جلوريا
قصة
قصيرة
د.سوسن
أمين
تمنيت
لها الخير والسعادة وحياة أبدية سرمدية لا ينغصها فيها شيء مما كانت تلاقيه مني من
دناءة متعمدة وغير متعمدة .. الحقيقة لم تقصر معي بالمرة.. بل مع الأيام زادت في
عطائها.. فهي ظلت دوما كما هي منذ عرفتها منذ اللحظة الأولى.. تلك السيدة الوديعة
مالكة البيت الذي أنتقلت إليه مؤخرا مجبرا
بعد هرب الفاجرة وعدم قدرتي على دفع الإيجار لشقتي السابقة التي كانت في أحد أكبر أحياء
فينا الراقية.
من
يوم فتحت شقتي بقوة البوليس بعد غيابي عن الظهور مدة طويلة وهي التي تعودت رؤيتي
على الأقل مرتين يوميا لتلاصق شقتينا.. ظلت في طبعها معي من دعم ومساندة .. فلا
أقل من أن اقدم لها صندوق من خشب الورد الزهري بمقابض ذهبية وبطانة من الحرير
الطبيعي وورود حمراء وبيضاء تملأ مدخل الكنيسة وتمتد بطول الممر الداخلي والخارجي
إلى أن نصل إلى صورتها ذات البرواز الذهبي وهي في الثانية والعشرين من عمرها ..عمر
الزهور اليانعة والخمائل المزهرة ..
ـــ لكن هذه صورتك على ما أعتقد في نهاية الحرب
العالمية الثانية .
كما
كان يحلوا لي أن أردد أمامها لإغاظتها
كلما وقعت عيني على تلك الصورة الفاتنة موضوعة في صدارة حجرة المعيشة..
ــــ
لا .. هذه في أواخر السبعينات
ــــ
يا نغة .. عيب عليك ..
أة يا حبيبتي يا جلوريا ..أقولها الآن بملئ الفم
والقلب والعقل والأرادة الحرة ، بدون أن تدفغني هي دفعا لهذا.. نعم حبيبتي وحبيبتي
جدا.. ولم لا .. ألم تنتشلني من بئر الضياع في هذه البلد الغريبة بأهلها.. البعيدة
بطبعها.. العجيبة بما لها وما عليها على عقل من هم مثلي ممن تربوا في منقوع القرى
المصرية بعد هرب من وهبتها أسمي وولدي
ومالي المجموع بدمي الحي بعد رحلة كفاح مضنية ..
جئت
النمسا غر .. بريء..مسكين لم أتجاوز التاسعة عشر .. لا مسكن ولا مأوى ..بالمبلغ
الذهيد الذي كنت أحصل علية من ادارة البعثات والذي كان يرسله لي والدي كل فترة كنت بالكاد أستطيع توفير وجبة واحدة لمعدتي
المغتربة عن اللحم لمدد طويلة لا أكاد
أحصيها..
أة..
اللحم.. نعم اللحم .. آة يا ولد يا حسونة .. اللحم الهبر الذي كنت تقدمه لنا في
مسمط الحاجة فاطمة البدوية على أطراف حي العنتبلي بالمنصورة وأنت تضحك ضحكتك
الساذجة .. كانت الحاجة فاطمة في جلستها
تحت النصبة الخشب والمسدل عليها قماش الدمور الباهت وحولها صبيانها كانت ولا
الملكة زنوبيا في زمنها .. هكذا كانت تقول أمي عنها كلما حضرت سيرتها.. أرطال
اللحم التي كانت تحملها على بدنها لا أقل من وزن بقرة وجاموسة مجتمعتين معا داخل
جلبابها الأسود الموشى أطرافه بخيوط براقة.. بالكاد كانت تستطيع ان تقوم من مكانها
لتتفقد حال الصبية في الملحق الخلفي للمسمط وهم يقوموا بعملهم من تحضير الكوارع والفتة..
أة
..ها هو قد عاد إلي ألم الجوع مرة أخري ، والذي يعاودني كلما تذكرت تلك الأيام
البعيدة مع أني حاليا في حالة من الشبع المستمر والمضجر أحيانا .. بل يكاد يكون ما أنا فيه تخمة.. ولكني لا
أشبع أبدا من تلك السيرة ومن تلك الذكريات التي وإن كانت بعيدة وتأتيني كغلالة
ضاعت ملامحها ، إلا أنها عندي أغلى من كل واقع أحياه في الغربة وإن كانت ألوانة
جذابة و أخاذة كأنفجار الألعاب النارية .. ومع ذلك لم أفكر يوما في العودة إلا مرة
واحدة عندما علمت بمرض أبي ودنو أجله.. لتستقبلني في عودتي أبشع مفاجأة ممكن أن
يمنى بها رجل تجري في عروقة دماء حارة .. وقاموسه لا يخلو من كلمة وصمة عار وغدر وخيانة
.. ولكن ما كان في يدي غير تجرع الصدمة وبلع الأهانة.. فالقانون هنا لم يعطيني حتي
حق المواطنة ولا المطالبة بدمها أو حتى بأبني
الذي وضعتة في رحمها..
صبغتني الأيام هنا بصبغتها الجافة وحرمتني حتى
من مشاعري الأنسانية مع أن المدينة هنا في غاية الجمال والروعة والمتاح لكل من
أراد رؤية القصور والحدائق الغناءة بأسعار زهيدة .. فصدق من قال ليالي الأنس في
فينا .. ولكن كيف للجمال أن يمس قلب وروح من له ظروفي .. من يوم كنت أعمل في مصنع
السيارات صيفا لأوفر بعض المال للدراسة .. وأبيت في خيمة مع مجموعة من الشباب
الضائعين مثلي كالخراف الضعيفة أو الجرذان المزعورة .. فيهبط الصقيع فجرا على
أجسادنا المنهكة ..فتتصلب عروقنا وتنغلق أوردتنا وينقطع جريان الدم الذي هو بالفعل
ملكنا ويمنع من الوصول لأطرافنا ..فنقوم نصرخ .. ونضرب الأرض بأرجلنا عل دماؤنا
الباردة ..المتجمدة.. تعود لها ليونتها وسيولتها السابقة ونعود لسابق عهدنا جزوع خاوية
تروى بدماء ربنا ..
لكن
ما قطع أصبعي وبعده كل صلتي بالرحمة إلا بعد عملي في توزيع الجرائد فجرا أو الأصدق
قبل طلوعه بساعة.. فقدت الكبير منهم ..فعلى الكبير دوما أن يضحي ..هكذا تعلمنا منذ
الصغر وتعلمت معنا أعضاؤنا .. يوم دفنته دفنت معه قلبي ..ولم يعد شيء يهمني أو
يلفتني .
والآن
علي أن أصل إليهم قبل العاشرة كي أتفق معهم على كل الأجراءات اللازمة ، وكي يتبقى لي ساعتين أعود فيهما للبيت لأطمئن
عليها ..أقصد على جسدها البارد المسجى على السرير التي ماكانت تشبع من أهتزازاته
كل ليلة.. مسكينة لم تعرف من الحياة غير الطعام والمعاشرة ..آة .. لازلت أتحدث
عنها وكأنها على قيد الحياة مثلنا ..لم
أتعود بعد على روعة هذا الوضع الحالي من أنقطاع الصلة .. فقد كان حقا يكفي ..طبعا كان
يكفي ..عشر سنوات طويلة .. كئيبة ..كاحلة .. وأحيانا مرعبة كتلك الليلة التي
أخبرتني فيها بأنها إن حدث وزارها ملك الموت ستأخذني معها حيث أن لها قدرة خفية
على فعل هذا.. أو قد تجعلني أموت قبلها حتى لا تفتقدني ولو لثانية ثم تلحق هي بي
مع أن ما بيني وبينها أكثر من خمسة وعشرون سنة .. كانت خفيفة السنيورة ..كانت عندما
تقول هذا أتمنى أن أنقض على عنقها النحيف وأفصله عن جسدها .. كانت في تلك اللحظات تبدو لي كمشعوذة أو
مجنونة .. حقا كانت لابد مجنونة.. ولكن الحقيقة أنها ما كانت تتركني ابدا إلا بهذه
الصورة .. الموت فجأة .. وكأحلى مفاجأة حدثت لي منذ مدة ..أخي لم يصدق وأنا أصرخ في التليفون..
ـــ
أة والله جلوريا عملتها يا عادل ..حركة جدعنة منها ..
ـــ
......
ـــ
حوالي أثنين مليون فرنك ..
ـــ
.......
ــــ
أرجع فين يا عم .. أنسي..
ــــ
.......
ـــ حلوين .. كفاية ..
نعم
بالطبع كان كفاية ، مني ومنها ، فلولا أن خانتني الأولي وأستولت على كل مدخراتي
لما رضيت بملازمة تلك الهرمة .. قلت مقطوعة من شجرة وليس لها وريث غيري .. و كانت
طيبة ..وأحيانا كثيرة كانت حنونة.. وتحملت مني بعض طباعي الصعبة والشاذة .. فلم
يكن منها وقتها إلا البكاء..فأعايرها بلؤم شديد مغلف بأدب همجي ..
ـــ
عيب يا ماما ..كبرتي على كده يا حلوة..
وبصوت
خافت لا تسمعه غير نفسي الأمارة..
ــ
الذين مثلك بقى لهم سنيين في التربة ..
فتداري
عيناها بنظارتها السوداء لتخفي من التجاعيد العميقة ما ظهر منها ولم تخفه الكريمات
السحرية..
على
عتبة الباب كان هناك رجل في مثل عمري ومعه ولدان في عمر أبني المخطوف منذ خمسة عشر
عاما.. لابد أنه أصبح الأن شابا ..ومع ذلك لم يبحث عني ..أطابت له الحياة مع عشيق
أمه ..أم مات وترك لهم الدنيا لينعما فيها بأثمهما.
بعدما
أدخلتهما وأمام سريرها علمت أني أضعت العمر حارسا على مال هذا الذي أخفته عني وجاء
وولديه من المجر ليرثها.. وفي طريقي للخارج
حاملا ملابسي بعد رفضي الأنتظار لحضور الجنازة كان الصقيع يعاود مراودة قدمي مرة
أخرى .. وبين أصابعي يرعى ، محاولا أقتلاعهم عنوة .. ترى أي منهم هذه المرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق