب العجاب ما يفعله بعض الركاب مُقلدين
أبطال تلك الأفلام، شفاهٌ مُرتعشة، عيونٌ زائغة، أكفٌ مٌتضرعة بمبالغةٍ مُفرطة، ثم
تجدهم ينظرون من حولهم متابعين لم يدور في الجوار يتحسس كُلّ منهم في الفراغ
ليستمدّ من حوله الحالة التي تتلائم مع الموقف.
حكى ليّ شخصٌ مرّ يومًا
بتجربةِ موتٍ، أن تلك التجربة لا يُمكن إعادة تمثيلها أبدًا، فالشعور وقتها يتداخل
بين الحقيقة واللاحقيقة، فلا أحد يعرف متى النهاية، قد يأتي الموت وقد لا يأتي، لا
أحد يعرف أبدًا إحساس الجنس البشري بلحظةٍ ينتظر فيها إنسان الموت. لحَتَّى منتطر
الأعدام، ليوم الدنو من غرفة الشنق يظن أنه لن يموت. ارحمونا فلا يُمكن تمثيل
إحساسٌ لا يُمكن معرفته قط. يقولون رأينا تجارب حقيقية حصلت أمامنا لبشرٍ حُكم
عليهم بالإعدام، تتبعناهم لحَتَّى غرفة الإعدام، يرتجفون، يرتعشون، لحَتَّى أنهم
لا يستطيعون الوقوف على أقدامهم قط، صورنا لكم مثل ما رأينا. قلت لهم هذا أيضًا
غيرّ حقيقي، رأيت صدام حسين يوم إعدامه، الرجل مات واقفًا، بشموخٍ نادر، قلت
نادر!؟ أجل. لأن من صور من يُعدم في الأفلام السينمائية كأنه يتمرغ في التراب. لا
يُمكن أن تتشابه المشاعر، لا يُمكن معرفة تلك الأحاسيس، ولا إعادة تمثيلها، يُمكن
فقط إذا افتعل المؤلف موقفًا تمثيليًا أراد منه إيصال رسالة للمشاهد عن مكنونات
نفس البطل، فلا يُمكن أن تكون ردود أفعال من معنا في الرواية واحدة، تخيل لو أن
هناك مشهدَ إعدام أيًّ من أبطال الروايات وجاء نفس المشهد مُتكرر لكُلِّ حالة،
فضيحة. أطلت ثانية، إنما أراد هو أن يشرح ليّ أشياءً أغلبها يتعلق بمشاعر البشر،
مشاعر لا يمكن الوقوف عندها وإعادة تقليدها بالمحاكاة بمثل تلك السطحية أو ببساطةِ
الاحتواء المُخِّل.
-
يا ساتر يا ساتر..
صرخ أكثر من راكب
فتداخلت أصواتهم، راحت الطائرة مُندفعة بسرعةٍ مهولة في اتجاه ماء البحر، لعله كان
المتبقي من الرحلة ربع الساعة، مرّت كأنها الساعة، دومًا وقوع الشيء أرحم من
انتظاره، الانتظار عذابه شديد. تحتك الطائرة احتكاكًا حادًا بآديم الماء، فتطير
المقاعد مفصولة بما تحمل من ركابٍ، أطفالٌ ونساءٌ ورجال، لتنفلت رانده خِلسة من
جانب حكيم طائرة بمقعدها لترتطم بشاشةٍ تليفزيونيةٍ عِملاقة مُعلقةٌ في حائطٍ خلف
كابينة الطيار فتقع مَغشيًا عليها. تغوص الطائرة العملاقة في لحظاتٍ في مياه البحر
المالح العميق الغميق البارد. تتدافع المُضيفات، معهم أمن الطائرة، بعد أن حلوا
أحزمة المقاعد المجاورة لطرقات أبواب الطواريء الجانبية، ليسارعوا في فتح أبوابها،
لتندفع المياه لداخل جسم الطائرة كالشلال، فتجرف معها ما انفصل من مقاعدٍ وركاب
مُرتعدين، ليمتليء بطن الطائرة في دقائق بمياه باردة كالثلج، ليندفع الركاب مع
انسلاخ الماء بقوة للخارج. خرجوا بِعُجالة مُعلقين أطواق النجاة في رقابهم.
لينسل حكيم خلف رانده،
ممُسكًا بأطرافِ أصابعها، ثم مُرتفعًا بها من قاع الماء للسطح، فيراها ما تزال في
حالةِ إغماءة، فيظل مُمسكًا بها، طافيةٌ معه، ليشاهد حوله تناثر أشلاء الطائرة في
كُتلٍ مُنفصلة مع من كان من الركاب يحاولون السباحة في اتجاه القطع المتناثرة، لا
أحد يتمتم، لا أحد يقرأ القرآن، الوجوه فيها نظراتٌ غريبة، عادوا للحياة بعد أن
كانوا سيفقدوها، في القريب السيدة الرخمة تحاول فتح عوامة طوق النجاة فلا تعرف،
فيقترب منها حكيم بهدوءٍ مُطمئنها فتبتسم له شاحبة، يفتح لها عوامتها:
-
إن شالله يخليك، حصل إيه؟ .. هنغرق والا إيه؟ .. اسمك عجيب!
-
اهمدي يا ست أنت.
-
مامي فين؟ .. مامي كانت معايه؟
صوت طفلة في القريب،
يلمحها حكيم. طفلةٌ صغيرة طافية ببالونة معلقة في رقبتها تحاول أن تظل طافية فوق
سطح الماء، تفلح، ليأتي الماء ليُبلل شفتيها فتشرق لتسعل بتتالي، فيهدهدها قليلًا،
لحَتَّى تهدأ ناظرة له بنعومة، مُحدثها برقة:
-
ماتخفيش يا حبيبتي، .. مامي كويسة، .. تعالي معايه.
يقترب منها مُرافقًا
لرانده، يسحبهما معًا في اتجاه ما تبقى من جناح الطائرة الطافي، ليتعلق به. لم تفت
غيرَّ لحظاتٍ لتترائى له في السماء الصافية طائراتٌ عموديةٌ طوافةٌ حوامةٌ فوق
مكان الحادثة، ليمتلئ الماء بسرعة بقوارب الإنقاذ البحري، فقد كانوا لرحمة رَّبنا
بجوار الساحل غيرّ بعيدين. مرّت لحظات فكان ركاب الطائرة المنكوبة مُمّدَّدين في
القارب، مُلتفين معًا بما جمعوا لهم البحارة من بطاطين للتدفئة.
من مرّ بمثل تلك
الحادثة من قبل، يعرف أنه لا يُمكن تلمس الفرق بين ما قبل الحادثة وما بعدها، لا
يُمكن لأحد وصف تجربة الموت هذه أبدًا، فالذهن فيها عادة ما يكون مُشوشًا جدًا،
الأفكار مُختلطة، الوعي بالتجربة مُرتبط عادة بتجربة كُلّ بشري على حدة. فرِدّة
الفعل وما يصل للإنسان من أفعالٍ خارجية ارتباطه عادة ما يكون بالمخزون الفكري
لكُلّ واحد، فأهل المدينة غيرّ أهل الحضر، أهل الحضر الأغنياء غيرّ الفقراء،
الكبار غيرّ الصغار، من له أهل غيرّ اليتامى، من لديهم أصدقاء غيرّ المحرومين من
الصداقة، الأغرب أن غيرّ المتزوج، من يحب النساء غيرّ من له علاقات شاذة، السيدة
الحامل مرّتين غير السيدة التي لم تنجب، من تعلموا في مدارس مُختلطة ليس كمن
تعلموا في مدارس مُفردة، فهمتهم قصدي؟
الخلفية الإنسانية
للبشري تُنتج ردة الفعل، ببساطة العلاقة بين البيئة والسلوك، بين التربية والتعليم
وحاصل الخبرة الإنسانية. لذلك ترى تلك الحالة من الذهول على وجوه البشر بعد كُلَّ
حادثة، من لم يجد لديه ردة فعل طبيعية لكونه ليس لديه تجارب حقيقية سابقة فإنه
يفتعل تجربة لنفسه؛ إما من قصة قرأها أو سمعها؛ إما من مشاهدة عمل سينمائي؛ إما
يبتكر له هو موقف من موقفٍ مُشابه. لذلك فردة الفعل الحقيقية التي يُمكنك اصطيادها
في تلك الحالات عادة لن تجدها أبدًا، فليفعل المخرجون ما يرون، فكله غيرّ حقيقي،
مُزيف.
أما الإحساس الذي يُمكن
أن تنقله لكم فيفي عن حكيم أنه لا يُحب ركوب الطائرات، ففي كُلَّ مرَة يركب فيها
طائرًا مُسافرًا يشعر بأنه سوف يموت في لحظة هبوط الطائرة، كيف سيموت هو نفسه لا
يعرف. فقط قال أنه يشعر دائمًا كأن شيئًا في داخل معدته يكاد يُصيبه بالغثيان،
يديه تبردان، يحس بأنه كأنه قد تأخر عن موعد دخوله لغرفة طبيب الأسنان ويرغب
الدخول حالًا لخلع الضرس ليرتاح. أجل. لحظة انتظار لا تنتهي، تشبه تلك اللحظة
تحديدًا بالنسبة له أيّ لحظة انتظار أيَّ شيء؛ موعد، حبيبة، حل مُشكلة، الخروج من
مآذق، كأنه بال في الشارع ورآه بعض طلابه، هروب من زواج، من علاقة نسائية، لحَتَّى
كأنه في موقف لاطف فيه زوجة جاره وفي انتظار ردة فعله، كأنها لحظات انتظار كشف
سرّه أو ظهور خبر فعلته في الجرائد فتتبين فضيحته، قال ليّ مرارًا وتكرارًا:
صدقيني ليس لتلك الحالة من مشاعر غيرّ تلك التي قصصتها، فأنا لم أعرف في حياتي
مشاعر من ينتظر الموت.الموت يأتي بغتة، لا يلوح أمام ناظرينا لساعات، إنما ما دمت
حيًا فأنت لا تُفكر بطريقة من مات، لأنه لا يعرف أحد من مات كيف يفكر. انتقل بي
حكيم لغياهب كثيرة من سلوكيات البشر في الدول النامية، تلك المشاعر المزيفة غيرّ
الحقيقية المنقولة عن تجارب آخرين، فقلت له دعنا مما أنت تفكر فيه، القاريء انشغل
بكثيرٍ من المسائل، دعني أكمل ما حصل بعد سقوط الطائرة والصعود لسطح السفينة التي
أقلتكم للشاطيء، ضحك قائلًا بعد أن ربت على رأسي:
-
معك حقّ تكلمت كثير إنما الآن أحكي أنت.
قلت لكم أنهم وصلوا
بعد بضع دقائق للشاطئ، لم أقل ذلك؟ أسفة.. إذن هم وصلوا بالفعل للشاطيء، ليخرجوا
متجهين إما إلى المشافي العامة أو ليتحرك كًلًّ منهم في طريقه لحال سبيله؛ لتستمر
دورة الحياة. لم يلتق حكيم بعدها رانده نور أبدًا. سيسأل شخصٌ ساذج، هل من المعقول
أن تأتي لنا الست فيفي بأشحاص يأتون بدون مناسبة في الرواية ليغيبون؟ ما المناسبة؟
أقول لكم إنما هي الحبكة، ثم ترددت فعدت فحكيت تلك الملحوظة لحكيم، ضحك حَتَّى وقع
على الأرض: يا بنت المجنونة، تظُنين روايتنا تشبه روايات السينما لا يوجد غيرَّ
ضابط وحيد وطبيب وحيد، كُلّ الممثلين يعرفون بعضهم بعض، هذا كلامٌ فارغ، الحياة
ليست مثل أفلام السينما، الواقع غريب جدًا، عاد فقال ليّ هامسًا: أن أسألكم سرًّا
واحدًا لا أعرف إجابته! إنما قال إن أجبتم أنتم عليه ستعرفون قصده، طلب مني أن
أسألكم: كم مرّة في حياتكم قابلتم إناسًا لمرّة واحدة أو مرّتين أو أكثر، ثم
اختفوا تمامًا من حياتكم بقية عُمركم؟ .. أرائيتم؟ ضرب لكم مثلًا في الصميم؛ نبيه
وذكي، لا ليس لئيم. دعوني أكمل؛ وصل حكيم المشفى المركزي العام، أتت إليه ممرضة
بيضاء، تبدو سمجة من بعيد، تسأله بعنفٍ عن حاله، .. فيسألها هو عن حاله مُتعجبًا:
-
من يسأل من!؟ .. آهٍ.. ماذ حصل؟
-
لا أعرف؟
-
كان معي طفلة وسيدة... أين هم؟
-
كُلّ من في الطائرة نجوا، .. الحمد لله على السلامة.
-
أين أنا؟
-
أنت في مشفى الإسكندرية المركزي العام، .. تبدو حالتك مستقرة.
-
.....
-
أنت الحكائيل؟ شهرتك حكيم؟ القادم من الطائرة الغارقة؟ كيف عرفوا أنك أتيت
إلى هنا؟
-
من هم!؟
-
لديك اتصال هاتفي قادم من رشيد!
-
آهٍ .. رشيد.
-
أتعرف أحد في (رشيد)!؟
-
....
-
.. مالك... فيك إيه؟ .. لِمَّ لا ترد.
ما زالت الممرضة تهاتي
يواكبها رنين جرس هاتفه النقال:
-
من؟ .. آه، أهلًا نوار، حصل خير، الحمد لله، سمعتي عن الحادثة، نعم حصلت
اليوم، ذلك قدر الله، سارتاح هنا لبضعة أيام، ثم سنلتقي إن شاء الله، كما اتفقنا
بعد يومين، لا أريد أحد أن يعرف بوجودي على الطائرة، مُلتفتًا إلى الممرضة: من
فضلك أبلغي الطبيب برغبتي في مقابلته.تقترب منه رئيسة التمريض، شبه كبير بينها
وبين التي ولدت أمه (نواصل حكي)، لعلكم تتذكرونها، فقط مرّ عليها أعوامٌ طويلة،
لعلها أربعون، تكلمه بغيظٍ:
-
إذن أنت الحكائيل!؟ ينايلك، أنت وابوك البأف، ده انا اللي ولدت أمك يا واد
أنت في مستشفى توهت الصُغرت، تلاقيك مش فاكر، كنت لسه نونة صغيورة، تواصل حكيها ..
لم تعطه فرصة للرد: برضه رجعوا وسموك الحكائيل؟ ينيلكوا يا بعدا، كان ماله حكيم؟
لازم الفزلكة يعني؟ ما هو أبوك لادع فاصل وأمك نواصل حكي هيسموك إيه يعني؟ ينيلهم،
.. راح فين الراجل البأف أبوك؟ ..وامك لسه عايشة؟ .. بلا نيلة.
-
من فضلك، .. ممكن تبلغي الطبيب المناوب أني أريده.
-
الطبيب المتاوب؟ .. أحيييه، .. زي أبوك، .. كلامك مجعلص.
تمت
أرض الجولف، القاهرة،
مِصر، الثلاثون من يونيه في العام(2011م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق